انشغلت العديد من الأدبيات بمحاولة الإجابة عن سؤال: كيف يمكن وضع الدول المأزومة - الفاشلة أو الهشة - مرة أخرى على طريق الاستقرار السياسي، وإعادة مؤسسات هذه الدولة إلى العمل مرة أخرى، خاصة فى حالة المجتمعات الخارجة توا من حالة الحرب الأهلية، إذ غالبا ما ترتبط حالات الدولة الفاشلة بحروب أهلية. حيث تصبح الأخيرة سببا أو عرضا للدولة الفاشلة والمأزومة. وقد تطور فى هذا السياق العديد من النظريات التى أعطت بدورها مسئولية كبيرة للقوى الخارجية- ممثلا فى القوى الكبرى، أو المنظمات العالمية، أو القوى والمنظمات الإقليمية - فى بناء السلام فى هذه المجتمعات. غير أن نجاح الدور الخارجى فى تحقيق تلك المهمة يظل مرهونا بعدد من الشروط المهمة، يتعلق بعضها بسياسات القوى الخارجية، ويتعلق بعضها الآخر بطبيعة المجتمعات المحلية ذاتها. التسوية الطبيعية للصراع الداخلى عبر الحرب الأهلية على الرغم من أهمية الأدبيات المعنية ببناء السلام من خلال القوى الخارجية والتى تشهد تطورا متسارعا، مازالت هناك الكثير من الأدبيات المقابلة التى مازالت تنظر بدرجة من الشك فى الدور الخارجى فى هذا المجال.من أبرز تلك الآراء ما ذهب إليه جيفرى هيربست Jeffrey Herbstt من أن المسار الأنسب للتعامل مع حالات الدول الفاشلة هو تركها لتواجه أزماتها الداخلية الهيكلية، حتى ولو أدى ذلك إلى سقوطها، أو ما عبر عنه «دعهم يفشلوا» «let them fail»، ويمروا بالمسار الطبيعى لعملية بناء الدولة، من خلال عمليات الصراع والتعاون، دون أى تدخل خارجي. ويتفق معه جيرمى وينستين Geremy Weinstein، الذى يؤكد ضرورة ترك الدول الفاشلة لتمر بحالة الصراع الداخلي، بصرف النظر عن مستوى العنف الذى يميز هذا الصراع، حتى يستطيع أحد الأطراف المتصارعة حسم هذا الصراع وفرض رؤيته وشروطه للسلام. ويستند وينستين هنا إلى أن «التسوية الطبيعية للصراعات والحروب الأهلية» التى تستند إلى فرز حقيقى لموازين القوى، ووجود طرف واضح منتصر، دون تدخل خارجي، هى الأكثر قدرة على بناء سلام دائم ومستدام، وتحقيق تنمية سياسية واقتصادية فى مرحلة ما بعد الصراع. ويستند هذا الاتجاه إلى مبررات عديدة، منها أن مبادرات بناء السلام من الخارج هى بطبيعتها مبادرات طموح تتجاوز الواقع الموضوعى القائم فى الدول المأزومة والفاشلة، وتسعى فى جوهرها إلى تجاوز «المسار الطبيعي» الذى يجب أن تسلكه عملية بناء الدولة فى هذه الدول، حيث يؤكد هيربست أن الدول الفاشلة غالبا ما تعانى من مشكلة هوية بسبب الطريقة المصطنعة التى نشأت بها هذه الدول، خاصة خلال مرحلة الاستعمار، ومن ثم فإن هذه الدول لم تحسم مشكلة الهوية بعد، والتى تعد شرطا أساسيا فى بناء الدولة الوطنية. شروط بناء السلام من الخارج فى مقابل هذه الرؤية، مازالت النسبة الأكبر من الأدبيات تركز على أهمية الدور الخارجى فى بناء السلام فى الدول المأزومة والفاشلة، بل وتعتبره أساسيا فى هذا المجال، ليس فقط لاعتبارات حماية الأمن العالمى والإقليمي، ومحدودية قدرة الأطراف الداخلية على تجاوز مرحلة الحرب الأهلية، ولكن لاعتبارات أخلاقية أيضا. وانطلاقا من ذلك فقد وضعت هذه الأدبيات عددا من الشروط الأساسية لنجاح الدور الخارجى فى الوفاء بهذه المسئولية، ركزت معظمها على مدى امتلاك القوى الخارجية وحلفائها المحليين تصورا واضحا حول مرحلة ما بعد الحرب، وطريقة تفاعل القوى والنخب المحلية مع عملية بناء السلام المطروحة، وطبيعة المجتمع المحلى ذاته من حيث درجة التعدد والخبرة الصراعية/ التعاونية بين النخب والمكونات المحلية، ومدى وجود توافق إقليمى حول هذا المشروع…إلخ. وقد أثير فى هذا السياق عدد من التساؤلات المهمة حول طبيعة النظام السياسى الذى يتم فرضه من الخارج أو بمساعدة القوى الخارجية، بمعنى لمن تكون الأولوية: فرض نظام ديمقراطي، أم بناء دولة قوية بصرف النظر عن درجة ديمقراطية النظام؟ وقد أعطت بعض الأدبيات الأولوية لبناء نظام ديمقراطي. والافتراض المطروح هنا أنه كلما زادت درجة ديمقراطية النظام السياسى زادت قدرة هذا النظام على البقاء والفعالية، الأمر الذى ينعكس إيجابا على عملية إعادة بناء السلام. والتفسيرات المطروحة هنا أن النظام الديمقراطى هو الأكثر قدرة على استيعاب وتمثيل القوى والفاعلين السياسيين الجدد، خاصة فى حالة المجتمعات المتعددة عرقيا أو دينيا. وهناك العديد من الدراسات الإمبريقية التى أكدت صحة هذه الفرضية، فقد انتهى أندرو إنترلين، ومايكل جريج فى دراستهما حول تاريخ النظم الديمقراطية المفروضة من الخارج (2008) إلى أن نجاح القوى الخارجية فى تأسيس نظام سياسى ديمقراطى قوى ومتماسك، يسهم فى بقاء هذا النظام لفترات زمنية أطول بالمقارنة بحالات الديمقراطيات الهشة. غير أنه تظل هناك وجهة نظر أخرى، لا يمكن التقليل من أهميتها، ترى أن المسألة لا ترتبط بمدى ديمقراطية النظام السياسى المفروض من الخارج بقدر ما ترتبط بمدى نجاح القوى الخارجية فى بناء مؤسسات دولة قوية، بمعنى أنه كلما نجحت القوى الخارجية فى بناء مؤسسات سياسية قوية زادت فرص نجاح بناء السلام. التفسيرات المطروحة هنا أن مدى نجاح عملية بناء السلام أو إعادة بناء الدولة لا يعتمد على مدى قدرة مؤسسات هذا النظام على تمثيل الفاعلين السياسيين بقدر ما تعتمد على مدى قدرة مؤسسات هذا النظام على القيام بوظائفها السياسية والاقتصادية والأمنية، والقدرة على ضبط التفاعلات والمطالب وليس مجرد التعبير عنها، خاصة فى المراحل الأولى من حياة النظام. ومن ثم تذهب وجهة النظر تلك إلى أن النظم الديمقراطية (المفروضة من الخارج) هى الأكثر ارتباطا بالعنف وظهور التحديات السياسية الداخلية، خاصة فى حالة المجتمعات شديدة التعددية، وذلك على عكس النظم الأقرب إلى الأوتوقراطية. وواقع الأمر أنه قد لا يوجد تناقض جوهرى بين وجهتى النظر السابقتين؛ فقد يرتبط فرض النظام الديمقراطى بدرجة من العنف والتحديات السياسية فى المراحل الأولى من بناء النظام ولكن على المدى البعيد يعتبر النظام الديمقراطى هو الأكثر ارتباطا بالاستقرار والقدرة على البقاء، ومن ثم السؤال يتعلق هنا بحجم التكلفة السياسية والمادية والبشرية التى ترتبط بالمرحلة الأولى من بناء هذا النظام، ومدة هذه المرحلة، وقدرة المجتمع على تحمل هذه التكلفة. ومن ناحية أخرى، قد تكتسب وظائف الضبط، والوفاء بالاحتياجات الاقتصادية والأمنية، أهمية نسبية أكبر فى المرحلة الأولى من بناء النظام بالمقارنة بوظائف المشاركة والتمثيل والتعبير عن المصالح، ولكن عند نقطة معينة فإن المشاركة والتمثيل والتعبير عن المصالح تعتبر هى الآلية الأكثر فعالية للقيام بوظيفة الضبط والاستقرار، خاصة فى حالة المجتمعات شديدة التعددية، ومن ثم فإن السؤال يتعلق هنا بتحديد النقطة التى يجب عندها التحول من أولوية وظيفة الضبط والوفاء بالاحتياجات الاقتصادية والأمنية إلى أولوية وظائف المشاركة والتمثيل والتعبير عن المصالح. وتزداد الأمور تعقيدا فى حالة المجتمعات التى تشهد حالة من التعددية (العرقية أو الدينية). والافتراض المطروح هنا أنه كلما زادت درجة التشابه القومى والدينى للمجتمع زادت فرص بناء نظام سياسى مستقر بعد الحرب، وأنه كلما زادت درجة التعددية الإثنية أوالدينية أو المذهبية داخل المجتمع تراجعت فرص بناء هذا النظام. ويرجع ذلك إلى أنه كلما زاد عمق الانقسامات الداخلية، تراجعت فرص نجاح النظام السياسى الجديد فى استيعاب هذه الانقسامات، الأمر الذى قد يقود إلى انهياره والدخول فى حرب أهلية جديدة، أو انحرافه عن المسار الديمقراطي، خاصة فى حالة سيطرة طرف بعينه على مقاليد السلطة وإقصاء باقى الأطراف. كما قد تفرض حالة التعددية تلك نموذجا لتقاسم السلطة أو أنماطا معينة من النظم الديمقراطية، ما يوجد مزيدا من التعقيدات فى عملية بناء النظام الجديد. وتؤثر التعددية العرقية على إعادة بناء الدولة من خلال تأثيراتها على الهوية القومية، وشرعية السلطة المركزية، واللذين يؤثران بدورهما على عملية التحول الديمقراطي. ويُطرح فى هذا الإطار فرضيتان أساسيتان. الأولى أن الانقسامات العرقية، أو العلاقات العرقية ذات الطابع الصراعي، تحول دون تطور هوية قومية، حيث يصبح مبدأ «حكم الأغلبية» مرادفا لاستبعاد الأقليات الأخرى. الفرضية الثانية أن «التفتت العرقي/ الديني/ الطائفي» أو العلاقات ذات الطابع الصراعى بين هذه المجموعات، تحول دون تطور سلطة مركزية تتمتع بالشرعية. ولا يعنى ذلك أنه لا يمكن بناء نظام ديمقراطى فى المجتمعات المتعددة عرقيا أو دينيا أو طائفيا، ولكن هناك شروط يجب توافرها فى هذه الحالة. إدارة التعدد العرقى عبر الدستور وهنا يثار تساؤل مهم حول الطريقة الأمثل لمعالجة مسألة التعدد العرقى أو الدينى أو الطائفى عند كتابة الدستور الجديد فى سياق عملية بناء السلام؛ حيث يثور فى هذا السياق اتجاهان رئيسان. الأول يرى أن تجاهل الدستور والمؤسسات السياسية الجديدة لهذا الواقع العرقي، أو الديني/ الطائفي، القائم قد يؤدى إلى انفجار الصراع مرة أخرى، بسبب غياب الآليات الدستورية لحسم الصراعات المستقبلية المحتملة حول الموارد السياسية والاقتصادية..إلخ، خاصة فى ظل وجود تاريخ صراعى بين هذه العرقيات، أو الطوائف الدينية. لكن فى المقابل، هناك رأى ثان له وجاهته يرى أن اعتراف الدستور ونظام ما بعد الحرب بمسألة التعددية العرقية أو الدينية أو الطائفية القائمة داخل المجتمع، وتضمين الدستور والنظام الجديد صيغة واضحة لتوزيع الموارد السياسية والاقتصادية على أساس عرقى أو دينى أو طائفي، سوف يقود فى النهاية إلى تكريس وتقوية الهويات العرقية والدينية على حساب الهوية الوطنية، الأمر الذى قد يؤدى إلى انفجار الصراع العرقي/ أو الدينى مرة أخرى، خاصة فى حالة تغير موازين القوى الاقتصادية أو الديموغرافية بين هذه العرقيات أو الطوائف الدينية. النموذج العراقي وتقدم الحالة العراقية نموذجا مهما فى هذا السياق؛ فقد أثبتت التجربة أن اعتماد نظام للمحاصصة القومية / الطائفية، ونظام الفيدرالية القائمة على أساس العرق والطائفة لم تؤد إلى بناء نظام ديمقراطى مستقر ومستدام، كما لم تؤد إلى بناء هوية وطنية تجب الهويات الفرعية العرقية والطائفية. كما أن الصيغة السياسية النهائية لمرحلة ما بعد الحرب يجب أن تستند إلى قراءة دقيقة لواقع التوزيع، والتوازن العرقى أو الدينى أو الطائفى القائم، بدءا من حجم الجماعات العرقية والدينية والطائفية المكونة للمجتمع، ونسبتها إلى إجمالى حجم المجتمع، وتاريخ العلاقات السياسية بين هذه الجماعات، والعوامل الحقيقية التى تقف وراء الجماعات العرقية والدينية والطائفية، وتاريخ هذا التسييس. فلا شك أن غياب التاريخ الصراعى بين المجموعات العرقية أو الدينية، أو وجود عامل خارجى وراء تصاعد تسييس أقليات بعينها، أو توزع المجتمع على أغلبية مقابل أقلية شديدة المحدودية، يجعل من عملية بناء نظام للمحاصصة العرقية/ الدينية/ الطائفية، أو الأخذ بنمط مواز من الفيدرالية أمرا مبالغا فيه. ويصدق ذلك على الحالة اليمنية، حيث يغيب وجود تاريخ صراعى بين السنة والحوثيين، وتتسم نسبة الحوثيين بالمحدودية الشديدة فى مواجهة أغلبية سنية، فضلا عن وقوف طرف إقليمى وراء عملية التسييس والصعود الحوثي، ما يجعل هذا النمط الصراعى غريبا على المجتمع اليمني، ولا يبرر الأخذ بنمط من المحاصصة الطائفية.