عرضنا فى مقال سابق لحرص صهاينة إسرائيل على الدمج بين الفكرة الصهيونية والديانة اليهودية والدولة الإسرائيلية؛ وحاولنا كشف فساد هذا الدمج الذى يتنافى مع الحقيقة العلمية فضلا عن تعارضه مع الحق العربي، وكان المتوقع أن تحرص الرؤية العربية على تفكيك تلك المصطلحات ورد كل منها إلى أصله الطبيعي؛ فماذا حدث؟ تميل الجماعات المتصارعة فى غمرة اشتعال الصراع بينها إلى تصور متبادل مؤداه أن أبناء الجماعة الأخرى يتماثلون إلى حد استبعاد وجود أية فروق أو اختلافات داخلية بينهم، وبالتالى يتم استبعاد حقيقة وجود أية اختلافات أو تناقضات طبيعية داخل الجماعة، وقد لعب هذا التجاهل دورا مهما فى الصراع العربى الإسرائيلي. إن نظرة متأنية إلى أية جماعة إنسانية - بالمعنى العلمى لمصطلح الجماعة تكشف عن خاصيتين بارزتين: أولا: إن بين أفراد تلك الجماعة قدر لا يمكن التغاضى عنه من الاختلاف فى مختلف نواحى التكوين النفسى بحيث إننا لا يمكن أن نجد - فى أية جماعة إنسانية - شخصين متماثلين تمام التماثل من حيث ذلك التكوين، إذ يختلف الأفراد عن بعضهم البعض فى كل شيء تقريبًا: القدرات العقلية، وخصائص الشخصية، والخصائص الجسمية والاتجاهات والقيم إلى آخره. وتتوزع تلك الخصائص والقدرات بين البشر توزيعًا اعتداليا بحيث تحتل الغالبية من الأفراد المراكز المتوسطة، فى حين يمثل الممتازين وكذلك الضعاف أقلية من الأفراد. فمتوسطو الذكاء مثلا تبلغ نسبتهم عمومًا نحو 68% من أفراد المجتمع، فى حين تبلغ نسبة العباقرة نحو 16%، وهى نفسها نسبة ضعاف العقول ثانيا: إن بين أفراد تلك الجماعة قدرا لا يمكن التغاضى عنه من التشابه فى جميع نواحى التكوين النفسى أيضا، بمعنى أننا لابد واجدون قدرا مشتركا بين جميع أفراد تلك الجماعة فيما يتصل بقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وإن كان ذلك القدر يتفاوت من جماعة إلى أخرى كما يتفاوت أيضا من فرد إلى آخر من بين أعضاء نفس الجماعة. هاتان الخاصيتان تتوافران فى كل الجماعات الإنسانية دون استثناء، ولعل الخاصية الثانية - أعنى خاصية التشابه - هى الأجدر بالتوقف أمامها فيما يتصل بموضوعنا. ويكاد جميع علماء النفس يجمعوا على أن العادات والتقاليد والقيم واتجاهات الرأى العام وما إلى ذلك أقرب إلى أن تكون جميعاً أمورا يكتسبها المرء من بيئته الاجتماعية عبر ما يعرف بعملية التنشئة الاجتماعية، بمعنى أن المجتمع يعلم من خلالها أبناءه ما يود غرسه فيهم من عادات وتقاليد وقيم واتجاهات وما إلى ذلك، مما يعنى مباشرة استحالة أن يكون ثمة تشابه فى الخصائص النفسية بين أفراد جماعة بشرية معينة إلا بقدر تشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية المحيطة بتلك الجماعة. ويترتب على إهدار تلك القوانين العلمية خلط شائع بين مفاهيم الحضارة الدينية و العقيدة الدينية و الدولة الدينية، وقد لعب هذا الخلط ومازال دورا لا يمكن تجاهله فى نظرتنا إلى الصهيونية، ونظرة الصهاينة إلى دولة إسرائيل، ونظرة العض منا إلى اليهودية. الحضارة الدينية ترتبط بالمكان والتاريخ، أما العقيدة الدينية فتتجاوز حدود المكان وحدود التاريخ على حد سواء، فنحن لا نستطيع أن نتحدث مثلا عن إسلام هندى و إسلام مصري، ولكنا نستطيع أن نتحدث عن حضارة وتاريخ المصريين الفراعنة وحضارة وتاريخ المصريين المسلمين باعتبارهما مرحلتين حضاريتين تاريخيتين تتابعتا على المكان فاكتسب طابعهما واكتسبتا منه ملامحه. وينطبق ذلك على كافة العقائد الدينية. والمكان فى هذا السياق لا يعنى الحدود الجغرافية والمظاهر المادية فحسب بل يعنى أساسا البشر أصحاب المكان وصناع حدوده ومظاهره بصرف النظر عن مدى تطابق عقائدهم الدينية، فالحضارة الدينية التى تسود موقعا جغرافيا تاريخيا معينا، لا تترك بصمتها على أصحاب عقيدة دينية دون سواها، بل إن تأثيراتها تشمل أصحاب هذا الموقع جميعا وإن تباينت عقائدهم. ومن هنا فإننا نستطيع أن نتحدث عن إليهود من أبناء الحضارة العربية الإسلامية مثلا، كما نستطيع أن نتحدث عن المسلمين من أبناء الحضارة الغربية المسيحية. وقد تتباين احتمالات التأثير الحضارى الدينى تبعا لمقتضيات الزمان والمكان، كما قد تتباين احتمالات التأثر تبعا للخصائص المميزة للأفراد وللجماعات، ولكن يبقى دائما طابعا تتركه الحضارة الدينية السائدة على جميع من يعيشون فى كنفها إيًا كانت دياناتهم. أما الدولة الدينية فيقصد بها عادة تلك الدولة التى تقوم لتحقيق تصور نظرى دينى سابق على قيامها الفعلي، بحيث يصبح ذلك التصور النظرى بمثابة الإطار المرجعى لتحديد وتقييم طبيعة تصرفات هذه الدولة مع غيرها من الدول ومع رعاياها من البشر، وبذلك فإن الدولة الدينية تختلف اختلافًا أساسيًا عن الدولة ذات الأغلبية السكانية المنتمية لدين معين، مهما كان التزام تلك الأغلبية بتنفيذ تعاليم دينها على المستوى الفردى وإن كانت تلك الغالبية السكانية شرطا لقيام الدولة الدينية. لا يكفى لقيام دولة دينية إذن أن تكون غالبية سكانها من اليهود أو المسيحيين أو المسلمين؛ فلكل دين تأويلات متعددة ومذاهب قد تكون متعارضة بشكل أو بآخر؛ ولكى نتحدث عن دولة دينية ينبغى توافر وحدة المذهب لغالبية سكانها فضلا عن الاحتكام لذلك المذهب أو التأويل تحديدا فى تسيير أمور الدولة. خلاصة القول أن الصهيونية ليست صورة من الدين اليهودي؛ بل هى فكرة سياسية تحولت فى إطار ظروف تاريخية إلى تنظيم سياسى مارس إقامة دولة جديدة على أرض فلسطين التاريخية. لمزيد من مقالات د. قدري حفني