عن مركز الأهرام للنشر صدرت قبل أيام رواية "شوق المستهام" للروائية الكبيرة سلوى بكر التى تصحبنا فى عالمها المجنح بالخيال، وترتحل بنا فى فترة تاريخية تتضمن صقلا مهما لمعارف القارئ، متكئة على براعتها فى السرد، وأهمية إيقاظ الوعى بالهوية من آن لآخر. وتعد أديبتنا هى أول من وضع علم الاستكشاف الأدبى على تلك الفترة الوسيطة فى تاريخنا، فكتبت فسيفساء كبرى من التراث تحتفى بالهوامش والتفاصيل الصغيرة التى أهملها المؤرخون وسكتوا عنها. بطلنا “أمونيوس” راهب مسالم من الودعاء، يصله خطاب إلى مقر الدير فى “مريوط”، يخبره بمرض أمه وضرورة سفره لرؤيتها فى قريته “قربيط”. وخلال الرحلة تتناثر شذرات المونولوج الداخلى، وتتداعى الذكريات، وندرك أن أمونيوس لم يذهب لقريته منذ ست سنوات.. آيات إيمانية يسترجعها أمونيوس من الكتاب المقدس نثرتها سلوى بكر ببراعة لإضاءة النص بلمحات تضفى السكينة والوجد الصوفى على معظم مقاطعه.. وذلك بلغة أدبية منفتحة على المروج الخضراء، وحبات الندى، وعناقيد الكروم، وفصوص الملح المنسحقة، وقراطيس الأقدمين ووصفاتهم وكتبهم. وتطالعنا حكايا فرعية تتقاطع مع السرد بنعومة شديدة . يبدأ مستهل الحكايا باكتشافه وفاة رفيقة الطفولة سيرين .. صنوان روحه التى ولدت معه فى أسبوع واحد ولم يعشق امرأة سواها .. أما بقية القرية فقد أكل السل معظم عظام قاطنيها.. وفقدت شقيقته تكلا بصرها بعد وفاة أمه التى لم يمهله القدر لوداعها .. ثم جاءته بسببها إشارة من الرب : “اذهب إلى تكلا من أجل تكلا”. والمعنى الذهاب إلى القديسة تكلا؛ تلميذة بولس الرسول طلباً لشفاعتها لشقيقته تكلا . “ .. حياتنا ملوءة بالإشارات التى يرسلها لنا الرب كى نهتدى بها فى طريق الحياة”.. هذه هى كلمات الأب “سيرابيون” معلما.ً السرد هنا يتحرك للأمام وللخلف فى آن .. ومن خلال إشارات وعبارات يتوهج النص بالمعانى المختزلة “كنوزك يا مصر لا هى فضة ولا دهب .. كنوزك مدفونة فى كتب من مضى ومن ذهب” جفلت نفس أمونيوس قليلاً حين سمع هذه العبارة من رجل ذى كرامات ربانية يأكل الطير من يده حتى الغراب الحذر .. قبل بطلنا يديه وأخبره مانتوس العابد الخاشع أنه سوف يصادف من الأمور ما سيصعب على نفسه وسيرى ما لم تره عين من قبل .. وإذا صادفه بشر ليسوا مدركين لما يدركه فليترفق بهم ويطلب لهم المغفرة فى كل حين .. وقد كان . ويجوب أمونيوس أرض مصر بحثاً عن دواء يتطبب به أهل البلاد فيذهب إلى المعابد القديمة (البرابى) بالبلاد، والتى تهدم معظمها بعد نهب تماثيلها ولفائفها وحرقها أحياناً طلباً للتدفئة بحجة أن اللفائف القديمة مليئة بالكفر والسحر الشيطانى الجالب للشرور، ولم يتبق منها سوى بربة منف ودندره، وبعد زيارته لمعبد منف وجد بغيته فى لفيفة مكتوبة بالقلم القبطى، بها علاجات شافية لما يبحث عنه . وتستعرض الرواية المكابدات التى عاناها البطل “أمونيوس” حتى وصل إلى اللحظة التى شعر بها .. بشوق يشبه شوق المستهام لملازمة ابن وحشية؛ الرجل المسلم الكريم الذى تعرف عليه وكان مشتغلاً بالفلاحة والكيمياء والفلك والطلسمات وفنون السحر. ابن وحشية هو الذى نبهه إلى أهمية علوم الأقدمين التى ضاع معظمها بحجة الكتابات الوثنية المحرمة . وتخلص الرواية- فى مقطعها النهائى- إلى الحسرة على تلك الكتابات المندثرة، التى كان يجب المحافظة عليها، واستخراج ما يعين على فهم الكون وأصل الحياة من بين ثناياها. وفى الختام يقرر “أمونيوس” تغيير مساره فى استكمال معارفه، ويبدو كأنه ترك الدير بمن فيه لأقرانه مستعيناً بآية من الكتاب المقدس : “طوبى للكاملين طريقاً”. رواية عميقة المغزى تدعو لأن يكون الإنسان فى خدمة الإنسان .. تجربة روحية لمبدعة كبيرة تنحاز دوماً للمهمشين والكتل البشرية عبر التاريخ.
الكتاب : شوق المستهام( رواية) المؤلفة : سلوى بكر الناشر : مركز الأهرام للنشر 2015