يكشف ما جري في عقب ثورات العرب عن احتياج الإسلام إلي إعادة النظر في أصوله التأسيسية الكبري; علي النحو الذي يسمح لها باستعادة ما كان لها من رحابة وانفتاح, ليس فقط لكي تصبح قادرة علي التفاعل المنتج مع العصر, بل لكي تقدر- وهو الأهم- علي تحقيق ما يبدو أنها موضوعة من أجله. فإن هذه الأصول هي موضوعة- بحسب ما تكشف القراءة المتأنية للقرآن- من أجل أن تكون ساحات للتلاقي والتقارب بين البشر. وإذ يبدو- هكذا- أن القصد من الوضع الإلهي لتلك الأصول هو أن تكون ساحات تواصل بين البشر, فإن ما يثير الغرابة حقا هو أن الوضع الإنساني لهذه الأصول يحيلها إلي أدوات لترسيخ التفاوت والتمايز بينهم. ويظل مفهوم الشريعة هو النموذج الكاشف عن هذا التباين بين وضعين; أحدهما إلهي منفتح, والآخر إنساني منغلق. ولعل هذا الوضع المنغلق يرتبط بما خضع له هذا المفهوم من تحولات انتهت به إلي أن يصبح- منذ منتصف القرن الماضي- سلاحا سياسيا تحارب به جماعات الإسلام السياسي معركتها من أجل قلب الدولة القائمة, والإمساك بالسلطة بدلا منها. ولقد ارتبط هذا التحول لمفهوم الشريعة بتبلور ما يمكن القول إنه الإسلام الجهادي أو الانقلابي الذي غرس سيد قطب بذرته في التربة المصرية قبل ما يزيد علي النصف قرن. وقد تمثلت إستراتيجية تيارات هذا الإسلام الجهادي أو الانقلابي في تحويل الشريعة إلي سلاح سياسي- يحاربون به الدولة- في القول بالتطابق الكامل بين الشريعة والفقه; الذي كان القصد منه هو إضفاء قداسة الإلهي( الشريعة) علي المنتج الإنساني( الفقه). فإذا ركز هؤلاء الانقلابيون نقدهم للدولة القائمة في أنها دولة كافرة, لأنها لا تحكم بشرع الله, فإنهم قد اختزلوا هذا الشرع في مجرد النظام القانوني الموروث من الماضي; وهو الفقه الذي أنتجه البشر بالطبع. وبالطبع فإنهم كانوا- عبر اختزالهم لشرع الله في الفقه- يقصدون إلي إضفاء قداسة الشرع الإلهي علي الفقه الإنساني. ولعل الأمر لا يقف عند مجرد التمييز الذي يظهر في تمييز القرآن للفعل شرع بنسبته إلي الله وحده عن الفعل فقه المنسوب إلي الإنسان, بل يتجاوز إلي أن ما يقرره القرآن بالفعل شرع من الكليات التأسيسية هو شيء مغاير للتكاليف والأحكام المتقررة في الفقه. ولعل مثالا علي ذلك يأتي من التباين الظاهر بين التوجيه القرآني وبين الحكم الفقهي بخصوص قتل الأنفس. فإذ يحرم في القرآن قتل الأنفس علي العموم, ومن دون أي تمييز; وعلي النحو الذي جعل القرطبي يقرر أن تحريم القتل من كليات الدين المقررة بالفعل شرع, فإن الأحكام الفقهية قد راحت تمايز في الدماء بحسب الدين والمكانة الاجتماعية والنوع. فقد مضي التوجيه القرآني إلي تقرير المساواة الكاملة في الدماء بين بني البشر من دون أي تمييز بينهم; حيث يقتل الحر بالعبد, والمسلم بالذمي, واحتجوا بقوله تعالي:( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلي), فعم, وقوله:( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس). وقالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص; وهي حرمة الدم الثابتة علي التأبيد. فإن الذمي محقون الدم علي التأبيد, والمسلم كذلك, وكلاهما قد صار من أهل الإسلام. والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي, وهذا يدل علي أن مال الذمي قد ساوي مال المسلم, فدل علي مساواته لدمه, إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. وعلي العكس من هذا التوجيه القرآني إلي التسوية بين بني البشر في القصاص; فإن منظومة الفقه قد سارت في اتجاه تثبيت التمييز; وبما يعنيه ذلك من أن ما يقرره القرآن بالفعل شرع من تحريم قتل النفوس هو أمر مغاير لما تقرره أحكام الفقه; التي تقطع بأن الجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد, وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم علي أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس, كانت النفوس أحري بذلك, ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض... إذا كان حفظ النفوس هو من قبيل المبدأ التأسيسي الكلي, فإنه لا يمكن قياسه علي ما دون النفوس الذي يمكن أن يكون مجالا للتمييز وعدم المساواة; وبمعني أن التمييز بين الحر والعبد في ما دون النفوس, كالمال والملكية وغيرها من الأمور ذات الطابع الإجرائي, لا يمكن أن يكون أصلا للتمييز في النفوس. ويرتبط ذلك بأن ما يخص حفظ النفوس هو من الكلي التأسيسي الذي لا يمكن أبدا أن يقاس علي ما دونه مما يتعلق بأمور المال والملك وغيرها من الأمور الجزئية الإجرائية. وفيما يخص حرمة الدماء التي تؤسس للقصاص, فإن المرء يلحظ أن منظومة الفقه قد راحت تؤسس التمييز في الدماء علي السنة أو الإجماع, وذلك فيما كانت التسوية في الدماء تؤسس نفسها, بالكامل, علي ما ينتمي إلي القرآن. فقد قال المالكية- بحسب الجزيري في( الفقه علي المذاهب الأربعة)- يقتل الأدني صفة بالأعلي, كذمي قتل مسلما, أو كحر كتابي يقتل بعبد مسلم, لأن الإسلام أعلي من الحرية. ولا يقتل الأعلي بالأدني, كمسلم بكافر, وكمسلم رقيق بحر كتابي....واحتجوا علي مذهبهم بما روي من حديث الإمام علي كرم الله وجهه, أنه سأله قيس بن عبادة والأشقر: هل عهد إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم عهدا لم يعهده إلي الناس؟ قال: لا, إلا ما في كتابي هذا, وأخرج كتابا من قراب سيفه, فإذا فيه( المؤمنون تتكافأ دماؤهم, ويسعي بذمتهم أدناهم, وهم يد علي من سواهم, ولا يقتل مؤمن بكافر.... واحتجوا علي مذهبهم أيضا بإجماع العلماء. وإذن فإنه الاحتجاج من الحديث والإجماع علي ما يؤسس للتمييز وعدم المساواة في الدماء. وحتي إذا جري الاحتجاج بأن القرآن نفسه ينطوي علي التمييز بين الحر والعبد, فإن الرد علي ذلك يكون بالتأكيد علي أن القرآن لم يكن هو الذي وضع هذا التمييز, بل إنه كان وضعا قائما وجد القرآن نفسه في مواجهته, وكان عليه أن يتعامل معه بما يؤدي إلي رفعه في نهاية المطاف. وهكذا فإنه قد وضع جملة أحكام وتحديدات إجرائية ليس فقط لتنظيم الوضع القائم, بل وتنطوي علي السعي إلي تجاوزه ورفعه; وبما يعنيه ذلك من أنها ليست أحكاما نهائية ومطلقة أراد لها القرآن أن تدوم وتستمر. بل إنها مشروطة, ليس فقط بوقتها, بل وبقدرتها علي تحقيق المبدأ الكلي التأسيسي الأسمي; الذي هو المساواة بين البشر جميعا. لمزيد من مقالات د.على مبروك