يحزن المرء عندما يرى من يختلفون مع بني وطنهم في الرأي، فينعتونهم بقبيح القول، ما يجعله يتساءل: كيف تقوم لنا قائمة، بينما تنطبق علينا مقولة ابن تيمية: "بعض الناس مثل الذباب، لا يقع إلا على الجرح". وهؤلاء بضاعتهم استخراج أخطاء الآخرين، كأنهم ذباب،لا يقع إلا على الأذى؟ أين هؤلاء مما يجب أن نتحلى به من "الإنصاف"، الذي دعانا إليه الإسلام؟ وهل "الإنصاف" إلا بأن تشعر بالطمأنينة إلى عدل مخالفك، وعدم تجاوزه في حكمه عليك، والتعامل معك، برغم ما بينكما، من بغضاء، أو عداوة؟ لكن للأسف.. ندر هذا الخلق، حتى قال الإمام مالك: "ما في زماننا شيءٌ أقل من الإنصاف". وكان زمان مالك القرن الثاني الهجري! وعلق القرطبي: "هذا في زمن مالك.. فكيف في زماننا اليوم؟".وكان زمانه القرن السادس الهجري! ولأهمية الإنصاف، وأنه لا سعادة للناس إلا به، جعله الإسلام عبادة عظيمة، بدونها تنعدم التقوى. فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ".(النساء:135).. وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى".(المائدة:18). والمعنى: لا تحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا عليهم، أو أن تقولوا فى حقهم ما ليس فيهم، أو أن تظلموهم بالأقوال، أو الأفعال، فهذا وأضرابه، مخالف لتقوى الله. وهذا الأمر نفسه تكرر في قوله تعالى: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ". (المائدة:2). قال ابن كثير: "لا يحملنَّكم بغض قومٍ كانوا قد صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، عام الحديبية، على ألا تعدلوا في حكم الله فيهم، فتقتصوا فيهم ظلمًا، وعدوانًا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد."
من هنا حرص رسول الله على تربية أصحابه على التحلي بالإنصاف. ومن ذلك موقفه مع حاطب بن أبي بلتعة، إذ أنصفه بالقول: "إنه قد شهد بدرًا، وإنك لا تدري لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: "اعملوا ما شئتم فإني غافر لكم".(البخاري). وهناك الآلاف من مواقف الصحابة والتابعين، التي تدل على تحليهم بهذا الخلق الكريم، مع العلم بأن سلوكه ليس بالأمر الهين، إذ يحتاج إلى تدريب على نبذ الهوى، وترك الغرض.
قال ابن المقفَّع: "أعدلُ السَّير أن تقيسَ الناسَ بنفسِك، فلا تأتيَ إليهم إلا ما ترضى أن يٌؤتى إليك"، عملا بالحديث: "لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسِه."(البخاري).
وهذا كله مصداق قول العلماء: "الدنيا تصلح بالكفر والعدل، ولا تصلح بالإيمان والظلم".. فهل وعينا الأمر، واختلفنا، دون هضم، لما للمخالف من حق، وعدل؟ [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد