إن الناس لا تحركهم الأفكار؛ وإنما تحركهم الاعتقادات، وعندما تستعصى الأفكار على النقاش، سواء أكانت أفكارًا صحيحة أم خاطئة، فذلك يعنى أنها استحالت اعتقادات؛ عندئذ يكون الخطأ قد أصبح سلطة قادرة على أن تحرك الناس وتشكل سلوكهم، وتلك كانت الفرضية المستهدفة من اللورد «هنري»، عندما كان فى زيارة لصديقه الرسام «بازيل»، وتعرف إلى الشاب الوسيم «دوريان جراي»، الهارب من خداع المتع الصغيرة، والغارق فى رومانسية حالمة، والذى كان «بازيل» قد انتهى من رسم لوحة له، تبدى فيها اقتداره على التعبير بصدق عن بهاء «دوريان» وشبابه وجماله الأخاذ. كان حديث لورد «هنري» مع الشاب «دوريان» أشبه ببؤرة القنص، وهو ما تجلى فى ممارسته دفع مشاعر الشاب إلى الحدود القصوى للنزوع الشهوي، بالاستسلام للارتواء المادى بالجنوح إلى المتع، إذ كان رهانه مصادرة البراءة بحقن شرايين الشاب وشحنها لتفجير مكامن حيويته، للفوز بغبطة المتع وملذاتها المادية، وتنوع آفاقها أينما تكون. ولأن مقصد «هنري» أن تصبح تلك الأفكار محض اعتقاد ذاتى ل»دوريان»، وليست مجرد أفكار سمعها؛ لذا جاء حديثه محتشدًا بآليات التوظيف لمقصده، قابضًا على مفاتيح الإقناع وفقًا لحسابات التنوع لغة، وذكاءً، وثقافة، ومرحًا، ومقصدًا، ثم فى النهاية اختتم حديثه بخطاب استدراج مخاتل يبطن خيارًا سلوكيًا، يطرحه على الشاب، ويتأسس على استقرائه دلالات الزمن لما سوف تكون عليه حاله مستقبلاً «انتظر بضع سنوات قليلة إلى أن ينشف عودك، وإلى أن يتساقط ذلك الشعر الجميل من رأسك، فلا أشد مرارة ولا أبشع من الجمال الرائع عندما يتحطم ويندثر. إن كل عام يمضى يا دوريان يدفعك قريبًا من ذلك الفزع المروع، أتعرف لقد كانت قسوة من «بازيل» أن يرسمك». عندما وقف «بازيل» وإلى جانبه «دوريان» يتأملان اللوحة، وكأنهما يحاولان الكشف عن مؤثراتها الانفعالية والإدراكية، فجأة عاجلت «دوريان» فورية الشعور بالإذعان الصرف لتأثير الزمن، وكأنه حلم يقظة جرفه إلى عالم معكوس مختلف زمنه، فصاح فى وجه «بازيل» باكيًا: «هذه تحفتك.. لكنك لم تقم أى اعتبار لما سوف تكون عليه مشاعري، عندما لن يصبح شكلى فى مثل روعة هذه الصورة، إن هذه الصورة سترمقنى بنظراتها عندما تخبو نظراتي، ستحتفظ هى بشبابى عندما يضيع شبابي، كم أتمنى أن أدفع كل ما أملك فى سبيل أن تحمل هذه الصورة بدلا منى آثامى وآلامى وأيامي، حتى روحى على استعداد أن أدفعها لو تم ذلك». تماهى «دوريان» إذن مع آليات حقن «هنري» له بالأفكار، التى أحالته محض آلة لإنتاج اللذة والمتع، وصار ذلك هو اعتقاد «دوريان» وتوجهه الذى يسعى إليه، ويجاهر به، حتى أصابته أوهام الغرور الدنيوى العابر بالغواية، وذلك ما تبدى فى استمرار عنف نهمه بإعلان أمنيته بألا تداهمه آفات الوجود الإنسانى من ألم ومرض وشيخوخة، وكل تأثيرات الزمن، وأن يظل محتفظًا بدوام شبابه وجماله، وفيض براءته، وأن تحمل صورته بدلاً منه كافة تنوعات إكراهات تحولات الزمن فى تواليه المتقلب، ومحطات انتقالاته المتغايرة. ولأن الإبداع لا يبرح شرطه، إذ هو لا يقول الحقيقة ولا يكذب، انطلاقًا من أن المتخيل الإبداعى يصوغ حقائقه خارج مقتضيات التجربة الواقعية، منفتحًا على إمكانات تتجاوزها؛ لذا فقد تحققت أمنية «دوريان»؛ إذ ظل وجهه يشع بالبراءة والجمال، فى حين راحت الصورة تجسد سجلاً لظاهر هى باطنه، تنفصل عنه مكانًا، لكنها تتمفصل معه، وتغايره حكمًا؛ لكنها لا تنقطع عنه، فشكلت