كان بيسل رجل أعمال، لكنه تمتع بشهرة أوسع بين المهتمين بالأبحاث العلمية، انحصر مشروع اهتمامه بالخلاءات المعرفية الصامتة، لاستشفاف كيفية انتقال أشباح الأشخاص الأحياء. بدأ تجاربه مع صديق له يدعى فينسي، اختبارًا لاقتدار الإرادة على استحضار طيف لإنسان فى فضاء مغاير لفضائه الخاص. ترى عندما يغادر الإنسان الجسد، أليس من المحتمل أن يرفض العودة إلى جسده؟ ألا يمكن أن تستبد به عوائق تخلخل عودته إلى جسده؟ كانت التجارب السلبية متعددة، لكن التجربة الأخيرة أكدت ثبوت التلاقى مع الطيف وجهًا لوجه؛ إذ جلس كل منهما فى توقيت مواز للآخر، والمسافة الفاصلة بينهما مقدارها ثلاثة كيلومترات، ركزًا فى تواصلهما معًا، وفرض بيسل نفسه كشبح حى يتحرك عبر الفضاء. فجأة رأى فينسى طيف بيسل واقفًا فى حجرة نومه، ورغم قصر مدة ظهوره، فإنه كان واضحًا جدًا وحقيقيًا، لكنه كان شاحبًا متوترًا، وغير مهندم الشعر، أفتقد فينسى القدرة على الحركة والتحدث، وفى الحال أختفى بيسل. هرع فينسى إلى مسكنه ليخبره بنجاح التجربة، فدهش عندما وجد باب شقته مفتوحًا، ويغمرها عنف تدمير الأثاث والكتب، ولم يعثر عليه، فسأل البواب فأخبره أنه شاهده مغادرًا، أشعث الشعر. وبالتوازى مع غياب بيسل الممتنع عن كشف أسراره، تلبس فينسى هاجس حلم دائم فى النوم والصحو، ذلك أن صديقه يستغيث به من معاناة لا تنطفئ، ولأن الوجود فى العالم ليس صيغة سكونية؛ لذا واصل فينسى البحث، وفجأة فى أثناء سيره؛ إذ بإيعاز داخلى يدفعه إلى طريق أصبح بيسل فى حيز إدراكاته البصرية، فناداه وهرع إليه، وإن تبدى مغايرًا فى تعبيراته، أشعث الشعر ويمسك عصا، ولم يبد تعرفه على صديقه، بل انقض عليه كالصاعقة ضربًا، فأوقعه على الأرض. طفح شره فهاجم كل من فى الشارع بجنون، راح يضرب بعصاه، شج رءوس صبى وامرأتين، وكسر معصم رجل، والقى بطفل فاقد الوعي، أقتحم مقهي، وأشعل النار فى مكتب بريد، ثم لاذ بالفرار بعد أن صعق شرطيين لحقا به. صحيح أنه لا يمكن إدراك المتغير إلا بعلاقته مع متغير آخر. ترى ما هو المتغير الذى طرأ على بيسل فدفعه إلى عنف سلوك مضاد لكيانه؟ اجتاح بيسل شوارع لندن فى حالة جنونية وعدوانية على المجتمع كافة، نافيًا كل ما عداه من بشر وحقائق وحقوق، كأنه يؤكد نفسه بنفى ما عداه، ممارسًا التصعيد الكاسح للعنف المحض، تدميرًا وتخريبًا وقتلا، بقذف رشاش من لهب الزيت الحارق على المنازل. صحيح أن الناس طاردوه، لكن هل صحيح أن حالته تنطوى على إمكان خلاصه من شره المحض؟ واصل فينسى بحثه عن صديقه المختفي، فقابل أحد شركاء تجارته، الذى راح يحكى عن رؤيا أقلقته- وهى الرؤيا نفسها التى رآها فينسي- إذ رأى بيسل شاحبًا غير مهندم، وتعبر ملامحه عن استغاثته طلبًا للمساعدة. ولأن المضاهاة منهج عقلانى يعتمد على مقارنة الأشباه والاختلافات، ولأن فينسى تطارده ذات صورة بيسل بوجهه المبلل بالدموع، وحوله عدد من الوجوه الغامضة والمؤذية والمباغتة؛ لذا فإن المضاهاة بين بيسل بشره المحض فى شوارع لندن حرقًا وقتلاً، وبيسل الذى تلح صورته على أصدقائه بحقيقته المحسومة بالتضاد مع العنف، تفصح عن أن ثمة تعارضًا وتناقضًا بينهما، ترى أيهما بيسل الحقيقي؟ صحيح أن الجسد الذى يمارس الشر هو جسد بيسل، لكن هل صحيح أن الجسد وحده المسئول عن أفعاله؟ ترى هل بيسل ما زال مرتحلاً عن جسده، أم أنه عاد إليه؟ لماذا لم يعرف اسمه عندما ناداه فينسي، وأيضًا لم يعرف فينسى صديقه؟ ولماذا اعتدى على صديقه بالضرب المبرح؟ ولأن اختفاء بيسل قضية محيرة وغائمة؛ لذا واصل فينسى البحث متمفصلاً مع الأجهزة الأمنية التى عثرت على جسد بيسل ساقطًا فى قاع حفرة عميقة بالمدينة، وبجواره علبة الزيت الحارق، وقد تشبع جسده به، وإحدى ذراعيه، وإحدى ساقيه، وضلعان من ضلوعه مكسورة، فتم نقله وعلاجه. راح بيسل يجلو حقيقة الأحداث الخفية، التى عايشها بعد خروجه من جسده، ومغادرته إلى عالم لم يحلم به إنسان، حيث أحلت به معطيات مغايرة، فلم يحس نفسه محسوسًا؛ بل ولا يستطيع أن يلمس أحدًا، فهو بلا جسد أنه محض سحابة ضخمة، يرى بوضوح كل ما داخل المنازل والشوارع، دون قدرته لمس أحدهم وكأنه يفصله عنهم حاجز زجاجي. فجأة وجد نفسه ينطلق كسحابة فى مكان غريب، ليواجه أشباحًا لوجوه غير إنسانية، شريرة ومؤذية، لم تسكن أجسادًا من قبل؛ لذا فهى ممتلئة باشتهاء الدخول فى أى جسم، لتهبط فيه كأرواح منتقمة عنيفة، راحت تمر من خلال جسده وتتشبث به، فانتابه الخوف، حاول جذب انتباه أصدقائه فى العالم الأرضى إلى معاناته دون جدوي، استشعر بيسل لحظتها أن شرًا أصاب جسده، فراح يستطلعه فى منزله، متصورًا أن يراه كما غادره، كجسد رجل ميت متقوض وهامد؛ فإذ به يراه يمتلك قدرة خفية تتعدى قدراته، يمارس عنفًا أطاح بأثاث منزله، وكتبه، ويقفز مرحًا على الأنقاض وينفث شرًا، ويكيل الضربات المجنونة لكل من حوله، ومرة أخرى شاهد بيسل جسده، ينطلق هادرًا فى حالة من الجنون عبر شوارع لندن، يمارس شروره؛ عندئذ استشعر بيسل الخوف على جسده من القتل، الذى بالخداع اغتصبه كائن الشر، ليتمطى به فى أطراف المدينة وحوافيها يمارس القتل والتخريب. صحيح أن الكاتب ج. ه. ويلز قد انهى قصته المسماة الجثة المسروقة، بنجاح بيسل بإصراره وإرادته، على استعادة جسده المسروق والعودة إليه، فأصبح صاحب الجسد يسكن جسده، مخلصًا إياه من كائن الشر المحض الذى بالتضليل وظفه ضد سلام مجتمعه، لكن الصحيح أيضًا والمهم أن الكاتب قد حذر من اختراق الكيان توظيفًا للجسد فى غير مالا يوافق كيانه؛ إذ الإنسان يمارس الحياة بثنائية الجسد والكيان، فالجسد هو وسيلة الإنسان إلى الآخر بوصفه منظورًا، أما الكيان فهو حاكم الجسد وهو غير منظور، ولكنه محسوس ومدرك من الآخر، إنه وليد الصياغة الحرة للفرد وحصاد اكتساباته التى تشكل انهماماته كافة، ودليل خصوصيات مرجعياته ومأمولاته، وطموحاته ورغباته وأسراره، وحدود مراوحاته ومواءماته، ويقينياته وإمهالاته وممنوعاته؛ لذا فإن تفتيت تماسك المجتمعات، ودفعها إلى التشظى لا يتأتى إلا بإرباك وخلخلة كيانات أفرادها، والعبث بها باختراقها حتى تتآكل وتنحل؛ عندئذ تضلل الأجساد وتغتصب لأنها حرمت من كياناتها بوصفها بوصلة سلوكها. ذلك تحديدًا ما تمارسه جماعة الأخوان بالتضليل لخلخلة وإرباك كيانات المصريين، تفكيكًا لسلطة المجتمع على نفسه، وليصبح العنف السلطة اللاغية لكل ما عداها، هل تلك صناعة الأوهام المنهارة؟ أم أن يقين الجماعة يتأسس على قوى خارجية، ستفرض وجودها على المصريين، حذفًا للإرادة الشعبية المصرية؟ أما تصريحات المسئول الجديد عن مكتب الأخوان بالخارج، فلا يبقى منها سوى مغزى لسؤال: تراهم عما يدافعون، وماذا يأملون؟ لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى