عندما قامت ثورات الربيع العربي كان الحلم الكبير للشعوب العربية ليس فقط التخلص من أنظمة استبدادية كتمت علي أنفاس شعوبها لعقود تحت قوة القمع والبطش الأمني والاستغراق في الفساد السياسي والمالي, وإنما بناء أنظمة جديدة ترتكز علي الديمقراطية الحقيقية التي تحقق التعايش بين الاختلافات العرقية والدينية والمذهبية التي تموج بها الدول العربية, وتتبني مجتمعات ترنو صوب التقدم والازدهار. لكن أغلب ثورات الربيع العربي انحرفت عن مسارها وباتت أمام مأزق كبير, نتيجة مقاومة الأنظمة القديمة للتغيير وسعيها للحفاظ علي شبكة مصالحها السياسية والاقتصادية وتوظيف الاختلافات السياسية والمذهبية لتراهن دائما علي أن النظام القديم أفضل من الجديد, الذي جلب الفوضي والعنف وعدم الاستقرار, والانحراف أيضا جاء نتيجة التطرف والتشدد الديني الذي يمثل آفة وسرطانا في جسد الديمقراطية الوليدة. فالمتأمل في المشهد العربي الحالي سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا أو تونس أو مصر أو اليمن, يجد القاسم المشترك بينها أن الصراع يتبلور بين الفكرة الديمقراطية والتطرف الديني وهما بالطبع لا يمكن أن يتعايشا معا. ففي العراق أضحي تنظيم القاعدة مهددا وعقبة حقيقية أمام ترسيخ الديمقراطية في العراق, وتحقيق التعايش بين السنة والشيعة والأكراد تحت مظلة المواطنة التي تساوي في الحقوق والواجبات في إطار دولة القانون, ومعارك الرمادي والفلوجة الآن توضح إلي حد كبير مخاطر انزلاق العراق إلي حرب أهلية طائفية, علي غرار ما شهدته في عام2006, حيث تحاول بعض الجماعات تصوير الصراع علي أنه طائفي وأن القوات الحكومية التي يسيطر عليها الشيعة تشن حربا ضد السنة الذين يدافع عنهم تنظيم القاعدة والعشائر, وهذا ما يعكس فشلا حقيقيا في اختبار الديمقراطية بعد الانسحاب الأمريكي. وفي الحالة السورية بدأ الصراع يتحول من صراع بين الاستبداد والقمع الذي يمثله نظام بشار الأسد الدموي وبين المعارضة الثورية التي يمثلها الجيش الحر لتحقيق الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة, إلي صراع داخل المعارضة ذاتها بعد دخول تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام علي الخط واندلاع المعارك الضارية بينه وبين قوات المعارضة السورية, وتحول تنظيم القاعدة بفصائله المختلفة إلي سرطان يهدد بوأد الديمقراطية في سوريا ويشوه ثورتها, وأصبح الشعب السوري الآن يئن تحت مطرقة النظام, الذي يمارس القتل والدمار عبر براميل الوقود الحارقة, وسندان الجماعات المتطرفة, التي تنفذ الإعدام في العشرات يوميا, كما حدث أخيرا في مدينة الرقة, وهو ما جعل الثورة السورية السلمية في خطر حقيقي أمام سرطان التطرف الديني. الحال وذاتها في اليمن حيث خطر الحوثيين وتنظيم القاعدة يهدد بتفتيت الدولة وتعثر عملية التحول الديمقراطي بعد الثورة, وفي تونس يتزايد نفوذ الجماعات السلفية الجهادية وأعمال العنف والإرهاب التي تقوم بها ضد الجيش التونسي والقوي المدنية واغتيال رموزها كما حدث مع شكري بلعيد ومحمد البراهمة. وفي ليبيا تسعي الجماعات المتطرفة, مثل الجماعة الليبية المقاتلة, لوقف عملية التحول الديمقراطي وإنشاء دولة المؤسسات لتحل بدلا من القبلية التي كانت سائدة إبان عهد القذافي, وتواجه ليبيا خطرا حقيقيا مع تزايد الاقتتال بين الميليشيات المسلحة. أما في مصر فإن الجماعات الجهادية التكفيرية, مثل أنصار بيت المقدس, أخذت توسع من نطاق عملياتها الإرهابية في سيناء لتمتد إلي أماكن مختلفة كما حدث في القاهرة والإسماعيلية والمنصورة. اتساع حزام التطرف الديني والتكفيري والإرهاب في المنطقة العربية أضحي كالسرطان في جسد الديمقراطيات الوليدة, والتي تمر بمرحلة انتقالية صعبة وتواجه تعثرات كثيرة نتيجة التنازع بين القوي الإسلامية والمدنية وصعوبة تحقيق التعايش بينهما في إطار ديمقراطية تعترف بالاختلافات وتستوعبها عبر التنافس السلمي وليس وفقا لنظرية الإقصاء من ناحية, والصراع بين أنصار الأنظمة القديمة وأنصار التغيير من القوي الثورية من ناحية أخري. هذا التطرف الديني يعوق تكريس الديمقراطية من عدة زوايا, الأولي أنه يشكل بيئة ملتهبة من العنف والصراع والإرهاب وإذكاء نار الطائفية والمذهبية, والثانية أنه يعطي الذريعة لأنصار التوجهات الاستبدادية لتفريغ الديمقراطية من مضمونها تحت حجج الاستقرار والأمن, وترويج أن الديمقراطية تقود دائما إلي الفوضي والخراب, وبالتالي تصبح الشعوب العربية أمام خيارين كل منهما أسوأ من الآخر, فإما التطرف الديني وإما الاستبداد والقبضة الأمنية بدافع الاستقرار, وكلاهما لا يمكن أن يتعايش مع الديمقراطية الحقيقية التي ترنو إليها الشعوب العربية. والثالثة أنه يوفر الفرصة للقوي والأطراف الخارجية ذات الأجندات الخاصة أن تلعب علي أوتار الصراعات الحالية التي يغذيها التطرف للتدخل بشكل مباشر, وغير مباشر وإعادة رسم شكل الخريطة العربية بما يخدم مصالحها, وانشغال الدول العربية بصراعاتها الداخلية بما يعوقها عن التقدم صوب الديمقراطية وتحقيق التنمية والنهضة الحقيقية مما يجعلها دائما في موقع التابع, لأن الديمقراطية الحقيقية تعطي للدول العربية استقلالية القرار في مواجهة محاولات الهيمنة التي كانت سائدة في عهود الأنظمة الاستبدادية السابقة. الديمقراطية الحقيقية لن تتحقق إلا باستئصال سرطان التطرف والاستبداد, وهي المعركة الحقيقية التي تواجهها الشعوب العربية في المرحلة المقبلة والتحدي الأكبر لثورات الربيع, فإما أن تنتصر وتحقق أهدافها التي قامت من أجلها, وإما أن ترتد إلي أسوأ مما كان. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد