نحات موهوب جدا ومشهور. يمارس عمله في مرسم شاسع, يحيط به الأطفال, إذ كل أطفال الحي أصدقاء له. في أحد الأيام كلفته المحافظة بأن ينحت تمثالا لحصان كبير, ليوضع في إحدي ساحات المدينة. أحضرت شاحنة الي مرسمه كتلة من الجرانيت ضخمة. اعتلي النحات سلما, وشرع في عمله, مستخدما المطرقة والأزميل. راح الأطفال ينظرون إليه وهو يعمل, ثم بعد فترة تركوه يعمل, واتجه بعضهم الي الجبال, وبعضهم الي البحر, وعند عودتهم, أراهم النحات الحصان الذي انتهي من نحته, فسأله أحد الأطفال بعينين مفتوحتين علي أشدهما: لكن, كيف عرفت أن داخل تلك الصخرة كان هناك حصان؟ بهذا السؤال انتهت قصة النحات والأطفال لكاتب أروجواي الشهير إدوارد جاليانو1940, بوصفها واحدة من القصص الوامضة, التي تنتمي الي ذلك النوع الأدبي المعروف بالقصة القصيرة جدا, حيث لايعني قصرها قصر رؤيتها, إذ مع اعتمادها علي زمن الحدث ومحدوديته, تتجلي قدرتها علي كشف الواقع, والإنسان في علاقته بوسطه ومحيطه, شحذا لنضج وعي الانسان حيال الموجودات من حوله, وحيال علاقاته المتشابكة علي جميع الأصعدة, بوصف الوعي الناضج هو المعيار الوحيد لفهم البشر والوجود والذات. تري لماذا لم يستوعب الطفل حقيقة أن النحات قد صاغ التمثال من الصخر, واستنتج أن النحات قد انحصرت مهمته في استيلاد الحصان من بطن الصخرة التي كانت مغلقة عليه, باستخدامه المطرقة والأزميل في إزاحتها عنه؟ لا شك أن تأثير صدمة الدهشة من مشاكلة الحصان المنحوت لكائن الحصان الطبيعي في تكوينه وعملقته, ثم اختفاء الصخرة بحجمها الضخم, قد قاد الطفل الي ممارسة الحكم علي مايراه في سياق ما هو شائع ومعروف ومعهود, وفقا لمبدأ العادة أو الإلف, الذي قاعدته أن الكائنات الحية عند حضورها الي الحياة تولد, علي عكس غيرها من الأشياء, ولأن الحصان المنحوت في مشاكلته للحصان الطبيعي قد واجه الطفل بتحد تجلي وكأن الحصان المنحوت هو محض حصان حقيقي, لذا تلقف الطفل الأمر بتلقائية, فمنح الحصان المنحوت دلالة الحصان الطبيعي, ودمج بذلك بين المفهومين, نافيا قيد التحقق والفحص الذي يميز الخصوصية بينهما بالعلامات الفارقة التي تشكل سندا للحكم, حاجبا ممارسة العقل التي تؤكد أن الوعي يبحث عن الحقيقة, وأن الحقيقة ليست مجرد مطابقة بين الحكم والشيء, إذ في ممارسة الحكم علي الأمور بمبدأ الإلف أو العادة, يأتي الحكم خاليا من أية عملية من عمليات الذهن, فهو محض تعرف اعتباطي بتطبيق مايعهده ويعرفه, علي مايجهله, حتي وإن رفضت معطيات ما يجهله توافقها مع حكمه, وذلك لا يمثل التعرف الحق, لذلك وقع الطفل في فخ التعرف الخاطيء, فقد غاب وعيه عندما نظر الي الحصان المنحوت, ولم يدرك أنه أمام وضع متشابه, وليس أمام وضع مماثل, عندئذ وقع الخلط بين الخطأ وبداهة الصواب, نتيجة افتقاده الوعي من حيث هو بحث عن الحقيقة, وإنتاج الحق الذي يجسد تلك الحقيقة واقعيا. إن الكاتب في أقصوصته, كشف أن صورة الحصان المنحوت, المستقرة في الحاضر أمام الطفل, قد جري تعرفه عليها بوعي ناقص, نتيجة سيطرة الصورة السابقة للحصان الحقيقي علي ذاكرته, كما كشف أيضا عن خطورة النمذجة, والإقرار القطعي في إصدار الحكم, إذ عندما استفزت الطفل دهشة المشابهة بين الحصان المنحوت والحصان الطبيعي, توهم أن الحصان المنحوت قد ولد من بطن الصخرة, تماما كما يولد الحصان الطبيعي تطبيقا للمعهود, فعجز بذلك عن إدراك التمثال الحاضر أمامه, نتيجة هيمنة وهم السائد عليه. لاشك أن إدراكا كهذا, ليس إدراكا من خلال تراكم تجارب المعرفة التي تشكل الوعي المنظم, لكنه بالتأكيد إدراك طفل بوعي ناقص, يرتبط نضجه واكتماله بتطور معرفته, وقواه, ومواهبه. تري ألا يعني ذلك أن الحاضر لايدرك, ولايجري التعرف عليه بوهم ماض ممتد وإنما يدرك بالانتباه, والفحص, وانشغال مستبصر للعبور إليه؟ صحيح أن إدوارد جوليانو, في قصته قد استخدام وعي الطفل, دلالة علي الوعي الناقص, لكن هل صحيح أن الابتعاد الأقصي عن سنوات الطفولة, هو رهان الانعتاق من الوعي الناقص, وتحقيق نضج الوعي؟ لقد أجاب كاتب روسيا المتفرد أنطون تشيخوف(1860 1904), عن ذلك التساؤل قبل أكثر من قرن, في قصته القصيرة جدا التي بعنوان ثروة. يحكي بطلها أنه عندما كان في الخامسة عشرة من عمره, عثر في طريقه علي ورقة من العملات ذات فئة الروبل, منذ ذلك اليوم ولمدة أربعين عاما لم يرفع وجهه عن الأرض وهو الآن في الخامسة والخمسين من عمره, إذ عندما راح يحصي ممتلكاته كما يفعل أصحاب الثروات في نهاية حياتهم اتضح أنه يملك2917 زرا, و34172 دبوسا, و12 سن ريشة, و13 قلما, ومنديلا واحدا, وظهرا منحنيا, ونظرا ضعيفا, وحياة بائسة,. قد تبدو هذه الحياة البائسة للرجل, هي الحياة التي يستحقها, لكنها علي الحقيقة تبدو الحياة المرغوبة من جانبه, إذ علي امتدادها تعكس إرادة تامة لكائن تمتع بإمتداد حياة بلغت الخامسة والخمسين عاما, لم ينفتح في أي من مراحلها علي العالم من حوله, صحيح أنه في سن الخامسة عشرة, أي في مرحلة وعيه المباشر البسيط الناقص, تصور أنه باستمرار نظره الي أسفل, سوف يجد نقودا, متخيلا تكرار ما حدث له يوما, وصحيح أيضا أنه في مرحلة هشاشة الوعي المباشر البسيط الناقص, يسود إدراك الخيالات, وتختفي ما دونها من إدراكات, لكن الصحيح كذلك أن الرجل قد تجاوز هذه المرحلة سنا, ولم يتم له بلوغ مايتخيله علي مدي زمن ممتد, ومع ذلك فإنه لم يزل تحت تأثير هيمنة الوعي الناقص, فمن الواضح أنه رغم كبر سنه قد اختفي عنه تيار إدراك الإحساس بإخفاقات أفعاله وممارساته, التي بتكرارها أكدت استبعاد إمكانية تحقيق خيالاته علي الواقع, وفي ظل هذه الحقيقة المؤكدة, لم يفهم الرجل, ويتفاعل, ويستوعب, وينتبه ليتحول عن الطريق الذي من خلاله تخيل انتظار المال, في حين أنه كان دوما أمامه الخيار في ذلك, إذ كان وضعه لايمثل له قدرا خارجيا يحكم حياته, لكن حالته تؤكد أنه مع تقدم سنه كان يفتقد التفكير المحفز الذي يعبر به تلك الحالة. أي أنه مازال يفتقد القدرة علي نضج الحكم علي أفعاله في ضوء معايير إدراكه لذاته, وللعالم من حوله, لذا نراه قد راح يمارس هذا الترنح الوجودي, بتفان, واستسلام, واسترخاء, وبتواصل أعطي لهذه الحالة مددا زمنيا بلغ أربعين عاما وهو خلالها شديد الانغلاق, لم يتعرف, ويستوعب, ويدرك, ويفهم, ويميز, ويخبر, ومن ثمة لم يكتسب وعيا بوضعه, وأفتقد مسئوليته تجاه ذاته, فأصبح بذلك بائسا. تري ألا يعني ذلك أن الوعي الناضج لايخص عمرا, وكذلك الوعي الناقص أيضا؟ لكن تري كيف يكتسب الوعي إذن ويتجلي؟ أجاب إداردو جوليانو, عن هذا التساؤل من خلال متخيل إبداعي, في شكل قصة قصيرة جدا, بعنوان سافرت بعيدا تقدم بانوراما عن بطلتها لوثيا, ومعاناتها, وتحققات إدراكاتها لذاتها, وللعالم من حولها, إذ حين كانت لويثا صغيرة جدا قرأت رواية وهي تحت الأغطية. قرأتها جزءا بعد آخر, ليلة بعد أخري, وكانت تخبئها تحت مخدتها. لقد انتزعتها من فوق رف, كان عمها يحفظ عليه كتبه المفضلة. مع مرور الأعوام سافرت لوثيا بعيدا. سارت علي أحجار نهر أنتيوكا, بحثا عن الأشباح, وبحثا عن البشر. مشت في شوارع مدن عنيفة. قطعت لوثيا طريقا طويلا, وفي مسار أسفارها كانت ترافقها دائما أصداء تلك الأصوات البعيدة التي سمعتها بعينها حيث كانت صغيرة. لم تقرأ لوثيا الكتاب مرة أخري. لم يعد بوسعها أن تتذكره. لقد نما في داخلها بحيث تحول الي شيء آخر: إنه هي الآن. لاشك أن الدلالات المتضمنة في هذه القصة, تكشف عن حالات الوعي المتغيرة لدي بطلتها وتطوراتها وصولا الي المعرفة وتطور ذاتها, إذ لم تسمح لوثيا وهي طفلة أن تبرمج بوعي جاهز, زائف مهيمن, يجمد فهمها لذاتها والعالم من حولها بقوالب سائدة, تستنفد حياتها, لتعيش خارج سيولة الزمن, فاقتنصت المعرفة من خلال قراءاتها المتدافعة, ثم سافرت رحلة نضج حياتها في سياق عنصرين مرتبطين معا: حصيلة معرفية, وتجارب متعددة, كانت في ضوئهما تتفحص, وتعاين بقصد ذاتها وعالمها. لقد انفتحت علي العالم والآخرين بحثا عن الحقائق, بعيدا عن الأوهام التي تصدر إليها, فبحثت عن الاشباح, وعن البشر لتتحرر من المقولات الجاهزة, وراحت تضاهي وتميز بطاقة العقل وإدراكاته, بين معطيات تجربتها والأوهام السائدة, لتصوغ كيانها المعرفي الذي شكل بتراكماته وعيها, فأصبح وعيها يشخصها هي بوجودها, بفعاليتها واشتغالاتها علي ذاتها والعالم من حولها معرفة وتجربة. لقد تحقق ل لوثيا نضج وعيها, عندما أصبح استخدام العقل مشروعا دون سلطة وصاية فحماها من إمكانية أن تفقد مصيرها, وسمح لها أن تعيش سيولة زمنها. صحيح أن العقل هو عماد الوعي الذي يخلق الكفاءة والاقتدار, نفيا للغفلة والعطالة عن ممارسات الناس, إذ إن مشروعية استخدام العقل يتشكل حضورها بممارسة الحق في حرية إثارة التساؤلات, بحثا عن الحقائق التي تغير إدراكات الناس, وتحسن جودة الحياة, لكن مازال هناك من يفتقدون أية إجابات عن الأسئلة الجديدة, فيختزلون حقوق الناس في اختلاق الاحتقانات, وإذكاء التيه والالتباس وإلهاء الناس, فرارا من المسئوليات, وهربا من مواجهة تحديات المصير, بالإمعان في الدفع بآليات إنتاج الغفلة والعطالة عن متطلبات الوعي المعاصر في مواجهة سيولة الزمن. إن العالم لم يتجدد إلا بجدية الرؤي المعرفية التي واجهت تحديات حياة الناس, وليس بالغفلة, وتقويض العقل, وإغلاق الزمان.