مع اهتزاز مبنى نقابة الصحفيين بفعل الغدر الوقح على القنصلية الإيطالية ، سافرت أفكاري إلى تذكارات الكبار الذين مثلونا كقادة أو نقباء لهذه المهنة الشرسة . تأتي إلى الذاكرة صور عديد منهم.و كان مرور بعضهم على منصب النقيب كمرور طيف غير مؤثر في سنوات التحول إلى العدل الإجتماعي ؛ وإختلف الحال في سنوات التحول عن العدل إلى رأسمالية المحاسيب ، جاء لنا نقباء في قيمة وقامة عالية ، أقربهم الآن إلى خيالي هو كامل زهيري هذا المتوهج بأمانة مع النفس ومع فنون صناعة الرأي ، فتحولت النقابة إلى بيت للدفاع عن الحرية المسئولة لا فوضى السداح مداح ، ولم يكن كامل زهيري نقيبا حين حاول السادات تغليف مصر بكل ما فيها لموجات إنسجامه مع توجهات الولاياتالمتحدة فزأر كامل زهيري ليجعل النقابة بيتا لرفض التبعية، فيحاول السادات تحويلها إلى ناد إجتماعي ، فيفشل إلى أن تأتيه رصاصة الاغتيال ممن تحالف معهم في بدايات حكمه ، ورسموا له النهاية في يوم العيد المصري بإنتصار أكتوبر الجليل . ولا أنسى أنا كاتب هذه السطور أن البناء الجديد الراقي للنقابة جاء كهدية من القوات المسلحة ، وكان سلم النقابة هو بيت المناداة بحرية الوطن ، وكانت موهبة مكرم محمد أحمد كنقيب بارزة جلية في أمرين ، أولهما حماية الصحفيين من كل هجمة مجنونة من السلطة ضد فرسان صناعة الرأي ، كما كان التفاته الجاد لأهمية تطوير الصحفي لقدراته في اللحاق بأدوات العصر ، فجاءت دورات تعلم التواصل عبر الكمبيوتر والإنترنت ، فضلا عن دورات اتقان اللغات ، وفوق كل ذلك ، محاولة زيادة دخل الصحفي عبر البند الذي طالبت به النقابة من مجلس الشورى ، ألا وهو بدل التكنولوجيا . وإذا كان النقيب الحالي يفخر بالإنتماء إلى مدرسة كامل زهيري إبن مدرسة الهواء الطلق المسماة روز اليوسف ، فهو أيضا كان القارئ لكف الوطن ، حين حذرنا جميعا من صعود نجم فيلسوف صناعة الاستعمار عن بعد وهو هنري كيسنجر، وقد قدم كامل زهيري حقيقة هذا الرجل عام 1957 على صفحات روز اليوسف؛ وتشرب أستاذنا كامل زهيري من عمق عشق الحياة في مناخ رحب يتنفس فيه اجواء ثقافة احمد بهاء الدين بعمق رؤيته للتاريخ وأهمية أن تكون عربيا ، وأحب صلاح جاهين الذي نافسه في عشق القاهرة ، وتفوق كامل زهيري علي إبن جاهين حين حفظت أقدامه كل شبر من تاريخ المدينة الخالدة ، وبعد أن عاد من باريس التي أحبها من دارس سابق للقانون والفنون هو توفيق الحكيم ؛ وتشرب بأفكار التطور التدريجي للوصول إلى العدالة الإجتماعية دون إراقة لدماء ، وفوق كل ذلك عشق الأوبرا وفنونها مع تذوق عارم للشعر تجسد في صحبته لساعات مع صلاح عبد الصبور الذي نافس العم كامل في مهنة ز القارئ المحترف والكاتب الهاوي ز . وعاش بصحبة كل من سيف وانلي الرسام المصور السكندري الذي أحبه كما احب محمود سعيد المصور العظيم ورجل القانون ، وصحب فتحي غانم في مناقشات مبهرة عن أهمية نزول أبناء القاهرة للقرى ، وتنافس كلاهما في بعث الصحفيين الشباب بروز اليوسف وصباح الخير إلى محافظات وقرى مصر من أقصاها إلى أقصاها ، وتعرف بعشق عارم لتماثيل الفنان كمال خليفة والمثال آدم حنين . وعندما دنست أقدام هنري كسينجر أرض المحروسة حين وضع السادات في يده 99 بالمائة من مستقبل منطقتنا جاء تواصل النقيب كامل زهيري مع أستاذ أساتذة مهنتنا الجليل محمد حسنين هيكل ، الذي آثر الابتعاد عن مسرح إبداء الرأي للسادات حسبما أراد السادات بإبعاده عن قيادة الأهرام وتفرغ لتأليف الكتب كشهادة على عصر كامل. وركز كامل زهيري قلمه ووعيه دفاعا عن النيل الذي تطمع فيه إسرائيل جريا وراء حلم إيصال مياه النيل إليها . وشارك كامل أبناء الجيل الجديد مثل الدمث المحترف للأمانة مع النفس صلاح الدين حافظ ، هذا الذي راوده مبارك كثيرا بمناصب القمة الصحفية فآثر أن يظل كاتبا يحذر ويرفض السير في قطيع الثرثرة التي توسع المسافة بيننا وبين التقدم ببلدنا . وعندما يقول يحيى قلاش أنه ينتمي إلى تلك المدرسة من الفكر الراقي ، فقد كنت أتمنى أن ينظر إلى المهنة التي تحتاج إلى تطوير وإعادة تدريب لأغلب كوادرها ، سواء من الجيل الشاب أو جيل الوسط ، فهو من شاهد ورأى وعانى من قيادات كانت تفرض الرضوخ وتقبل دور الببغاوات في سوق ّ رزع أربع مقالات يوميا ز كما قال مبارك عن أحدهم . كنت أتوقع ألا يثور يحيى قلاش ومجلسه فقط على مادة حبس الصحفي في أي أمر مهما كان ، وهي ثورة في محلها ، ولكن كان عليه أن يكون لجانا قانونية لتضع إطارات لكل العمل الإعلامي ، وأن ينشئ شعبة في النقابة للإعلاميين ، وأن يعمل على إصدار قانون يلزم القنوات الفضائية بتعيين من يعملون بها ويصدر لهم تصريح من النقابة بذلك ، وأن ينشئ مكتبا لحماية شباب الصحفيين من العمل في ز سخرة صحفية ز لإصدار صحف لا نعرف مصادر تمويلها ، وأن ننشىء مكتبا للرقابة الذاتية على جودة الأداء الصحفي ، وأن ننظم دورات تدريبية لكل الأجيال ، فنحن في عصر يفاجئنا بمن يدعون الانتماء لمهنتنا ويملكون وقاحة وشراسة الحديث كخبراء في مجالات شتى ولم يسبق لنا أن تعرفنا على إبداعهم فيما يتحدثون ويكتبون فيه . إن كل مهنة في عالمنا تحتاج إلى خبرة ودربة ، تماما كما يحتاج معظم محرري المواقع الإخبارية إلى فن التدقيق فيما يحررون من أخبار . كنت أتمنى أن يسبق مجلس نقابتنا إلى عقد جلسات استماع عن تشكيل هيئات الإعلام المقترحة بالدستور وأن نقدم للدولة المقترحات التي تعزز من احترامنا للدستور ، فنحن من يصون عقل الأمة ولا يسمح أن يوجد بيننا من يقوم بغسل دماغ الجموع بأخبار كاذبة أو بتفسيرات ضد مستقبل هذا الوطن، لأننا نعرف _ ونتجاهل _ بعض المواقع التي تعمل بتمويل مشبوه وتحترف إغراقنا في حيرة من أمرنا بصياغات تفتقد الدقة مع الأمانة في آن واحد . باختصار : كانت مبادرة تعديل المادة التي تنص على حبس الصحفي ولقاء رؤساء التحرير ومجلس النقابة برئيس الوزراء ووزير العدل ، كانت _ ومازالت _ تلك المبادرة في حاجة لمتابعتها بإقتراح تطوير للمهنة وأساليب الأداء بها ، فكلنا يعلم حجم التخلف ، وكلنا يلمس عدم وضوح مستقبل من يمتهن مهنة صياغة وصناعة الرأي . وأظن أن التفجير الذي حدث أمام القنصلية الإيطالية ووصلت آثاره لزجاج مبنى نقابة الصحفيين ، هو تنبيه لنا لإنقاذ المهنة من صناع الضجيج ، وتعليم الأجيال الشابة أهم فنون ما تعلمناه من أساتذة لنا ونقباء في حجم كامل زهيري ، ألا وهو فن الأمانة مع النفس والوطن . لمزيد من مقالات منير عامر