بذلك أخطر ثنائية قائمة بين الظاهر والباطن، وهو الأمر الذى كتمه «دوريان» ولم يخبر به أحدًا. استحوذ الشر على مقدرات «دوريان»، فصار يجمع بين المتع الحسية الخارقة، يجرى إليها، ويقبل عليها، ويتمتع بها، حتى غدا الشر محضًا، فصاغ نفورًا من العقل شاملاً، رغم محاولات «بازيل» المتكررة له بتجنب تأثير «هنري» الشرير، والابتعاد عن تشعيبات سلوكه وانعطافاته، لكن «دوريان» استمر مع صديقه «هنري» فى ممارسة حياة المجون، والعبث، بوصفها مشروعه الإطلاقى الذى فى ظله أصبح شديد التركز حول ذاته، فلا تحركه سوى إغراءات اللذات، ودونها استطاع الاستغناء حتى عن محبوبته وخطيبته «سيبل»، التى تخلى عنها فقادتها قسوته إلى الانتحار، ولم يبال بكارثتها، على الفور أظهرت اللوحة ملامح القسوة على شفتيه، وعندما زاره صديقه «بازيل»، طارحًا ما يتداول عنه من حقائق فاضحة شنيعة، مكررًا عتبه على سلوكه، طالبًا إليه القطيعة الحاسمة عن كل الضلال، إذا ب «دوريان» يقوده إلى مكان اللوحة التى رسمها له، ولم يرها أحد من قبل، وفى مواجهة الصورة التى كانت رائعة، صدرت من «بازيل» صيحة فزع، إذ طفحت الصورة بتبدد ملامحها، واكتسح تكوينها المسخ، وداهمها توحش أزال حدها الإنساني، وتحولت إلى شبح ضامر حتى انعدمت علاقتها بأصلها، وانتهى مشهد المواجهة بين الصورة والحقيقة، بين الجمال والقبح بأن قتل «دوريان» صديقة «بازيل» بطعنة حملت كراهية لا متناهية، مصحوبة بعنف فورى مكبوت. ترى هل انحرفت الطعنة ولم تصب هدفها المنشود؟ كان «دوريان» كلما نظر إلى اللوحة، تسرب إليه فيض من الإدانة، والرعب، والقلق، حتى تبدت له كقفاز التحدى ملقى فى وجهه، وضميره الحى المندد بشروره، فقرر أن يقلع عن الشر، وتجلت توبته فى حكايته مع الفتاة التى وقعت فريسة بين يديه، لكنه لم يفتك بها؛ بل تركها نقية ورحل، مع أنه أحبها من أعماقه، وكان ذلك هو الاستثناء الوحيد فى حياته. ولأن الاستثناء يفرض الانتباه، ويتطلب التنويه؛ لذا هرع إلى اللوحة يحلم بأثر التوبة على الصورة، لكن اللوحة التى خلدت عاره لم تتغير. ترى هل ارتدى «دوريان» قناع التوبة رياءً؟ لقد أدرك ساعتها أنه لولا هذه الصورة الحية اللعينة لوجد الطمأنينة الكاملة، وأمسك السكين وطعن بها الصورة، فدوت صرخة مفجعة، فهرع الخدم، فوجدوا صورة «دوريان» وقد سجلت براءة شبابه، وجماله الأخاذ، وعلى الأرض شاهدوا رجلاً ميتًا كريه الملامح، يابس البدن، وفى صدره السكين، ولم يستبينوا أنه «دوريان» إلا بعد أن فحصوا الخواتم التى فى أصابعه. إن «أوسكار وايلد» فى روايته « صورة دوريان جراي»، قد وظف أخطر آليتين، وهما «آلية الظاهر والباطن» و»آلية الحقن»، وهما تعملان على إقصاء الحقيقة، وصنع علاقات ملتبسة داخل المجتمعات، وطرح مفاهيم خاطئة، والآليتان يستخدمهما حتى عصرنا أشخاص، وجماعات، وأجهزة استخباراتية، ولعلنا نتذكر أن الولاياتالمتحدةالأمريكية استخدمت «آلية الحقن» فى أفغانستان، وأيضا «ثنائية الظاهر والباطن» حين وظفت «الجهاد الإسلامي» فى أفغانستان، ضد «الإلحاد المادي» فى الاتحاد السوفيتى ظاهريًا، ليس دفاعًا عن الإسلام؛ إذ كان الباطن الخفى توظيف أفغانستان والإسلام فى استدراج الاتحاد السوفيتى للتدخل عسكريًا فى أفغانستان، لكى يصنعوا له فيتنام سوفيتية. ترى هل تخلت الولاياتالمتحدة عن آلياتها التى بظاهرها ومقاصدها الخافية تحصد أرواح البشر ثمنًا لفرض هيمنتها؟ لمزيد من مقالات د.فوزي فهمي