تواجه الدولة فى العديد من أجزاء العالم العربى أزمة حقيقية وغير مسبوقة، تهدد إما بانهيارها وتفكيك أوصالها أو تحولها إلى فئة الدولة الفاشلة. وتتجلى تلك الأزمة العميقة بوضوح فى كل من سورياوالعراق واليمن وليبيا والصومال، تنعكس ملامحها فى أولا: عدم قدرة الدولة بمفهومها التقليدى على بسط سيادتها وسيطرتها على أراضيها وحدودها الخارجية، وثانيا: تعدد وتصاعد دور الفاعلين من غير الدول فيها بحيث أصبحوا يشكلون تحديا وندا لها، يظهر ذلك فى حالة العراق حيث أصبح تنظيم داعش الإرهابى فاعلا أساسيا فى الساحة العراقية بعد سيطرته على كثير من المدن والقرى وسعيه لفرض إيديولوجيته وقوانينه بها، وفى الحالة السورية هناك أكثر من فاعل فبالإضافة للنظام تبرز المعارضة بشقها المعتدل فى الائتلاف السورى والجيش الحر، وشقها المتطرف فى تنظيم داعش ونظرائه من الجماعات الأصولية المتشددة، وفى الحالة اليمنية يمثل الحوثيون تحديا حقيقيا للدولة إلى جانب تنظيم القاعدة فى جزيرة العرب، وفى الحالة الليبية أصبحنا أمام حكومتين وبرلمانيين يتنازعان السلطة والشرعية ويهددان بتقسيم البلاد، ثم الحالة الصومالية حيث حركة شباب المجاهدين التى تستنزف وتعيق بناء الدولة الوطنية منذ سنوات. وثالثا: إن الصراع بين الدولة وهؤلاء الفاعلين من غير الدول تحول إلى صراع مسلح وعنيف انعكست مخرجاته فى سقوط آلاف الضحايا من القتلى والجرحى والنازحين، وتدمير واسع للبنية الأساسية ومرافق الدولة الحيوية، كما أن هذا الصراع شبه متكافئ حيث لم يستطع أى طرف حتى الآن حسم الصراع لصالحه وهو ما ساهم فى إطالة أمد الصراع وتعقد وتعدد مستوياته الداخلية والخارجية، كما أن الصراع يدار وفق منطق المباراة الصفرية وغياب حلول وسط أو تسويات عبر الحوار حيث يسعى كل طرف للقضاء على الآخر، والأخطر أن الصراع يستند لأسس عرقية ومذهبية وطائفية وقبلية. ورابعا: أن حالة عدم الاستقرار وضعف الدولة أسهم فى إيجاد بيئة مواتية لتزايد الدور الخارجى فى الصراع، بما أدى إلى زيادة حدته ودرجة استقطابه، والتحكم فى تفاعلاته وتوجيهها وفقا لأجندة ومصالح تلك القوى الخارجية. أزمة الدولة العربية تعمقت بسبب تعثر عملية التحول الانتقالي، والانتقال من خيار الاستبداد والقبضة الحديدية التى أخفت التناقضات المختلفة تحت السطح، إلى حالة الديمقراطية والتعددية التى كانت وراء اندلاع ثورات الربيع العربى وأهدافها فى الحرية والعيش والكرامة الإنسانية، بحيث أصبح الخيار أمام الشعوب العربية إما الاستبداد والدولة الأمنية وإما الفوضى وعدم الاستقرار السياسى والأمنى وانتشار العنف والإرهاب، وفشلت هذه الدولة فى البحث عن طريق وخيار ثالث يتمثل فى إنشاء ديمقراطية حقيقية تستوعب جميع الاختلافات الدينية والمذهبية والقبلية تحت مظلة المواطنة التى تساوى بين الجميع فى الحقوق والواجبات وتدفع نحو إقامة دولة عصرية بمفهومها الحديث وترتكز على مؤسسات أمنية قوية واحترافية قادرة على بسط الأمن والنظام والدفاع عن سيادتها واستقلالها، ومؤسسات إدارية واقتصادية قوية تقوم على الشفافية والمحاسبية، وحكم القانون واستقلال القضاء وحرية التعبير والإعلام وأحزاب سياسية قوية ومجتمع مدنى حيوى واحترام لحقوق الإنسان، وعملية تنموية تعيد توظيف الموارد البشرية والطبيعية صوب البناء بدلا من توجيهها صوب التسلح والصراع، وتوفر العيش الكريم للمواطنين وتقضى على بيئة الفقر والتخلف التى تفرخ الإرهاب والتطرف. لقد تعثرت العملية الديمقراطية بدورها لأنها ارتكزت فقط على جانبها الإجرائى فى إجراء انتخابات وصناديق اقتراع، ومؤسسات وأحزاب شكلية، دون أن ترتكز على ثقافة الديمقراطية وجانبها القيمى فى التعايش مع الاختلافات المتنوعة بحيث تكون عامل ثراء للمجتمع, كغيرها من المجتمعات الديمقراطية فى العالم، لكنها تحولت إلى عامل صراع وتناحر وتوظيف كل طرف للعملية الانتخابية لفرض سيطرته وسطوته على المجتمع ونفى الآخرين، مما أوصل تلك الدول إلى طريق مسدود، كما أن تشابك بعض أطراف العملية السياسية مع الخارج سواء عبر التمويل أو الترابط الأيديولوجى ساهم فى تشويه فكرة الديمقراطية وكأنها قرين للفوضى والعمالة والتبعية للخارج، ومن ثم تحولت الثورات العربية، فى نظر البعض، باعتبارها نتاج مؤامرات خارجية، ولا بديل سوى عودة القبضة الأمنية، تحت مظلة الاستقرار وحتى وإن اقتضى الأمر التضحية بالحرية والديمقراطية، وتجاهل هؤلاء أن بيئة الاستبداد والفقر والتخلف والتعصب هى التى أدت لانفجار الأوضاع واندلاع تلك الثورات بشكل غير متوقع وغير متحكم فيه. ولذا فإن تداعيات استمرار أزمة الدولة العربية, ليس فقط فى حجم مخرجاتها الهائل من القتل والعنف والإرهاب والدمار، بل إنها تمثل خصما من تاريخها والفرص الضائعة لتلك الدول فى بناء الدولة الديمقراطية الوطنية الحديثة والمتقدمة اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، إضافة لتكريس ثقافة الكراهية والاستقطاب بين أبناء المجتمع الواحد، تغذيه أجندة المصالح الخارجية، وسوف تظل هذه الحالة مادام المشهد بتفاعلاته ونمط إدارته. استعادة الدولة العربية لقوتها لن تكون عبر القوة العسكرية فقط, وإنما عبر بناء نظام سياسى حديث يرتكز على الحوار وإدارة الصراعات والاختلافات بشكل سلمى ويحتوى جميع أبناء الوطن الواحد, وهو لن يتحقق إلا بتكريس الديمقراطية الحقيقية. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد