اليوم, تتوقف عقارب الضبط لحظات! حدادا علي رجل كان يحمل بين جوانحه وطنا! وكان الأقرب إلي وجدان المصريين! رحل رجل ظل ينصت طويلا لنداء الحقيقة, يتردد في الأفق! رحل رجل, ضبط أنفاسه مع أنفاس مصر, وكان يترفع, ويتسامق, في أشد الأزمات والفتن الحالقة التي تدبر لتحرق هذا الوطن! وكان حكيما, في مناخ, علا فيه الغبار, وانخفضت فيه الرياح!, ذلك حين أخذت تتسع من حولنا دوائر الذين لا يريدون إلا أنفسهم! رحل رجل سوف يعيش فينا! أتعجب من حالنا, لانري الأشياء بوضوح الا بعد ان تغيب عنا! ولانحس رؤيتها, إلا عندما لا تعود امام أعيننا! رحل البابا شنودة الثالث, بابا الإسكندرية, وبطريرك الكرازة المرقسية, وترك أثرا لاينطبع إلا في القلوب! رحل بعد أن قرأ جراحنا ونحن نتعكز علي ضعفنا فيما يتردد في صدورنا آهة مسجونة وراء قضبان المستحيل! رحل رجل, أحبه المصريون جميعا. وتركنا نشرب من كأس المرارة, نشرب, ونبكي في الكئوس! وكل يوم تدور علينا الكؤس, ولا نفيق! رحل أب, قبل أن يري القارب, ينقلب بأبنائه عند البوغاز! فيما هم يتعاركون مع أنفسهم, تتعارك, مع أنفسهم, فيما النار تزداد من حولهم, اشتعالا! ولم يدرك أحدهم, أن ما في يده كان قبضة رماد من بقايا. حريق! هاهم يسيرون, لاهم وصلوا, ولا طريقهم ينتهي! الصوت يسير في اتجاه, فيما يسير الكلام في اتجاه آخر! غير أني أثق بحكمة الضوء, ولو تأخر! لكن يبدو أن الظلام, أعدل من النور! عبرت في خاطري الآن علي نحو مفاجئ كلمات, شاعر البيان العربي الخالد أمل دنقل, استحضرها, تقديرا له, وتحية: كل الأحبة يرتحلون, فترحل شيئا فشيئا عن العين, ألفة هذا الوطن! لحظة خسوف, تحس بها الأمة في روحها! اليوم في وجه مصر تعب يحرك الكون! هي التي تحمله فوق أعناقها, إلي مثواه الأخير! دمعة صمت, يزرفها الوطن, من داخلها, من داخله, إلي داخله! رحل الرمز, لتبقي الذكري.. إلا الذكري, هي التي تظل علي قيد الحياة! ما الذي أصابك يا وطن؟ كل يوم نودع جزءا من صميمنا. كل يوم نودع أنفسنا, بأنفسنا نموت مرة. لكن بعضنا يشعر بالموت, ألف مرة! وبعضنا يموت قبل الأوان, وإن مات في أوانه! بعضنا يعود, بعد غياب طويل, غير أن العودة بعد غياب طويل, غير ان العودة بعد الغياب, كثيرا ماتكون غيابا آخر! وبعضنا, غيابه, صورة رائعة, من أروع صور الحضور! وتكريما لمن اذا غاب حضر, علينا أن نتسلح بالضوء! وبوعي جديد, وحشد طاقة الإرادة المتوافرة لدي الأمة, حول مشروع سياسي, هو الحلم قادر علي تصور المستقبل, يحقق المقدور عليه فكرا, وفعلا, ذالك إذا وضعت الإرادة في خدمته. مصر هي البلد الوحيد الذي يحمل فيها كل مصري, نفس فصيلة دم أخية! علينا أن نتذكر, أن هذا الرحيل, يضيف إلي عزيمتنا عزما في تحمل هذا الابتلاء وان ابتلاء المؤمنين حتي النهاية! يزيد من وطأة الأمر, وعسره اليوم, أن البلاغة لاتجيء بعد هذه الكلمات: مصر وطن يعيش فينا, وليس وطنا نعيش فيه وفي السياق نفسه تمر بخاطري, الكلمات الخالدة للمناضل المصري مكرم عبيد باشا, في رده علي رسالة ملكة بريطانيا, التي أبدت تعاطفا مع أقباط مصر, وتدعوهم إلي إقامة دولة في جنوب مصر, فكان رده درسا لأي مسيحي, وأي مسلم قال نحن نصاري دينا مسلمون وطنا ثم, دعا اللهم اجعلنا نصاري لك.. مسلمين لمصر!.. مصر تحاول أن تقنع نفسها, بأنك مازلت هناك,وأنك فقط أستسلمت لنوم عميق! مصر اليوم هي, التي تتلقي فيك العزاء! ظني, أن هذا الفراق, هو نوع من الاستفتاء علي وحدة الوطن! علي الرغم من أنني أكاد أسمع صوت الفراغ يتردد في الأفق! [email protected] المزيد من مقالات د . محسن عبد الخالق