اعتاد المواطن "عبد الصبور" أن يحمل هذا الملف الضخم المتخم بالأوراق الحكومية والمكاتبات الرسمية المكتوبة على الآلة الكاتبة والمزينة برقم "الساركي" التى اصفر بعضها وتآكل البعض الآخر وازدحم معظمها بتأشيرات السادة المسئولين بدءا من إمضاء "اثنين من الموظفين" وحتى ختم مكتب السيد الوزير وتأشيرته الكريمة. أما سر ملف "عبد الصبور" وضخامته التى تزداد يوما بعد يوم، مثلها مثل همومه، فيعود إلى تعدد الجهات الحكومية المعنية بهذا الملف، فعلى الرغم من انه مشروع صغير فى قرية صغيرة إلا أن موظف الوحدة المحلية طلب تأشيرة من الحى والحى أرسله إلى المحافظة والمحافظة أصرت على موافقة وكيل الوزارة ووكيل الوزارة أكد أنه من اختصاص وزارة أخرى. هذه القصة الخيالية لعبد الصبور هى ملخص لدورة حياة الورق الرسمى الذى قد يحتاجه المواطن من جهة حكومية وهى ملخص آخر لحجم التداخل فى الجهاز الادراى للدولة وتضارب الاختصاصات والقرارات بين عدد من الجهات. فمن المتعارف أن "يوم الحكومة بسنة".. وهو تعبير يصف بدقة حال دولاب العمل فى أروقة الجهاز الحكومى للدولة من وزارات وهيئات وأجهزة.. وإذا كان لهذا الوضع تأثير سلبى على إنجاز وإتمام المعاملات اليومية الروتينية، فإن تبعاته "كارثية" عندما يتعلق الأمر بتنفيذ مشروعات كبرى يدخل فى تنفيذها أكثر من وزارة، وفى ظل غياب التنسيق والتعاون بين كل الجهات المعنية، يكون مآل تلك الخطط والمشروعات أدراج وارفف دواوين الحكومة، وتتفرق المسئولية ما بين مجلس أعلى وجهاز مركزى وهيئة قومية، ولك الله يا مصر. فى هذا الملف حاول "الأهرام" التعرف على أسباب غياب التنسيق بين الوزارات والأجهزة الحكومية و طرق علاج هذا الخلل وفض الاشتباك فيما بينها، خاصة فى ظل مرحلة جديدة فى مصر، لن نستطيع فيها بناء الوطن دون التعلم من أخطاء الماضى وتجنبها. هنا نعرض نماذج حية على لسان أطرافها تظهر المشكلة التى نطرحها فى هذا الملف، ونبدأها مع هشام محجوب - عضو فريق جبهة بورسعيد 2020 الشعبية- فيقول ان مشروع تنمية إقليم قناة السويس حائر منذ ثلاث سنوات لأنه مرتبط بأكثر من جهة، فهو أولا يخص وزارة النقل لأنها مسئولة عن الموانئ ، وثانيا هيئة قناة السويس ، ورئيسها هو رئيس المجلس التنفيذى للمشروع، وثالثا الشركة المصرية لتداول الحاويات العالمية، وهى تابعة بدورها إلى الشركة القابضة للنقل البحرى التى تصب فى النهاية فى وزارة الاستثمار، وأخيرا مصلحة الجمارك التى تصب فى وزارة المالية، ولهذا فإن أى قرار يخص المشروع لابد من أن يمر على الجهات الرئيسية من وزارات ومن قبلها على الهيئات التى تتبعها، ولذلك توجهنا إلى وزارة التخطيط وطلبنا الاطلاع على المخطط الاستراتيجى لمحافظة بورسعيد بما فيها الموانيء، ووجدنا أن الوزارة قسمت الجمهورية إلى سبعة أقاليم اقتصادية من بينها إقليم قناة السويس، ووجدنا أن هناك لجنة بالوزارة مسئولة عنه، وهو إقليم تضم حدوده ست محافظات ، والمثير أننا اكتشفنا انه بجانب مخطط وزارة التخطيط، يوجد مخطط آخر أعدته هيئة التخطيط العمراني، ومخطط ثالث أعدته محافظة بورسعيد، فضلا عن مشروعنا، وفى النهاية لم يدخل أى مخطط حيز التنفيذ! سمير غريب - الرئيس السابق للجهاز القومى للتنسيق الحضاري- يطرح نموذجا جديدا للقضية يتمثل فى مشروع تطوير حديقة الأورمان بعد تدميرها على ايدى جماعة الإخوان، فيقول اننا قمنا بإعداد مشروع متكامل يهدف للارتقاء بالحديقة يشمل ترميم الأسوار و"اللاند سكيب" والفرش الداخلى وترميم المبانى والإضاءة وبقية العناصر الجمالية ،وسلمت المشروع نهاية العام الماضى لوزير الثقافة واقترحت عليه أن يدعو وزير الزراعة ليشرح له الخبراء تفاصيل المشروع، وسماع ملاحظاته ،على أن تتولى "الزراعة" الجانب المتعلق بالنباتات، وكان الجهاز مستعدا لتمويل المرحلة الأولى المتعلقة بترميم الأسوار، ولم يتم أنجاز أى شيء مما سبق، الغريب أنى قرأت مؤخرا فى الصحف عن قرار لرئيس الوزراء بتشكيل لجنة لنفس الغرض. نفس الأمر ينطبق على تطوير ميدان التحرير فهناك الكثير من التصميمات والمشروعات أعدتها جهات مختلفة ومن بينها جهاز التنسيق الحضاري، وفى النهاية لم ينفذ أى منها. ومن وزارة البيئة يحدثنا الدكتور عطوة حسين- رئيس قطاع الإدارة البيئية- ليكشف لنا انه على مدى أكثر من 30 عاما منذ إنشاء جهاز شئون البيئة لم يتحقق الدور البيئى المأمول ، بسبب العقبات امام قيام وزارة البيئة بدورها فى القانون الذى ينص على أن الوزارة منوط بها وضع السياسات البيئية والتنسيق مع الجهات الأخرى لدمج البعد البيئى فى أنشطتها بحيث تصبح كل جهة مسئولة عن حماية البيئة سواء كان نشاطها خدميا او تنمويا، وتقوم وزارة البيئة بوضع أدلة إرشادية واشتراطات ومعاييرلمساعدة الجهات المختلفة على تحقيق ذلك وأحيانا تنفذ مشروعات تجريبية فى إطار الامكانيات المتاحة لها، لكن فى النهاية تكون حماية البيئة مسئولية كل جهة فى الدولة، استنادا إلى قاعدة "منع التلوث من المصدر" و"أن الملوثين مسئولون عن إزالة التلوث". ويؤكد الدكتور عطوة انه لتحقيق هذا الهدف فلا بد من وجود مجموعة عمل متخصصة فى الإدارة البيئية فى كل وزارة وهى موجودة بالفعل فى عدد من الوزارات مثل السياحة والبترول والصحة والصناعة لكن دورها غير مفعل، فى حين أنها غير موجودة من الأصل فى باقى الوزارات، ويضيف قائلا يكفى أن نعلم أن نهر النيل وحده مسئول عنه نحو 12 وزيرا، ومن المفترض أنهم أعضاء فيما يعرف بالمجلس الاعلى لحماية نهر النيل. و يؤكد فى النهاية أن غياب التنسيق ليس على مستوى الوزارات والأجهزة الحكومية فيما بينها وحسب، بل حتى على مستوى الوزارة الواحدة. تصريحات الوزراء والمسئولين التنفيذيين بشكل عام، تكشف الكثير من أوجه غياب التنسيق فيما بينهم رغم وجود هيئات فى الدولة ، من صميم عملها تحقيق مثل هذا التنسيق بين كل الكيانات الحكومية، فعلى سبيل المثال، تختص وزارة التخطيط -كما جاء على موقعها الالكتروني- بالتنسيق بين خطط الوزارات الإنتاجية والخدمية متوسطة وقصيرة المدى على المستويين القومى والإقليمى على النحو الذى يحقق التنمية الاقتصادية المستدامة والعدالة الاجتماعية، أما الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة فمن ضمن مهامه رسم سياسة الإصلاح الإدارى بما يحقق الارتقاء بمستوى الكفاءة القيادية والإدارية على مستوى أجهزة الدولة. لكن -والحق يقال- أن هناك عدة دراسات أعدها الجهاز فى هذا الصدد، أوصت إحداها بسلسلة من الحلول لتحديث الجهاز الإدارى من خلال إلغاء وزارات بعينها وإضافة اختصاصاتها لجهات أخرى ،كوزارة الاستثمار ، فيتم منح كل صلاحيتها للهيئة القومية للاستثمار، ووزارة التعاون الدولى يتم دمجها مع الخارجية ،أما وزارة البيئة فيمكن إلغاؤها و الاكتفاء بجهاز حماية البيئة ،والأمر ذاته بالنسبة لوزارة الإعلام حيث يستعاض عنها بإنشاء المجلس القومى للإعلام. كما أوصت الدراسة بأن يتم دمج ديوان عام وزارة الإسكان مع ديوان عام المجتمعات العمرانية، وفى وزارة الصناعة يتم دمج صندوق تنمية الصادرات مع الهيئة العامة لمركز تنمية الصادرات. من العشوائيات إلى أطفال الشوارع للتلوث البيئي، ومن تراجع البحث العلمى مرورا بتنمية سيناء، وحتى مكافحة الفساد.. كلها أزمات قديمة" جديدة لا تمل الصحافة من طرحها، مع ذلك فهى قائمة إلى أجل غير مسمى، والسر أن "كل يعمل فى واد". فى تصريح صحفى أكد وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية وجود مشكلات فى المدن الجديدة بسبب عدم التنسيق بين الوزارات المعنية بتقديم الخدمات على أكمل وجه لساكنى هذه المدن، فالمبانى الخدمية التى أنشأتها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة فى هذه المدن لم يتم استغلالها، فمن بين 20 مستشفى تم تسليمها يعمل 16 والباقى معطل حتى الآن، ومن بين 49 مركزا طبيا يعمل 40 فقط . و لحل مشكلة المواصلات، أشار نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية إلى أنهم وضعوا عددا من المقترحات، كقيام وزارة النقل بتوفير اوتوبيسات نقل عام بكافة المدن الجديدة وربطها بالمدن الأم، مع أحقية الهيئة فى منح رخص التشغيل لشركات النقل الجماعى إضافة إلى أحقيتها فى إنشاء مشاريع السرفيس لكن للأسف هناك صراع بين المحافظات على أحقيتها فى مشروع السرفيس وتبعيته لها، أما فيما يخص الخدمات الرياضية، فأشار نائب رئيس الهيئة إلى أنه يوجد 22 ملعبا تم تسليمها لوزارة الشباب والرياضة ولا تعمل حتى الآن. ولا نزال مع التصريحات الصحفية للمسئولين، إذ كشف أحمد صقر -المساعد الأسبق لرئيس جهاز تنمية سيناء لشئون التخطيط، عن أن مشكلة الجهاز الرئيسية تكمن فى تداخل الاختصاصات بين 13 وزارة تشكل عضوية مجلس إدارة الجهاز، ووفقا لدراسة أعدتها أمل زكريا الخبيرة بمركز التنمية الإقليمية التابع لمعهد التخطيط القومي، كان هدف استراتيجية تنمية سيناء، توطين أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، وتوفير أكثر من 800 ألف فرصة عمل، وبعد 17 سنة من انطلاق الاستراتيجية تراوحت نسبة التنفيذ بين 20 و%30، ولم يزد عدد السكان على 500 ألف نسمة. اللافت للنظر أن هناك جهازا آخر يعمل من أجل سيناء وهو جهاز تعمير سيناء والفرق بين الجهازين أن الأول مهمته التخطيط والإشراف، أى أنه يقترح الأفكار ثم بتابع تنفيذها، ويقتصر دوره على رفع تقارير دورية عن المقصرين إلى رئيس الوزراء، و تم إنشاؤه بقانون ويتبع رئيس الوزراء مباشرة، أما جهاز تعمير سيناء فيتبع وزارة الإسكان! غياب التنسيق تجسده بشكل واضح تصريحات للدكتور هانى الناظر- الرئيس الأسبق للمركز القومى للبحوث- فيقول قد نجد بحثا فى مركز البحوث الزراعية قام به المركز القومى للبحوث. وقد يشترى المركز القومى للبحوث جهازا بملايين الجنيهات، مع أن نظيرا له موجود بأحد المراكز البحثية الأخرى التابعة لإحدى الوزارات( كمركز البحوث الزراعية). والنتيجة إهدار للجهد والمال. أما المستشار علاء مرسى، رئيس مجلس أمناء وحدة مكافحة غسل الأموال بالبنك المركزي، فقد كشف عن غياب أى تنسيق بين كافة الأجهزة الرقابية فى مصر، وان أى جهود تتم فى هذا الصدد قائمة على العلاقات الشخصية بين مختلف رؤساء الأجهزة!. وهكذا فإن تداخل الاختصاصات بين الأجهزة الحكومية كما يبدو من خلال تصريحات المسئولين أنفسهم يعد سببا رئيسيا فى عرقلة الكثير من الخطط والمشروعات والمقترحات والنتيجة أن واحدة من تلك الأنشطة لا تتم على الإطلاق.