بالقطع نظرة موضوعية ترصد كيف أن ظرفاً استثنائياً يحيط بالعام الأول من رئاسة السيسى فى حكم الوطن؛ غير أن أملاً حقيقياً فى بلوغ أهداف ثورتنا لا يمكن أن يحرز مشروعيته ما لم تجتهد الرؤى الوطنية المخلصة بحثاً عن تقييم جاد، لا ينال تأييدنا للرئيس السيسى من موضوعيته، مثلما لا تدفعنا صعوبة التحديات إلى تجاهلها، وبالقطع لا تنسينا مجابهة أعداء الوطن ضرورة إجراء مراجعات مع النفس لا نستبعد منها كبيرا أو صغيرا، بعيدا أو قريبا، بعد أن بات العمل الوطنى فرض عين على كل من يحيا على أرض الوطن. بداية، تجدر الإشارة إلى أن السياسة الخارجية ما هى إلا صناعة محلية بالأساس؛ ومن ثم فإن تناول الشأن الداخلى فيه بيان لدوافع وأهداف السياسة الخارجية، وكم ما تواجهه من صعوبات، مع ما فى ذلك من تأكيد على ضرورة الاعتراف بتبعات الوزن النسبى لمصر إقليمياً ودولياً، وهو ما يضع الشأن الداخلى محل نظر واعتبار من مختلف مكونات المجتمع الدولى الفاعلة. وبالعودة إلى أدبيات الخطاب الرئاسي، وما به من مضامين، نجد أن «العمل» يحتل قمة القيم التى يتأسس عليها فكر الرئيس السيسي، الأمر الذى وجد تفسيراً قاصراً لدى بعض المتاجرين بالعمل السياسي؛ إذ ذهبوا إلى أن الأمر يحمل دعوة إلى فض «العمل السياسي»، بينما رآه البعض دليل غياب رؤية سياسية لدى الرئاسة اعتماداً على حزمة من المشروعات القومية العملاقة، بينما الأمر، فى رؤية جادة وأمينة، لا يعدو كونه دعوة إلى شراكة حقيقية فى الحكم، تختلف فيها الأدوات والآليات حسب موقع كل طرف، مع ثبات الأهداف الوطنية، وشيوع المصالح العامة. وفى ظل المفهوم الواسع للأمن القومي، وإزاء تصاعد التحديات والمخاطر التى يواجهها الوطن، حرص الرئيس فى بدايات عهده على التأكيد على جملة من الأولويات، يبدو أن البعض لم يدرك ما بينها من روابط متينة لا تقبل التفكيك، فليس فى غياب المفهوم الشامل للأمن، يمكن أن تتحقق نهضة اقتصادية حقيقية، وفى ظل التراخى عن مجابهة الفساد تتلاشى فرص نجاح التنمية الاقتصادية الشاملة بمختلف مضامينها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفى ذلك تفسير للحضور المتكرر للحرب على الفساد فيما يصدر من خطاب رئاسي. فى هذا الإطار، تبذل الأجهزة الأمنية جهوداً مشهودة فى سبيل مجابهة الإرهاب، فضلاً عن استعادة «الشعور» بالأمن بمعدلات عالية، وبالفعل عاد للدولة الكثير من أوجه هيبتها، على نحو يؤكد صدق العزم على تجسيد الدولة القانونية كأساس لا بديل عنه لإرساء دعائم أى حكم ديمقراطي. ومع معاناة الوطن فى حربه ضد الإرهاب. وكان المهندس إبراهيم محلب قد شكل حكومته الثانية بعد تكليفه بذلك عقب إعلان فوز الرئيس عبد الفتاح السيسى بالرئاسة، ثم أجريت على الحكومة عدة تعديلات، شملت كذلك عددا من المحافظين، ويلاحظ فى هذا الشأن أن تطوراً فكرياً لم ينل كثيراً من قواعد ومعايير اختيار القيادات التنفيذية، فكثير من الوزراء تم اختيارهم على سبيل الترقي، من موقع قيادى بالوزارة إلى كرسى الوزير، فيما يشير إلى غياب رؤية جديدة؛ إذ ما زال الأمر يتم بمعزل عن الناس. ودون الاستغراق فى تفاصيل العمل الوطنى على الساحة الداخلية، وقد باتت مشكلاتها تقليدية تراوح مكانها دون استحياء، مقابل ما يمكن رصده من تقدم «استثنائي» فيما يتعلق ببعض المحاور داخل كل وزارة، وليس استهدافاً لوزارة التموين أن نتخذ منها نموذجاً هادياً، فبينما نجحت وزارة التموين فى حل مشكلة رغيف الخبز المدعم، وقد كان من الأسباب شديدة المحلية للوفاة فى عهد مبارك، نجد أن أسعار المواد الغذائية تواصل ارتفاعها بصورة غير مسبوقة، ولم تزل أزمات اسطوانات الغاز تتردد من حين لآخر، وطوابير الوقود تمتد وتقصر؛ بيد أن الملاحظ أن الجولات الميدانية للوزراء، إتباعاً لنهج رئيس مجلس الوزراء، باتت تغلب عليها الصفة الدعائية ربما أكثر من جدواها الحقيقية. وتبدو النجاحات الحكومية أقرب إلى التصور فيما يمكن أن تكون الرئاسة طرفاً أصيلاً فيه، فما زالت الحكومة تعيش تبعات ما تحقق من نجاح فى المؤتمر الاقتصادي، الأمر الذى أضاف عليها من الأعباء ما لم تنجح فيه بعد، فلم تقدم الحكومة بياناً شافياً عن الإجراءات التنفيذية التى قامت بها لوضع الاتفاقات التى تم إبرامها فى المؤتمر موضع التنفيذ. ومع اختفاء وزارة الإعلام من التشكيل الثانى لحكومة المهندس إبراهيم محلب، لم تزل قضايا الإعلام تعانى من سيولة وتراجع على أجندة أولويات العمل الوطني، فلا هيكلة إدارية تمت للجهاز الحكومى فى ماسبيرو، ولا صيغ جديدة، «المجلس الوطنى للإعلام»، نجحنا فى إنجازها، ولا بلورة حقيقية للدور المنوط بالفضائيات النهوض به فى المرحلة الفارقة الراهنة شديدة الحساسية بما لها من أثر بالغ الخطورة فى الرأى العام. وعلى هذا النحو لم يزل الخطاب الدينى محل جدل كبير، وربما ناله من الإساءة الكثير جراء محاولات تطويره على نهج وأسس بالية، ما جعل من الأمر محوراً لا يغيب عن مضمون الخطاب الرئاسي. وفيما يتعلق بالعملية السياسية، ما زال الاضطراب يسود كل رؤية ترصد البرلمان المقبل، فبعد تكرار التأجيل، بات الأمر مُرحل إلى ما قبل نهاية العام الحالي، وبالنظر إلى الأحداث المرتبطة بقانون الانتخابات البرلمانية، لا يُعد الأمر باتاً على نحو يدفع بنا بعيداً عن إمكانية الانتظار بالقرب من أسوار ساحة المحكمة الدستورية، وفى الخلفية حوارات مجتمعية لم تنتج أثراً واضحاً، ومزايدات ومساومات سياسية وجدت صيغتها الأفضل فى تشكيل التحالفات الانتخابية وإعداد القوائم الموحدة، وعلى هذا النحو بات الطريق إلى البرلمان المقبل متجراً مفتوحاً لا تغيب عنه المصلحة الوطنية سلعة مُربحة، حتى بدا أن دم البرلمان المقبل قد تفرق بين الجميع!. ويبقى فى الحديث بقية للأحزاب والقوى السياسية التى أفرغت طاقتها «المحدودة» فى تقريع «الدولة» بأنها فاقدة أى رؤية سياسية، وقد كانت هى ذاتها جديرة بإنتاج تلك الرؤية وطرحها على مؤسسة الرئاسة والمجتمع كافة؛ إذ على نحو ما سبق الإشارة إليه، باتت القضايا الوطنية تنتظر هؤلاء السابحين ضد التيار الوطني، فأى رؤية سياسية لديهم يمكن أن يشهدها البرلمان المقبل، وهم المنوط بهم تشكيل حكومة جديدة تكتمل بها ومعها خارطة المستقبل التى ارتضاها الشعب تجسيداً حياً لإرادته الحرة التى عبر عنها فى الثلاثين من يونيو.