كلنا خرجنا من معطف جوجول بهذه الكلمات تحدث دوستويفسكي أحد كبار أساتذة الأدب وتلامذة جوجول- عن رائعة أبي القصة الروسيه' المعطف' التي لا تزال إلي جوار روائعه الأدبية الأخري مثارا لإعجاب جمهور عريض من القراء والنقاد والأكاديميين في مختلف أنحاء العالم رغم مرور قرن ونصف القرن علي رحيله في4 مارس1852 بعد حياة قصيرة لم تمتد لأكثر من43 عاما أنتج خلالها من الروايات والقصص القصيرة ما كان وقتها بمثابة الصدمة للمجتمع الروسي المغرق في الطبقية, ليفيق معها الروس علي مدي قسوة واقعهم واستعباد طبقة رقيقة من الأمراء والنبلاء والملاك و'الجنرالات'( وهو في روسيا القيصرية لقب مدني يمنح لكبار الموظفين) لعشرات الملايين من صغار الموظفين والمزارعين والعمال والأجراء. رحلة جوجول وقد ولد جوجول في أوكرانيا أول أيام شهر إبريل عام1809, وسافر إلي سانت بطرسبرج عام1828 ليحترف التمثيل, لكنه قرر هناك الاتجاه إلي الكتابة. وفي عام1832 أثار كتابه' أمسيات في مزرعة قرب ديكانكا' انتباه الناس, وهو عبارة عن مجموعة من الحكايات الأوكرانية الفكاهية التي أضحكت روسيا كلها حتي عمال المطبعة وهم يقومون بصف الحروف, وولد نجم الأدب في الثالثة والعشرين. في هذه الفتره تعرف جوجول علي بوشكين شاعر روسيا الأشهر,وقرأ عليه بعض ما كتب من مذكرات, فاقترح عليه بوشكين أن يصوغها في قالب أدبي مسرحي فكانت مسرحية جوجول الشهيرة' المفتش العام'(1836) وهاجم جوجول فيها الفساد المتفشي بين موظفي الحكومة المحلية بسخرية لاذعة( قدمها التليفزيون المصري في السبعينيات في مسلسل ممصر بقلم عبد الرحمن فهمي), وقد جاء النجاح المدوي للمسرحية واحتفاء كبار النقاد بها ليثير مخاوف جوجول نفسه. فقد جعله يشعر بقلق شديد من بطش السلطات القيصرية آنذاك ويخشي النفي إلي سيبيريا( علي عادة النظام القيصري في معاقبة المجرمين والمشاغبين من الكتاب) ليقرر بعدها الإقامة في الخارج, حيث عاش في روما بين عامي1836 و.1844 إلا أن جوجول الثائر عاود التألق ثانية ليصدر الجزء الأول من روايته' نفوس ميتة' التي تدور أحداثها حول محتال وضع خطة لخداع الحكومة عن طريق استعمال أسماء خدم ميتين, لتأتي هذه الرواية بمثابة صدمة الإفاقة للمجتمع الروسي لما انطوت عليه الرواية من كشف المسكوت عنه وفضح مثالب القهر و النظام الاستبدادي بالنقد الجريء الموجع المضحك, حيث يفاجأ القارئ بمواقف هزلية تثير سخرية لاذعة وكراهية لشخصيات شريرة متوحشة لا ترحم الفقراء المعدمين المستغلين من أقنان الأرض. وبعد الدوي الواسع لنجاح الجزء الأول شرع جوجول في كتابه الجزء الثاني من' نفوس ميتة' وانتهي منها بالفعل1851 لكن سوء الحظ اوقعه تحت تأثير أحد رجال الدين المتعصبين الذي كان يعتبر العمل الأدبي مقيتا إلي الله. وقد طلب من جوجول أن يتلف الجزء الثاني من' نفوس ميتة' ويكفر عن إثم كتابته للجزء الأول بالعودة إلي الدين,وبالفعل قام جوجول في شهر فبراير1852 بإحراقها, وأصيب بعدها باكتئاب شديد وامتنع عن تناول الطعام ولم يعش بعد ذلك إلا بضعة أيام. معطف لايبلي وعلي الرغم من أن قرنا كاملا قد مضي, وأن قرنا آخر قد انقضي منه نصفه, فلا يزال معطف' اكاكي اكاكيفيتش', بطل قصة جوجول, جديدا لم يعرف البلي... بل ولم تخل جيوبه من فضة الإنسانية المعبأ بها علي مر تلك الحقبة من الأزمنة المتعاقبة. ومنذ ذلك الحين أيضا والإنسان يتوارث الظلم وتتعاقب علي كاهله قلوب رثة مزقها حقد الإنسان علي الإنسان, والتعامل الفوقي والتعاظم الطبقي السواد الذي يملا قلوب بني البشر. إن قراءة أولية لهذه القصة تفرض علي القارئ الشعور بانعدام الحيلة إزاء ما يجري من أحداث تميل إلي الواقعية المحبطة بكافة مفرداتها وتفصيلاتها وما تعكسه من متناقضات, فمرة نجدنا نركن إلي العطف علي هذا الرجل' اكاكيفتش' الخاضع الخانع, والذي لازمه بؤسه منذ الولادة وكأنما ولد معه وختم بالبؤس علي جبينه لدرجة أن عاني الأهل في إيجاد مسمي مناسب له فسمي علي اسم أبيه اضطرارا.( وصنع الاسمان معا علي الطريقة الروسية جرسا فكاهيا: أكاكي أكاكيفتش أي أكاكي ابن أكاكي وأكاكي واحدة تكفي). ومرة تجد الإحساس يميل نحو السخط إزاء سلبيته المفرطة أمام الحياة لدرجة تمنحك الحق في التشفي, إلا أن طيبته وهدوءه يجبرانك علي التأني في الحكم. إن لهذا الكاتب ولهذه القصة بالذات معطفا تربي في كنفه جيل من مبدعي الأدب الروسي الكبار.. وكتابته تتميز بالتفرد والتنامي, وكأنها كتلة بشرية اجتمع فيها المجتمع الإنساني برمته في بضع كلمات اختزلته.. ونجدها تتناسب مع كل العصور والأزمنة وتحاكي القراء بشتي مستويات الوعي والإدراك فيتذوقها القارئ العادي ويتعلم منها الأديب, وتعجب الروسي والعربي وما بينهما. وهذا ما جسدته عبارة دستويفسكي التي استهلت هذه القراءة.. كان يقصد ما فعله جوجول حين ركز علي اختلاجات موظف الدرجة التاسعة ومدي فرحته بمعطفه الجديد بعد أن اهترأ القديم منذ زمن طويل واستنفد كل مراحل الترقيع حتي صار مثار سخرية الزملاء حين وصف تلك الفرحة بعد معركة مع النفس ومع الفقر ومع الترزي, فإنه أسس دون أن يعي المذهب الواقعي في الأدب الروسي. ولكل أدب واقعيته, ولكل واقعية أدب: ديكنز في انجلترا, بلزاك في فرنسا, محفوظ في مصر, و.. جوجول في روسيا.