يدور فى الآونة الحالية الحديث عن عزم الحكومة على انشاء وزارتين جديدتين احداهما للصناعات الصغيرة وأخرى للهجرة وشئون المصريين بالخارج، وهو مايدفعنا للتساؤل عن معايير تكوين الوزارات فى مصر. وبعبارة اخرى الى اى مدى يأتى إنشاء وزارة تعبيرا عن حاجة مجتمعية أساسية ويعكس رؤية او فلسفة تنموية معينة؟ وهنا تجدر بنا الاشارة الى ان الحكومة المصرية الحالية تعد من أكبر حكومات العالم حجما حيث يصل عددها الى 36 وزيرا وهى الأكثر عددا فى تاريخ الوزارات المصرية منذ نشأتها. واصبح الهيكل الادارى للدولة يتكون من 36 وزارة و29 محافظة ونحو 86 هيئة خدمية و51 هيئة اقتصادية بالإضافة الى مجموعة كبيرة من الشركات العامة وشركات قطاع الاعمال والشركات القابضة النوعية، وهكذا فالوزير الواحد يتبعه عدد من الهيئات الخدمية ومجموعة من الهيئات الاقتصادية وبعض الشركات العامة، وربما المشتركة، فعلى سبيل المثال فان وزارة النقل تخضع لها مديريات الطرق بالمحافظات وهيئة النقل البرى والنقل البحرى وهيئة السكك الحديدية ومترو الانفاق وغيرهم، ووزارة الاستثمار تتبعها هيئة الاستثمار وهيئة الرقابة المالية و9 شركات قابضة وهى تتبعها 142شركة تابعة كل منها لها قوانين وآليات منظمة للعمل بها تختلف فيما بعضها البعض بل وتتعارض احيانا، ووزارة الثقافة يتبعها نحو 21 جهة وجهازا فضلا عن وزارة الاسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية التى يتبعها نحو 38 جهة وهيئة بالإضافة الى شركة المقاولون العرب، وهكذا فكل وزير منوط به الاشراف على عدد لأباس به من هذه الكيانات، الامر الذى يجعله يقضى معظم الوقت فى الاعمال الادارية والروتينية ولايلتفت كثيرا لصنع السياسات العامة فى وزارته. وهنا يصبح التساؤل هل بالوزارة وحدها تحل المشكلات؟ وهل هناك حجم أمثل للحكومة؟ وما هى معايير تحديد هذا الحجم؟ ان ما يدفعنا لهذه التساؤلات هو المنهج الحكومى المتبع حاليا حيث انها تقوم بإنشاء وزارة كلما برزت على السطح مشكلة ما، رغم وجود جهات معنية بهذه المشكلة ولذلك تم انشاء وزارة للعشوائيات والتطوير الحضارى رغم وجود صندوق لتطوير العشوائيات، ووزارة للسكان رغم وجود المجلس القومى للسكان والمجلس القومى للطفولة والامومة وثالثة للبيئة رغم وجود جهاز حماية البيئة. وغيرهم. فكلما ظهرت مشكلة تم البحث مباشرة عن تكوين وزارة للتصدى لها، وهو منهج خاطئ تماما، ويؤدى الى نتائج عكسية تماما ويعكس الفلسفة التنموية القديمة التى كانت سائدة بالبلاد خلال الحقب الماضية حيث قامت الدولة لعقود طويلة بدور الفاعل الأساسي - والوحيد أحياناً - فى المجتمع، وظلت ولمدى طويل، المقدم الأساسى للخدمات والسلع والمسئول الأول بالتبعية عن التوظيف. وتوسعت فى التقسيمات الحكومية لتضم بجانب السلطات المركزية والمحلية هيئات عامة (خدمية واقتصادية) تقدم من خلالها الخدمات للجمهور، ولهذا تضخم حجم الجهاز الإدارى للدولة بصورة كبيرة خلال الفترة السابقة الامر الذى ادى الى التوسع فى الهياكل التنظيمية واستحداث العديد من التقسيمات والمستويات الوظيفية دون الحاجة إليها مما أدى الى تضخمه ومركزيته الشديدة وتعدد الإجراءات، والاهم من ذلك المزيد من الاعباء على الموازنة العامة للدولة نتيجة لتشكيل هذه الوزارات الجديدة وما يتبعها من نفقات تشغيل وغيرها، هذا فضلا عن تدنى مستوى الخدمات العامة وارتفاع تكلفتها، من حيث الوقت المستغرق فى إنجازها أو الأعباء المالية الإضافية، خاصة مع طول وتعقد الإجراءات والتداخل بين المهام والمسئوليات وكلها أمور أدت الى عدم رضاء المواطنين عن نوعية وأسلوب تقديم هذه الخدمات.بالاضافة الى ألإسراف فى الاعتماد على القوانين والقرارات السيادية فى تنظيم الأعمال وفرضت سلسلة من القوانين والقرارات والإجراءات التى لم تحقق سرعة الأداء وأرست مجموعة من التشابكات بين أنشطة الوزارات والأجهزة، وغالت فى طلب الضمانات المسبقة لإثبات النوايا الحسنة للمتعاملين مع الجهاز الحكومى. وغلبة المفاهيم القانونية الشكلية والإجرائية على نظم الخدمة المدنية والوظائف العمومية مما اعاق من إمكانايات الاستفادة بطاقات الموارد البشرية، ورغم التطور الهائل الذى حدث فى نظم إدارة الموارد البشرية فى العالم إلا أن هذه النظم بقيت فى مصر أسيرة للفكر والمفاهيم الجامدة لإدارة شئون الأفراد التى تعتمد على النصوص واللوائح، وتوحد تطبيقها عبر منظمات الجهاز الحكومى المركزى والمحلى. كل هذه الأمور وغيرها توضح لنا بما لا يدع مجالا للشك مدى خطورة وتداعيات هذا المنهج السائد حاليا خاصة وان آثارها لا تتوقف على الصعيد الاقتصادى فحسب، بل تمتد لتشمل كافة جوانب المجتمع سياسيا واجتماعيا وحضاريا وتحتاج هذه المسألة إلى مناقشة وبالتالى وضع الحلول المناسبة لها. حيث إن الوضع المؤسسى الحاكم لصنع السياسة فى مصر، معقد للغاية ويُعانى الازدواجية وأحياناً التناقض بين القوانين وبعضها البعض. كما أن التشكيل الوزاري، بوضعه الحالي، كبير ومنقسم بشدة، بصورة لا تمكنه من تحقيق الأهداف المنوطة به، وخير دليل على ذلك أن قطاع الطاقة مقسم بين وزارتى البترول والكهرباء وكذلك التجارة موزّعة بين تجارة داخلية وأخرى خارجية، وينطبق القول نفسه على التعليم الذى ينقسم بدوره إلى وزارات عديدة هى التعليم والتعليم العالى والتعليم الفنى والازهرى. إلخ، وكلها امور تؤدى الى تشتت القرار وغياب الرؤية الصحيحة للمشكلات الراهنة وتعوق الجهاز الادارى عن تحقيق الأهداف المنوطة منه ومن ثم فان أى جهود تبذل لتطوير هذا الجهاز تنعكس بالإيجاب مباشرة على أوضاع المواطنين والمجتمع ككل. من هذا المُنطلق، نقترح ضرورة النظر فى تخفيض عدد الوزارات الحالية، بحيث يتراوح بين 20 و25 وزارة على الاكثر على ان يتم الاعتماد على الاليات الاخرى مثل الهيئات العامة الاقتصادية والخدمية والمجالس العليا، ومنحها السلطات اللازمة لأداء المهام المنوطة منه ، فمثلا يمكن الاستغناء عن وزارة الاستثمار والاعتماد على هيئة الاستثمار كبديل مع نقل شركات قطاع الاعمال الى وزارة الصناعة التى بدورها عليها ان تتخلص من عبء التجارة لتنشأ وزارة موحدة للتجارة الداخلية والخارجية معا، وتترك المشروعات الصغيرة للصندوق الاجتماعى الموكلة اليه هذه المهمة اصلا، كما ينبغى التفكير فى دمج بعض الوزارات مع أخرى حيث نقترح ضم وزارة التعاون الدولى إلى الخارجية وكذلك ضم وزارتى الثقافة والاثار، ويتم تجميع وزارات التربية والتعليم والتعليم الفنى والتعليم العالى فى وزارة واحدة للتعليم، خاصة فى ظل وجود المجلس الاعلى للجامعات المنوط به تنظيم المسائل الإجرائية المتعلقة بالتعليم العالى وغيرها من الاجراءات التى يمكن ان تساعد فى تحسين آليات صنع القرار بالمجتمع، والأُطُر المؤسسية المنظمة له، وبالتالى تعزيز المشاركة فى كيفية إدارة البلاد، وإخضاع الحكومة للمساءلة والمحاسبة. وبعبارة اخرى فالأمر لا يقتصر على مجرد إنشاء وزارة معينة لمشكلة محددة واجراء بعض التحسينات فى مؤسسات الدولة، رغم أهميتها وضرورتها، ولكن الامور اعقد من ذلك اذ ان الخبرة المصرية توضح لنا ان جميع عمليات الاصلاح التى تمت من قبل قد اتسمت بالجزئية وعدم الاستمرارية والتغيير المستمر، وبالتالى من الضرورى وضع تصور شامل للإصلاح يأخذ بعين الاعتبار هذه الأمور جميعا. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي