ما أحوجنا إلى العدل في زمن قلَّ فيه العدل وغلب فيه التعصب، فكثرت فيه الصراعات والمشاحنات، ونادرًا أن تجد من يعدل ويتحرى العدل في حكمه وكلامه على الآخرين؛ وذلك بسبب غلبة التعصب الممقوت الذي هيمن على عقول الكثيرين فصاروا يحمكون عن هوى، لا على أساس قواعد وضوابط ينبغي تحريها واستحضارها عند إصدار حكم ما. وأصبح هذا التعصب -للأسف- شائعًا بطريقة فجَّة في إعلامنا المسموع والمرئي والمكتوب، بالرغم من أن هذا يخالف ميثاق الشرف الصحفي؛ إذ ينبغي أن يستند حكمُنا على شيء ما إلى ضوابط ووثائق لا إلى الهوى والتعصب. فكل كاتب أو محلل أو باحث لا بد له أن يتحرى الموضوعية والانضباط في كلامه، راجيًا وجه الله تعالى، مستحضرًا أنه مسئول أمامه سبحانه عما يكتب، ورحم الله من قال: وما من كاتبٍ إلا سيبْلى ** ويمحو الدهرُ ما كتبت يداهُ فلا تكتبْ بخطك غير شيء ** يسرُّك في القيامة أن تراهُ وقد أرثى لنا القرآن الكريم قاعدة أخلاقية ومنهجية في التحري والعدل وعدم كتمان الحق حتى في الحكم على المخالف، حيث قال ربنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، قال ابن جرير الطبري في تفسيرها: "يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيامُ لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددْتُ لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصِّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيه بأمري، ... ولا تحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة"ا.ه. فيا من حُمِّلْتَ أمانة الكلمة كاتبًا او متحدثًا أو معلمًا أو باحثًا، لا يجعلك كرهك لشخصي ما ألا تنظر في قوله وتصرفه هل هو عدل أم جور؟ ولا يمنعنك بغضك لشخص ما أن تناقش مقالته بعين العلم لا بعين الموقف الشخصي والهوى، ولا تمنعك عداوتك لشخص ما من أن تنصفنه، ولا يحملنك حقدُك على أن تصب جام غضبك على من تتحقد عليه باسم العلم والموضوعية. فاعلم أن الكلمة أمانة، وأنك عنها مسئول أمام رب الأرباب جل وعلا الذي قال في محكم آياته: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة ق: 18]. لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر