استطاع الأدب الرفيع أن يعبر عن ذري المآسي أجمل تعبير، ليرسم آهة الإنسان متسعة قدر الكون، وأتذكر »أكاكي« »جوجول« وهو يحلم بمعطفه، يملكه وحده ويمضي به مختالا بين الذين حرموه هذا الأمل البسيط وقطعوا دونه وبلوغ الأمل الأسباب، لكنه بعد امتلاكه المعطف، قعد له اللصوص كل مرصد وسرقوا معطفه، حلمه الذي أضاع العمر فيه، وأنفق كل ما يحوز من مال قليل، حتي صار جيبه خاويا ينفضه بين الحين والآخر فلا يجد غير شعور الغبطة، وهو يتحسس معطفه، فيواسيه الإحساس ويمنحه الأمل في غد أفضل، سلبه اللصوص عمره الذي مضي موازيا لحلمه، كان يمضي في الشوارع، وكأن الدنيا بأسرها قد حيزت له، يا سر الحياة في هؤلاء الفقراء، كيف لهذا الرجل المسكين يبني قصرا من رمال علي أرض عريضة الأبعاد مترامية الأطراف وطعامه السرور فحسب، أجيبي يا ظلمة الليل علي هذا الفتي القانع بقليل من عذاباتك، وها هو يقع تحت شفرتك الحادة القاسية، لحظة لا يسميها امرؤ إلا بما تستحق من أحط الصفات وأبشعها، يخرجون عليه هؤلاء الخونة تحت جنح الليل الهيم، ولا يهمهم صراخه »إلا معطفي«، انه روحي المتبقية في بدني الهزيل، ولا يهزهم شجنه المنبث في صوته المبحوح ولا أثناهم عن البطش به جسده النحيل لا يحتمل الضرب المبرح، بكل ما في الأعراف الإنسانية من قسم، قاسمهم أن يتركوه، وألا ينزعوا عنه روحه، معطفه الجديد، وحلمه الوليد، لكنهم كانوا أقسي عليه من الجلاميد بل كل الصخور الموجودة علي ظهر الأرض، لم يرحموا حتي هذه الحشاشة التي توشك ان تغادر جسده إلي كوة في السماء بعيدة، كان يرسل طرفه لتتبعها عيناه إلي الأبد، مات »أكاكي« الرجل البسيط ذو الحلم البسيط وهو يدافع بآخر أنفاسه اللاهثة عن ذلك الحلم فأبي هؤلاء الفجرة ألا يكون له خط من شئ يسير في متعة يسيرة، أما الذين استنجد بهم »أكاكي« فقد جعلوا أصابعهم في آذانهم من أول الشرطي، إلي المارين في الشوارع كالأشباح إلي ذلك الرجع القادم من حوائط وجدران البيوت الميتة التي ليس فيها بشر »ولا حس« أو شعور، فاضت الروح وانطلقت في كل مكان تحوم حول الذين خذلوا صاحبها وغلقوا دونه الأبواب، ذهبت إلي المخفر تؤنب هذا الذي لم يستمع لصوت المظلوم لأنه جاءه بغير واسطة تذكر، أخذت تدور لتنتقم لصاحبها من الذين خانوه وخانوا وطنه وسرقوا أعز أحلامه في لحظة فُجر ليس بعدها من فُجر، لقد بكيت علي »أكاكي« مثلما تبكي أي جمادات من حولنا حين تعز دموع البشر ولا ترتجف أوصالهم لجريمة ترتكب في حق مظلوم وهيض الجناح ضعيف الظهر، هل عدنا إلي هذه الأيام التي عصفت بكل القيم وهدت أبيات الشرف التي كانت ترتفع علي أصول من ضمير يحمي الضعفاء والمقهورين، هل أصبحت حياة هؤلاء كلها هامشا ليس يعني أحدا ان يدخل هذا الهامش الكبير صفحة الأحياء، أعيدوا الحلم المسروق قبل ان يكون مصيره مثل مصير هذا الرجل »أكاكي«، إنني أخشي ان يظل الواقف علي باب العدالة أعواما يدق فلا من مجيب، بل يأتيه نفس الصوت من بعيد جدا، ان تلكموا اللحظة لم تحن بعد، وأن النداء يتكرر لكنه يمسي ويصبح أنينا مشبوبا باللهيب، نعم هو حلم، أقصي ما يتمناه البسطاء والضعفاء، من بين تيارات عاتية من ظلم صارخ لا يريد أن يحمي هذا الشعب من لصوص الليل والنهار الذين لا يدعون حتي الفتات وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا.