فيما أطلق عليه «هدية السيسي في رمضان»، صدر عقو رئاسي عن 165 متظاهرا في 17 يونيو من هذا العام (2015)، وقد وضع شرط لهذا الإفراج بأن يكون وجودهم في السجن بسبب خرق قانون التظاهر فقط، ولم تتصمن قائمة المفرج عنهم أيا من النشطاء السياسيين المعروفين بمواقفهم المعارضة، ومع تحفظي علي إطلاق بعض الإعلاميين تعبير «هدية السيسي» علي عملية الإفراج هذه، حيث إن الحرية لا تمنح أو تهدي من قبل أي شخص مهما علت منزلته ومكانته في الدولة والحكم، وإنما هي مثلها مثل الاعتقال مقيدة بضوابط قانونية، خاصة إن كانت مرتبطة بقانون محل جدل كبير مثل قانون التظاهر المعرض للتغيير أو الإلغاء مع وجود أول برلمان منتخب قادم، إلا أن ما يسترعي الانتباه هو محاولة استغلال هذا الحدث بصورة دعائية مزرية، حيث قام أحد رجال الشرطة بوضع تصور للحالة التي ينبغي أن يظهر بها الشخص الذي يتم الإفراج عنه، وهو أن يسجد مقبلا الأرض كنوع من التعبير عن فرحته بالحرية، وبإيحاء تفرضه الصورة عن توبته عن القيام بعمل كهذا مرة أخري، لكن حدث ما أتلف هذا المشهد بفضل هذه »الكاميرات« اللعينة التي أصبحت تملأ الجيوب في صورة هواتف محمولة، والتي جعلت كل شيء تقريبا عرضه للتصوير، إذ تسرب أحد هذه الهواتف المصورة من جيب صاحبه ليقوم بتصوير لا المشهد فحسب، ولكن عملية تصويره نفسها، فظهر الشرطي وهو يوجه المفرج عنه لما ينبغي عليه أن يقوم بفعله، ويعطي تعليماته للمصور الصحفي بأن يكونوا جميعهم (أي الشرطي ومساعدوه خارج نطاق الصور)، وبعد أن تم التصوير للمرة الأولي، طلب المصور الصحفي إعادة تصوير المشهد كي يصور المفرج عنه من زاوية سفلية، وفي لقطة أكبر وهو يقبل الأرض، فتمت الاستجابة لطلبه وأعيد تصوير المشهد، وبعدها انطلق المفرج عنه إلي سيارة (ميكروباص) تأخذه بعيدا عن بوابة السجن، وبالطبع فلقد تسرب هذا المشهد إلي مواقع التواصل الاجتماعي التي تداولت هذه الفضيحة، مما أدي إلي إعلان وزارة الداخلية عن قيامها بالتحقيق في هذه الواقعة، لكن ما يسترعي الانتباه أن المتهمين الأولين فيها لن يخضعا للتحقيق رغم أنهما من وجهة نظري المساهمان الأساسيان في حدوثها، وهما الشخص المفرج عنه الذي اعتقل باعتباره ناشطا سياسيا يخترق قانون التظاهر حسب التهمة الموجهة إليه، إذ كيف لشخص كهذا أن يقبل الامتثال لشرطي ويوافق علي أن يقوم بتمثيل هذا الدور الهزلي المهين، رغم وجود قرار رئاسي بالإفراج عنه؟! أما المساهم الثاني في هذه الواقعة فهو المصور الصحفي الذي قام بتصوير هذا المشهد المشين، والذي ينبغي أن يحال إلي مجلس تأديب من نقابة الصحفيين حفاظا علي كرامة المهنة التي ينتمي إليها ومصداقيتها، أما ضابط الشرطة الذي يقام بإخراج هذا العمل والإشراف علي تنفيذه، فلقد قدم نموذجا لما يطلق عليه «الرسالة التي تستحق الازدراء». ولفت نظرنا بقوة إلي ذلك التأثير المشوه للصورة في حياتنا، خاصة أن الكثير منها يمر أمام أعيننا وتحت سمعنا وبصرنا دون أن نولي ذلك اهتماما، بل ونتعامل معها كصور عادية من بين الكثير من المواد التي تحفل بها وسائل الاتصال الجماهيري دون أن ننتبه إلي أن دلالات الصور تتجاوز كثيرا مظهرها الذي يعتبره البعض بريئا أو طبيعيا، وكمثال لذلك نشرت مجلة :«باري ماتش» الفرنسية في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وعقب طرد الرئيس السادات الخبراء السوفيت من مصر، ووضعت عنوانا علي غلافها «السادات غاضب»، أما الملف الخاص بهذا العنوان في الصفحات الداحلية فاحتوي علي سطور قليلة عن غضب السادات من السوفيت وإبعاده خبراءهم الموجودين بالجيش المصري، مع مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تقدم رسائلا كاشفة وجارحة خلالها، فتظهر إحداها الرئيس السادات وهو يجلس علي شاطئ البحر في استراحته بالإسكندرية بينما تقدم له زوجته السيدة جيهان قطعة من تورتة كبيرة مكونة من ثلاثة طوابق كي يتناولها مع فنجان من الشاي، وكتب تحت الصورة تعليق «البورجوازية المصرية»، والمعني البالغ الوضوح الذي تنم عنه الصورة هو سفاهة هذه الطبقة في مصر وإسرافها، كما تظهر صور أخري في الملف نفسه الرئيس السادات وهو يتقدم تجاه الشاطئ مرتديا لباس البحر وهو يضع علي رأسه قبعة تقيه من الشمس ويسير خلفه أربعة من حرسه الخاص، ثم صور تظهره وهو يسبح والحراس الأربعة يسبحون حوله لحمايته، وبالطبع فالحماية هنا ليست من أسماك القرش التي لا توجد علي شواطئ الإسكندرية، لكنها تعكس عمق قلقه الشخصي علي حياته. ولقد أدي ولع الرئيس السادات الشخصي بالتصوير إلي أن يصبح مادة للرسائل المستترة الكثيرة التي تبثها الصور، فعندما أعلن عن مبادرته لزيارة القدس في نهاية شهر أكتوبر عام 1977، وقبل أن يقوم بها في 19 نوفمبر من العام نفسه، قدمت مجلة »تايم« الأمريكية مقارنة بين مجموعة صور للسادات، ومجموعة من الصور لمناحيم بيجين رئيس وزراء إسرائيل وقتها، كانت صور السادات جميعها له وحيدا في عباءته وغليونه في قريته الأثيرة »ميت أبو الكوم«، ويبدو فيها كما لو كان في حالة تفكير أو تأمل، بينما كانت صور بيجين جميعها وسط مستشاريه ومساعديه ووزرائه، وكانت الرسالة الواضحة هي فردية القرار المصري أمام جماعية القرار الإسرائيلي، وأن قرارات السادات فردية غير محسوبة أبعادها، علي عكس القرارات الإسرائيلية، وهو ما بدا واضحا بعد ذلك حيث استقال إسماعيل فهمي وزير الخارجية المصرية عندما فوجئ بقرار السادات الذي لم يستشر فيه، وكذلك محمد رياض الذي استقال من منصب وزير الخارجية بمجرد تعيينه، ثم تلت ذلك استقالة محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية في أثناء مفاوضات »كامب ديفيد« وعودته إلي القاهرة، إلي آخر الأحداث التي تلت ذلك، ولعل رسالة مجلة »تايم« التي بثت من خلال هذه الصور كانت نذيرا بذلك. وعلي أي حال فإن ميلنا الطبيعي في ثقافتنا العربية إلي تفضيل الكلمة علي الصورة، واعتبار اللغة سلاح العرب البتار، يرجع إلي رذيلة تاريخية لسنا في محل نقاشها لتزوير الحقائق إلي الدرجة التي أعلن معها أحد وزراء الإعلام التلاعب بالكلمات بأنه لو كان وزيرا للإعلام في يونيو عام 1967 لما حدثت الهزيمة (بالكذب ومداراة الحقيقة بالطبع)، بينما تقدم الصور الحقيقة وتتم قراءة الكثير من المعاني والدلالات من خلالها، وعلي نحو ما فإنه بدءا من تقاليد المديح والفخر في الشعر العربي، التي لا تفرق كثيرا بين الفخر و »الفشر«، كان ينهي مثلا عمرو بن كلثوم (المتوفي عام 584م تقريبا) المعلقة الخامسة المنسوبة إليه التي تعد من فرائد الشعر الجاهلي قائلا: ملأنا البر حتي ضاق عنا وظهر البحر نملؤه سفينا إذا بلغ الفطام لناصبي تخر له الجبابر ساجدينا وحتي كلمات مذيع »صوت العرب« الشهير أحمد سعيد المليئة بالفخر والمباهاة والحماس الكاذب، رغم ثقل هزيمة 5 يونيو عام 1967 الفادحة، التي كان لابد أن يختفي صوته مع إعلانها، وكذلك وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف الذي كان يتحدث عن الانتصارات الساحقة للجيش العراقي متوعدا (العلوج) الأمريكيين بالإبادة، بنيما كان الجنود الأمريكيون يحتلون بغداد في 9 أبريل عام 2003(؟!) وقد أدي