عن جدارة،استحقت رواية "مجانين بيت لحم" للصحفي و الروائي الفلسطينى أسامة العيسة جائزة الشيخ زايد للآداب لهذا العام، لتفتح نافذة على أعمال روائي مهم قدم عملا يتمتع بالحس الصحفي, أو صحفي مبدع رسّخ لفكرة "التحقيق الروائي". ولعل مالا تخطئه عين عند مطالعة سيرة العيسة الذاتية هو أنه رجل وطني بالمعنى الحرفي للكلمة … فوطنه, و تحديدا بيت لحم مسقط رأسه, هما منبع كل أعماله الابداعية و الأكاديمية.. فغالبية رواياته تحمل اسم بيت لحم مثل"مجانين بيت لحم" و " قبلة بيت لحم الأخيرة" … حتى إن أبحاثه في التراث و الآثار كانت داخل حدود وطنه الذي يكفيه أن يعترف هو و مجموعة من الشرفاء بها. والطريف في الأمر أن رواية عن مأساة الفلسطينيين في 2015 لم تأت أبدا في ثوب البكائيات الحزينة التي تدمع عيناك لها و أنت تقرأها … بل هي في اطار ساخر و هزلي مشبع بالتراث الشعبي لبيت لحم بكل تفاصيله الجميلة .. تخرج منه بنتيجة واحدة و هي أن المجانين أحيانا يكونون أكثر وطنية من القادة و الحكام و الرموز العقلاء الذين باعوا و فرطوا و انقسموا على أنفسهم. والرواية تحكي قصص شخصيات التقاها العيسة ، داخل أو خارج أسوار مستشفى الأمراض العقلية المحاذي ل«مخيم الدهيشة» في بيت لحم. الأهرام أجرت الحوار التالي مع العيسة ، احتفاءً بانتصاره الأدبي: بداية حدثنا عن الشكل الروائي الذي تناولت به القضية الفلسطينية فى"مجانين بيت لحم" في هذا العمل حاولت تقديم المكان والانسان الفلسطينيين بطريقة جديدة تشمل السخرية و غيرها. وفي اعتقادي أنه من الصعب التعايش مع احتلال مستمر منذ عقود, ويبدو انه لا ينتهي، دون القليل او الكثير من الجنون والسخرية. في روايتك ، أكدت أن مجانين بيت لحم لم يكتفوا بممارسة جنونهم فقط و إنما ورّثوه لأجيال قادمة أتت من بعدهم .. متى يبرأ مجانين بيت لحم من جنونهم ؟! و متى ينتهي هذا الميراث؟! في الحقيقة هذا سؤال صعب .. لكني انا شخصيا لا اريد لمجانين فلسطين ان يبرأوا، وان يضحوا عقلاء، لانه بالجنون وحده يمكننا مواجهة الاحتلال و الصمود في معركة تغيير معالم المكان واحتمال العيش في كانتونات صغيرة كيف كان استقبال الفلسطينيين للرواية التي عبرت إلى حد كبير عن حياتهم و تاريخهم وواقعهم الأليم؟ استقبال فوزي بالجائزة كان ايجابيا في فلسطين، رسميا وشعبيا، لكن الاستقبال الشعبي هو الأهم بالنسبة لي. و اعتقد ان كثيرا من الأوساط الشعبية فرحت بالجائزة، بغض النظر عما اذا كانت ادبية ام لا، لانهم ادركوا ان واحدا منهم فاز بها .. وهذا اسعدني. .. وهل هناك مساع لتقديم الرواية في عمل فني مصور؟ تحدثت معي جهتان، ولكن بشكل لا اعتبره رسميا، وانما أولى ,عن تفكير بتحويل الرواية الى مسلسل. اعتقد ان الامر يحتاج الى وقت، وسأكون سعيدا اذا تحول عملي الى عمل ابداعي آخر. لانني سأجد من يشركني في تحمل عبء المجانين، وربما يقدمهم بشكل افضل مني من خلال التليفزيون او السينما. هل تعتقد أن الأدب الفلسطيني و مبدعيه مظلومون مثلما ظلمت قضيتهم؟ لا احب ان يوضع الادب الفلسطيني في خانة مثل خانة الظلم، انا اؤمن بقدرة الابداع على الوصول، بدون اي واسطة، الى الناس، حتى لو احتاج ذلك الى وقت. اذكر مثلا كيف كنا في فلسطين فرحين بظاهرة "نجم-امام" حيث كانت تصلنا الاغاني والاشعار رغم المنع. و الحقيقة هي أن الادب الفلسطيني تراجع, خصوصا بعد اتفاقيات اوسلو، هناك شىء ما انهار في السنوات الأخيرة. لكن هذا لا يمنع أني بدأت ألاحظ تباشيرعودة الادب الفلسطيني ليأخذ المكان الذي يستحقه على ساحة الابداع العربي. كثيرون فسروا الرواية بعد قراءتها الأولية على أنها رصد لمحاولات سرقة الذاكرة و الهوية الفلسطينية من جانب الاحتلال ، لكنك ربطت بين الماضي و الحاضر بشكل يجعلنا نفهم أنه لا يموت. أي الوجهتين كانت أقرب اليك و أنت تكتبها؟! صحيح هناك سرقة ، ولكن ليس فقط من جانب الاحتلال، انا لدي مشكلة مع الاحتلالات والسلطات المتعددة التي توالت على حكم فلسطين، قرون من الاستعباد، تأتي قوى وتذهب، ولا تغير يطرأ على الانسان.انا عالجت في روايتي منطقة معينة في فلسطين، وتغيرها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حتى وصلت في عهد السلطة الفلسطينية, التي لا تملك ارضا، الى ما يشبه كانتونا او سجنا صغيرا، انا رمزت لتبدد الارض الفلسطينية، وحبس ناسها، وسرقة ذاكرتهم، وانا لا أستثني احدا من المسؤولية. و في الرواية نقد للقوى السياسية الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، والانقسام غير المفهوم. هل تعتبر هؤلاء أيضا مجانين ؟ لا.. هؤلاء الذين اجرموا بحق ارضنا وشعبنا ليسوا مجانين، هؤلاء هم العقلاء .المجانين هم من حافظوا على الذاكرة، والعقلاء هم المستعدون للبيع والتفريط، حتى لو لوح لهم العدو بوهم. تناولت في رواية" قبلة بيت لحم الأخيرة " رفضك لمفهوم الاسلام السياسي و تصدره للمشهد..لماذا لم تكن غزة هي مسرح أحداث الرواية؟ في تلك الرواية يعود البطل الى مدينته بيت لحم، بعد 20 عاما قضاها في سجون الاحتلال، ليرصد التغيرات التي حدثت لمدينة ليبرالية مثل بيت لحم، فيجد كيف فصلها الاحتلال بأسوار عن توأمها القدس التي لا تبعد عنها سوى خمسة كيلومترات، ويرى ما حدث على الصعيد الاجتماعي، من تأسلم قطاعات واسعة في المدينة. و هذه الظاهرة في فلسطين ليست مقتصرة على غزة فقط، كان هناك امل ان تتطور فصائل الاسلام السياسي، خصوصا في ظل المواجهة مع الاحتلال، الى افق اكثر ليبرالية، ولكن للاسف هذا لم يحدث. وهذا اساء لها وأضر بشعبنا وقضيتنا. ماذا عن مشروعك الأدبي القادم؟ لدي عدة روايات مخطوطة، وانا اكتب بانتظام، كانت لدي خطة معينة للنشر، والآن بعد الجائزة فانني اشعر بثقل المسؤولية.احتاج الى لملمة نفسي، خلال الاسابيع المقبلة، لأقرر ماذا سأقدم.