بلغ الخطاب المجتمعي حداً من التضليل غير المسئول، بات غير قادر علي أن يحجب ما وراءه من أغراض مناوئة لأهداف الثورة المصرية، في يناير ويونيو علي التوالي. فليس لمزيد من الدرس والحوار لتعديل قانون انتخابات مجلس النواب، تطفو حالياً نداءات تدعو إلي تأجيل الانتخابات البرلمانية، وربما لو ألغيت كان أفضل!، فقد حشد أصحاب هذا الخطاب المهين، جملة من الأسباب والمبررات، زعموا بها ارتفاع التكلفة المادية فوق «العائد» من الانتخابات!، واستندوا كذلك إلي التوترات الأمنية التي تشهدها الساحة الداخلية، فضلاً عن أولوية «التركيز» فيما يشغل الوطن من تحديات اقتصادية! والواقع أن خطاباً علي هذا النحو يحمل من الدلالات ما يكفي للتشكيك في مدى ما حققته الثورة المصرية، من نجاح علي مستوى إحداث تغيرات جذرية في القيم المجتمعية السائدة، وربما يشير الأمر كذلك إلي محاولات لإبراز غياب قناعات عامة قوية بإمكانية إنتاج برلمان ينهض بمسئولياته الوطنية بعيدة المدى في مسيرة الوطن نحو تحقيق الطموحات الثورية؛ ومن ثم فنحن إزاء أصوات تنتمي إلي ثقافة، يبدو أنها راسخة أكثر مما ينبغي، تؤكد أن الصيغة «التنفيذية» مازالت تعلو لدينا عن كل صيغة «سياسية» يمكن أن تعبر عن رؤيتنا لكيفية شئون الدولة. وزيادة في تشويه الصورة أمام الناخب، أثيرت في هذا الخصوص «أقاويل» شتى، جاء فيها أن الكثير من القوي السياسية «المعتبرة»، لطالما دعت إلي تأجيل الانتخابات البرلمانية، بمبررات زعموا أنها لا تشير إلا إلي العجز عن خوض غمار المعركة الانتخابية. ولعل في ذلك ما يكفي للإشارة إلي الوفد، بوصفه «الصوت الأعلى» في مجابهة إجراء الانتخابات البرلمانية وفق ما أتاحه قانون انتخابات مجلس النواب من فرص كبيرة لأعداء الثورة، أبناء نظام مبارك المستبد، بموجبها بات الطريق مفتوحاً أمامهم لإعمال أدواتهم المُفسدة المعمول بها في كافة الفعاليات الانتخابية فيما قبل الثورة، والتي أفرزت برلمانات لا تعبر بأي حال عن الشعب، ولا تتبني قضاياه الحقيقية، قدر ما تسعي إلي إضفاء مسحة زائفة من الشرعية علي نظام مبارك العتيق. وفوق أن هذا الخطاب الساذج لا يستدعي رداً يفنده، والحال أننا في الطريق إلي إجراء الانتخابات البرلمانية بالفعل؛ فإن ما يثيره مثل هذا الخطاب من أسي علي ما تدني إليه مستوى الحوار الدائر بين «النخب» ممن يعدون قادة للرأي!، هو جوهر الأمر الجدير بالبحث، وعلي صعيد مستويات عدة. فمن جهة، باتت عشوائية المشهد الداخلي طاغية علي ما عداها من قواعد وأسس متعارف عليها فيما يعتري المجتمعات الساعية باتجاه تحول ديمقراطي حقيقي، فيما يعبر عن غياب مرجعية فكرية حاكمة للحوار المجتمعي، حتى لم يعد الهجوم علي الثورة محصوراً في الأحاديث الجانبية، ولم يعد كذلك حكراً علي الفئة غير المهمومة بالشأن السياسي، وهي فئة موجودة بالفعل، ولا ينبغي إنكارها، فهي حاضرة في كل المجتمعات، وبنسب تناولتها الأدبيات السياسية، علي نحو يؤكد حتمية وجودها، وكيف أنها لا تعبر عن ضعف في الحياة السياسية، قدر ما تشير إليه من أسباب وعوامل متعددة لا يمكن إقصاؤها عن أي مجتمع. غير أن تناولاً لهذا الأمر لا ينبغي أن يغيب عنه تحليل دقيق، ندرك به الدوافع الحقيقية لخطاب يدفع بنا بعيداً عن كل ممارسة ديمقراطية، ويستبعد من حياتنا أدوات سياسية في غيابها لا يمكننا تحقيق أهداف الثورة فيما يتعلق بتغيير موروث ثقافي ليس علي صلة بمتطلبات أي تحول ديمقراطي يمكن أن ننشده. فليس من شك أن أصحاب الخطاب الداعي إلي تأجيل الانتخابات البرلمانية، لعدم جدواها، وتخلف أولويتها عن غيرها مما يواجه الوطن من مشكلات، هؤلاء يدركون تماماً أن الانتخابات واقعة لا مفر، وقد أكد الرئيس السيسي علي ذلك كثيراً، وبما لا يدع مجالاً للشك. وعليه، فليس تهميش ثقافة المشاركة السياسية إلا هدفاً يسعي إليه أبناء نظام مبارك، في مواجهة دفع القوى الثورية إلي مواجهة عودتهم إلي المشهد السياسي، وليس أكثر من برلمان ثوري يمكن أن يبدد أمل العودة لدى نظام مبارك، كذلك ليس إلا «الصيغة التنفيذية» أنسب لنمو بقايا نظام مبارك، بديلاً عن «صيغة سياسية» تؤكد نجاح الثورة في التعبير عن ذاتها.