تدفق الصور في وسائل الاتصال الجماهيري، وقوة تأثيره الذي أصبح يتجاوز قوة الكلمة نفسها، إلي محاولات عبثية لتزويرها، وهي محاولات قديمة قدم ظهور التصوير الفوتوغرافي نفسه، وترجع إلي منتصف القرن التاسع عشر وكانت تعتمد في بدايته اعلي قص الصور ولصقها (كولاج)، ثم إعادة تصويرها من جديد، وأخذت محاولات التزوير هذه في التطور حتي وصلت إلي ذروتها مع ظهور التصوير الرقمي (الديجيتال)، حيث أصبح من الممكن وبسهولة شديدة العثور علي برامج (الفوتوشوب) واستخدامها في تزوير الصور علي شبكة (النت) العملاقة في عدد من براجها، ولكن وفي الوقت نفسه ظهرت برامج علي الشبكة نفسها لكشف التزوير في الصور، وأصبحت متاحة هي الأخري لمن يريد استخدامها. ولم ينج العالم كبه شرقه وغرب وشماله وجنوبه من عمليات تزوير الصور، بل إن بعضها يتم طلبه من الرؤساء أنفسهم، ففي صيف عام 2008 نشرت صورة للرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي وهو يجدف في قارب بصحبة ابنه، وبدا من الصورة ترهلا واضحا في بطنه، فطلب تعديل الصورة لإزالة الترهل، فتمت إزالته وعاد بطنه مشدودا (فوتوغرافيا) بالطبع لا جراحيا، كما قام البيت الأبيض بتعديل صورة للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ظهرت علي أحد مواقع الإنترنت، وكانت الصورة له في إحدي المدارس وهو يقرأ في كتاب للأطفال بجوار تلميذه صغيرة، أما ما اضطر البيت الأبيض للتدخل بتعديل الصورة فهو أن السيد الرئيس كان يحمل الكتاب بالمقلوب. ومن عمليات تزوير الصور الشهيرة في مصر، حذف صورة الفريق سعد الدين الشاذلي من غرفة العمليات في أثناء حرب أكتوبر عام 1973 لخلافاته السياسية مع الرئيس السادات ومبارك فيما بعد الحرب، وكذلك تعديل صورة الرئيس الأسبق مبارك وإحلال صورته محل صورة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وجعل مبارك يتقدم جميع المشاركين في المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في شهر سبتمبر عام 2010 بواشنطن، ولقد قدم الأستاذ أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام وقتها أغرب تعبير يمكن إطلاقه علي صورة مزورة، وهو «إنها صورة تعبيرية» علي حد قوله. ولعلنا نذكر العدد الكبير من المصورين الذين لقوا حتفهم في أثناء الحرب العالمية الثانية، وخلال ثورات وحروب مختلفة هنا وهناك في مختلف أنحاء العالم، والحال نفسه لدينا خلال السنوات الأخيرة، حيث رصد الاتحاد العام للصحفيين العرب استشهاد تسعة مصورين في مصر خلال الفترة من 28 يناير عام 2011 وحتي 28 مارس 2014، وسقطوا جميعهم بأيد آثمة مازال أصحابها طلقاء حتي اليوم رغم البلاغات المتعددة التي قدمت إلي النائب العام، وقد نشر الاتحاد القائمة تحت عنوان «شهداء الواجب في مصر» وهم: أحمد محمود (جريدة الأهرام) 28 يناير 2011، والحسيني أبو ضيف (جريدة الفجر) ديسمبر 2013، وصلاح الدين حسين (شعب مصر) 27 يونيو 2013، وأحمد عاصم (الحرية والعدالة) 8 يوليو 2013، وأحمد عبدالجواد (الأخبار) خلال فض اعتصام رابعة، وحبيبة عبدالعزيز (مراسلة إكسبريس الإمارات)، ومصعب الشامي (شبكة رصد)، تامر عبدالرءوف (الأهرام) 28 أغسطس 2013، وميادة أشرف (الدستور) 28 مارس 2014،. يقول الكاتب العظيم المقاوم ضد الفاشية تولت بريشت (الشهير ببريخت عندنا): الحقيقة أمر حربي.. إنها لا تحارب ضد الكذب فحسب.. بل وتحارب كل من ينشره؟. ولأن الصورة تقدم الحقيقة فستظل دائما في المواجهة فاضحة للكذب، ومشهرة بكل من ينشره.. فهل بعد الصورة ذنب؟ نعم.. الكفر بالحقيقة وإنكارها.