من اللحظات الأولي لهبوط طائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي مطار برلين، لم يساور مرافقيه أدني شك أن الرجل كان محقا تماما في القيام بزيارة ألمانيا، الدولة صاحبة الثقل في السياسة الأوروبية والدبلوماسية العالمية. فقد مضت الزيارة علي خلاف ما نراه في بعض وسائل الإعلام الغربية التي تروج صورة مغلوطة عن الأوضاع في مصر والتي لا تري الأحداث علي أرضنا إلا من زاوية واحدة فقط، تحاول أن تنزع الشرعية عن السلطة الحالية وتلقي بظلال قاتمة علي مستقبل بلد خرج شعبه قبل عامين من أجل إدارة دفة الوطن في اتجاه ترضاه الغالبية الساحقة التي رأت في النظام السابق خطراً حقيقيا، ورأت في الجماعة التي حكمت البلاد لعام واحد كارثة لم يستوعب مداها سوي الجماهير العريضة التي خرجت ضدها واقتلعتها بدعم من قواتها المسلحة التي وقفت وراء خيارات الشعب ولم تتردد لحظة واحدة في حماية الوطن من الانهيار. كانت حفاوة الاستقبال الرسمي في برلين علي قدر نضج وصمود وعلو قامة المصريين بعد ثورة 30 يونيو.. وكان ترحيب مجتمع المال والأعمال الألماني دليلا علي أن مصر تشق طريقها وسط الصعاب والتحديات والدعاية الرافضة لتقدمها واستعادة دورها. كلمات رئيس مصر.. في المؤتمر الصحفي المشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كانت تجسيدا للرسائل التي حملها إلي الشريك الكبير، والتي ركزت بنجاح فائق علي تأسيس علاقة وثيقة مع القارة الأوروبية علي الوضوح والصراحة والفهم الكامل للمصالح الوطنية والمصالح المشتركة التي لا تقوم علي تقديم تنازلات لأي أحد سواء للأوروبيين أو لغيرهم. في رسائل الرئيس إلي الألمان تأكيد للعالم أننا لا نخاف ردود الأفعال، وأننا دولة تحترم مؤسساتها، ولا تساوم علي قرارها الداخلي، ولا تقبل المساس بالسيادة الوطنية، فهو تأكيد ما ذهب إليه الرجل من تأسيس جديد لإدارة العلاقات مع أوروبا والعالم في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ مصر. سمعتُ من مسئولين ألمان عبارات جيدة ومشجعة عن تغيير في وجهات نظرهم تجاه الأوضاع في مصر وتقديراً للإنجازات التي تحققت في العام الأول من حكم السيسي وبالأخص ما قالوه عن مشروع قناة السويس الجديدة، وقدرة المصريين علي تحدي الزمن في سرعة الإنجاز، وعلاقة الألمان بالزمن وتحديهم للظروف الصعبة واحدة من التجارب الملهمة علي مستوي العالم. بعد عام واحد.. بالتمام والكمال من انتخابه، توجه السيسى إلى الدولة الأوروبية الأكثر تأثيرا فى قارتها بدعوة قادتها لحضور احتفال افتتاح قناة السويس الجديدة فى السادس من أغسطس المقبل وهى الدعوة التى تحمل معانى كثيرة أمام العالم كله، فى مقدمتها أن مصر الجديدة متمسكة بتحقيق التنمية الاقتصادية وأن معاول الهدم التى تحملها أيادى الجماعات الإرهابية فوق أراضيها والحناجر الزاعقة بالخراب خارجها لن تثنى المصريين عن المضى فى مشوار صعب لبناء دولة المؤسسات وتحقيق ديمقراطية كاملة غير منقوصة شريطة ألا تحاول أى قوى سياسية الاستيلاء على الحكم لصالحها فقط دون سائر المصريين أو تسعى أى جماعة أو فصيل أن يقسم شعبها إلى طوائف متناحرة. قال الرئيس للألمان.. من فوق منصة الكلمة فى مبنى المستشارية أمس الأول، الأربعاء، إن الشعب المصرى قد خرج ضد الفاشية الدينية وإن خروجه قد أنقذ المنطقة بأسرها ولو حدث وتركت الأمور على حالها تحت حكم جماعة الإخوان الإرهابية لتطورت الأوضاع أكثر من ذلك ولأصبحت مصر مجرد دولة لاجئين. وقد جاء وقع عبارة «كنتم ستضطرون لإرسال المساعدات بالطائرات ولن تستطيعوا النزول على أرض مصر» صادما لآذان متابعى المؤتمر الصحفى من الألمان ودعوة لهم للتفكير مليا فيما جرى فى مصر، وما يجرى من حولها من أوضاع مأساوية فى المنطقة العربية المنكوبة اليوم بالفاشية الدينية التى حذر منها السيسى وهى تضرب بعنف فى كل جنبات المنطقة بلا رحمة تحت سمع وبصر المتشدقين بالديمقراطية وحقوق الإنسان ولكنهم يتركون مآسى العراقوسوريا واليمن ويمسكون بتلابيب مصر التى تبرهن كل يوم على صدق خيارات التوجه نحو تحقيق الأمن لمواطنيها والتنمية الاقتصادية التى تخلق طاقة نور وأمل للأجيال الجديدة.
قدم السيسى رؤيته.. الاقتصادية الطموحة فى زيارته غير العادية للعاصمة الألمانية مؤكدا أن حكومته تسعى بقوة لتوفير مناخ استثمارى جاذب للشركات الأجنبية، فى إطار برنامج شامل للتنمية حتى عام 2030، وأشار إلى إصدار قانون الاستثمار الجديد. امام المنتدى الاقتصادى المصرى الألماني، صارح الرئيس المستثمرين والسياسيين بوضوح قائلا «إذا كنتم معنيين بحقوق الإنسان والديمقراطية.. فتعالوا واستثمروا فى مصر وأقيموا المشروعات والمصانع حتى يجد الشباب فرصا للعمل، وهذا سيكون فى مصلحة المصريين وفى صالح الاستقرار والعدالة الاجتماعية والحرية، لأن تحسين أداء الاقتصاد المصرى يسهم فى تحقيق القيم التى تنادون بها، هذه القيم التى يصعب تطبيقها فى مجتمعات يسودها التخلف والفقر والبطالة». كما كانت عبارة الرئيس عن احترام الحقوق الأساسية للمصريين رسالة أخرى عن منهج لا يعرف المدارة أو الالتفاف أو مغازلة شركاء الخارج، فقد قال «إننا حريصون على أن يكون لكل مصرى الاحترام والحرية، وأقول ذلك ليس لأننى أمامكم ، بل لأن مصر أمة متحضرة لها تاريخ عريق يرجع ألى خمسة آلاف عام». وقد توجت الاتفاقيات الكبرى بين مصر والشركات الألمانية، وعلى رأسها اتفاقية ال 8 مليارات يورو مع شركة «سيمنز» العملاقة لتوريد توربينات حديثة إلى مصر، وجولة الفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس للترويج لمشروعات محور القناة الجديدة والمنتدى الاقتصادى الموسع على هامش الزيارة بحضور كبار المستثمرين من البلدين، نتائج التقارب السياسى بين القاهرةوبرلين وهو ما يؤكد أن الفرص واعدة فى مسيرة العلاقات الثنائية.
اللغة العملية.. التى تحدث بها رئيس مصر طغت على الصخب الذى حاولت ذيول الإرهابية أثارته وعلى محاولات إفشال الزيارة وهو بالتأكيد ما دفع المستشارة ميركل إلى انتقاء كلماتها بعناية، فقد أشارت إلى أن شروط العدالة الاجتماعية التى طلبها المصريون فى ثورة يناير تتحقق اليوم معربة عن أملها أن تتطور مصر اقتصاديا لتحقق لشعبها آفاقا مستقبلية رحبة وقالت بقدر كبير من الثقة إنها تعتقد أن مصر تسير فى الطريق الصحيح لتحقيق الرفاهية وهو ما ترجمته ألمانيا بإرسال وفد كبير إلى مؤتمر شرم الشيخ برئاسة وزير الاقتصاد. كما كانت المستشارة الألمانية ترقب مستقبل الشرق الأوسط بعين حذرة وهى تتحدث عن صعوبة مواجهة بلادها الإرهاب دون الإصغاء إلى الرؤية المصرية، وقالت إن التعاون مع مصر مهم للغاية فى ملف مكافحة الإرهاب وعندما توجهت إليها بسؤال عن مدى دعم بلادها لمصر فى هذا الملف، قالت إن الزيارة تؤسس لاتصالات دورية وتعاون مكثف بين البلدين لمواجهة هذا الخطر.
فى جولة المحادثات مع ميركل.. حث الرئيس الأوروبيين على المساهمة الجادة فى اقتلاع جذور الإرهاب، فقال للمستشارة الألمانية إن آفة الإرهاب تنال اليوم من الشباب والأجيال الصاعدة سواء فى المنطقة العربية أو فى أوروبا، وضرب مثالا بظاهرة المقاتلين الأجانب التى وصفها بأنها تعد «عبرة» تدعونا للتأمل فى أسباب انجذاب الشباب من مجتمعات مختلفة لهذا الفكر المتطرف. ومثلما دعا السيسى فى زيارات سابقة لعواصم أوروبية وعالمية إلى مواجهة الظاهرة الخطيرة بمنظور و«إستراتيجية شاملة فكرياً وأمنياً والتصدى لكافة التنظيمات بدون انتقائية أخذاً فى الاعتبار وحدة أساسها الفكرى والأيديولوجي»، جدد الرجل دعوته فى برلين لتذكير الأوروبيين بأن الخطر داهم وأن النبع واحد لكل تلك الجماعات التى احترفت القتل وتدمير التراث الإنساني. وفى نقاش مع أحد الخبراء من جامعة برلين، أشار بدوره إلى أن التصعيد من جانب تنظيم داعش فى سورياوالعراق قد أقنع الألمان أن المصريين يقدمون «الأمن» على أى مطلب آخر اليوم، وأن مطالب المصريين قد عُدلت وصار الأمن هو الأكثر طلبا لديهم، وهو ما يفسر اللغة الواقعية التى تتحدث بها ميركل وغيرها من الساسة الألمان خلال الزيارة حتى ولو بدت بعض الوجوه متحفظة فى طريقة تعاملها مع السلطة الحالية فى مصر.
فى الرد.. على تساؤلات الألمان حول قضايا الشأن الداخلى فى مصر، سواء من جانب السياسيين أو الإعلاميين، كان الرئيس محددا تجاه بعض القضايا ومنها الحكم على الرئيس المعزول محمد مرسى وقيادات فى جماعة الإخوان بالإعدام حيث أوضح أن الشعب خرج ضد مرسى عندما لم يجد فى الدستور وسيلة أخرى لنزع الشرعية عن حكمه الكارثي، وكأن لسان حاله يقول إننا لم ننتظر وقوع كارثة مثلما حدث فى بلادكم تحت حكم النازى عندما حكم أدولف هتلر بالحديد والنار وخلف وراءه ملايين الضحايا فى أعوام قليلة، وتناول بشكل مباشر عقوبة الإعدام التى توليها وسائل الإعلام الغربية اهتماما كبيراً، فقال إنه يتفهم معنى تلك العقوبة لدى الشخصية الألمانية داعيا إلى احترام القضاء المصرى المستقل وإجراءات التقاضى وعدم القفز على الوقت والإجراءات. كما تطرق إلى وضع مؤسسات المجتمع المدنى الألمانية فى مصر والتى دار حولها لغط كبير فى قضية تمويل المنظمات قبل ثلاثة أعوام، فأكد حرص القاهرة على التواصل إلى حل لتقنين أوضاع المؤسسات الألمانية العاملة فى مصر، والتوصل إلى حل يأخذ فى الاعتبار كافة الأبعاد القانونية والمجتمعية، مطالباً، فى الوقت نفسه، بضرورة تفهم موضوع المنظمات الحقوقية فى هذا السياق، ونافيا محاولة السلطات المصرية تضييق الخناق على المجتمع المدنى فى مصر، قائلا «دورها الجيد مقبول فى بلادنا ونقدره». وقد لفت أستاذ آخر بمركز دراسات بجامعة برلين نظرى إلى أن هناك فى ألمانيا من يرى أن تفكك تكتل 30 يونيو فى مصر قد منح تنظيم الإخوان فرصة للاستفادة داخليا وخارجيا، وهو ما لا يجب أن يستمر حيث الخوف على التجربة من تفكك التحالف واستفزاز القوى المؤيدة للسيسى بظهور رموز النظام السابق إلى جواره يحتاج إلى نظرة ثانية من كل القوى الفاعلة على الساحة والعودة إلى وحدة الصف أمام العالم الخارجى. كان أجمل ما فى رحلة الرئيس إلى أهم بلد أوروبى اليوم هو مواجهة الواقع دون خوف أو خشية أحد .. فقد وقفت الجالية المصرية العظيمة فى وجه صفاقة أنصار وأعضاء التنظيم الإرهابى فى شوارع برلين .. ووقف السيسى قوى الحجة ومقنعا فى حديث المصارحة إلى الشعب الألمانى عن التحديات التى تواجه مصر والمنطقة والتى يمتد تأثيرها إلى القارة الأوروبية يوما بعد يوم حيث جاءت رسائله مباشرة أنه لا بديل عن لغة الحوار والتفاهم كطريق وحيد لطرح الاختلافات فى وجهات النظر. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام