في بهو منزله أخذ دوريان يفكر في حديثه مع لورد هنري، وتساءل هل بمقدوره حقاً أن يتغير؟ لقد عاش حياة آثمة مستهترة، فهل ثمة أمل؟ وتعجب لنفسه إذ تمني أن تحمل عنه صورته المرسومة عبء السنين، لقد احتفظ بشبابه وجماله، لكنه دفع ثمناً باهظاً مقابل ذلك، فجماله قد حطم روحه. إلتقط مرآة ونظر ملياً إلي وجهه، ياالله! لقد أصبح وجهاً بلا قلب، ورمي المرآة علي الأرض فتحطمت وتناثرت قطعاً صغيرة، ومعها جزءاً غالياً من روحه وأحلامه. جيمس فان، بازل هالوارد، سيبل فان، كل هؤلاء الأموات لا يهمونه الآن، بل من الأفضل ألايفكر في الماضي، فلا شئ يمكن أن يغير ذلك الآن، إنه يجب أن يفكر في نفسه. وقال: ربما إن عشت حياة صالحة تصبح الصورة أقل قبحاً، وتذكر فتاة القرية الجميلة، فهو لم يدمر حياتها الشابة. لقد فعل شيئاً واحداً طيباً، ولذلك ربما تكون الصورة قد بدأت تتحسن بالفعل، ولا حاجة به بعد الآن لأن يخاف من الوجه الشرير لروحه. صعد دوريان بهدوء إلي الغرفة الموصدة، وعندما كشف الصورة، ندت منه صرخة رعب وألم. لم يكن هناك تغيير، فمازال الوجه فظيعاً، بل أكثر قبحاً عن ذي قبل. نظر إلي الصورة بعينين ملؤهما الخوف والكراهية، فمنذ سنوات مضت كان يعشق مشاهدة الصورة تتغير وتتقدم في العمر، والآن صار لا يستطيع النوم بسببها. لقد سلبته كل فرصة للسعادة والسكينة، وصار لزاماً عليه أن يدمرها. نظر دوريان حوله فرأي السكين التي سبق أن قتل بها بازل هالوارد، فقال لنفسه:"الآن سوف تقتل نفس السكين عمل الفنان، سوف تقتل الماضي، وعندما يموت أصبح حراً"، والتقط السكين وغرسها في الصورة. ثم كانت صرخة مفزعة، وصوت ارتطام أيقظ الخدم، فصعدوا إلي الغرفة وتسللوا عبر النافذة. علي الحائط، رأوا صورة لدوريان جراي بكل شبابه الرائع وجماله، وعلي الأرض، كان هناك رجل ميت وقد استقر في قلبه سكين كبير، كان وجهه قبيحاً كهلاً تملأه التجاعيد وقد كسته صفرة المرض. الخواتم التي كانت في أصابعه هي فقط التي دلتهم علي شخصيته. هكذا جاء مشهد الختام في رواية "صورة دوريان جراي" كما كتبها أوسكار وايلد في ترجمة هند عبد الفتاح. كانت هذه هي النهاية المأساوية لدوريان جراي، فكيف كانت بدايته؟. كان دوريان جراي أشبه ما يكون بسارق الزمن، لقد كان شاباً ثرياً درس الفن والموسيقي وملأ منزله بأشياء جميلة جمعها من كل أنحاء العالم، لكنه في بحثه عن المتعة والمغامرة لم يتوقف عند هذا الحد، لقد أصبح نهماً للمجون والشرور والآثام. عاش حياة اللوردات والأثرياء والنبلاء ولم لا وهو حفيد لورد كيلسو. تعرف ذات يوم وهو في العشرين من عمره علي فنان تشكيلي "بازل هالوارد" وسرعان ما قامت بينهما صداقة حميمة، واتفقا علي أن يرسم له بازل صورة "بورتريه"، وبينما هما يعملان علي إنجاز الصورة يدخل عليهما اللورد "هنري ووتن" أحد أثرياء مجتمع لندن، وهو رجل محاط بالأسرار والغموض مقبل علي الحياة في غير مسئولية، وكان أشبه بالمحرض الذي أفسد حياة الكثيرين في مجتمع النميمة المسائية، وها هو قد بدأ علي التو في تعهد دوريان بالنصح والمشورة والغواية. وقع الفني الغرير في براثن هنري الشرير المجرب، وبدأت كلماته تملأ رأس دوريان "يا سيد جراي إن لك وجهاً رائع الجمال وعليك أن تعرف أن الزمن هو عدوك الأول، فعندما يولي شبابك سيأخذ معه جمالك ويسلب منك كل شئ، الناس يخافون من أنفسهم، يخافون أن يعيشوا الحياة، أما أنت بشبابك ووسامتك وجمال وجهك لن يكون هناك ما يستعصي عليك." نفذت الكلمات إلي روح الفتي وداخلته مشاعر ملأت رأسه لأول مرة بأفكار لم يعهدها، فأضحي أسيراً لذلك الرجل وكلماته ونصائحه وأفكاره. ذات صباح وفي حديقة منزله وقف بازل هالوارد أمام صورة دوريان جراي قائلاً " لقد اكتملت الآن" ثم وضع توقيعه في زاوية اللوحة، ودعي لورد هنري ودوريان لمشاهدة الصورة. نظر دوريان إلي صورته الوسيمة وشعر بسعادة بالغة، وأخذته قشعريرة عندما تذكر كلمات لورد هنري، وظل يساءل نفسه، هل يمكنني أن أظل علي شبابي وجمالي رغم تقدم العمر؟ وهل فعلاً سوف يسرق الزمن ملامحي الجميلة بينما تبقي الصورة شابة دائماً. أحس برعدة خوف تسري داخله وظل يتمتم بأمنية تمني لو تحققت، أن يبقي هو علي حاله بينما الصورة هي التي تتغير، مضيفاً "إنني علي استعداد لتقديم أي شئ، نعم أي شئ مقابل ذلك". وهنا أيقن الفنان بازل بحسه المرهف أن أفكار هنري قد أصابت قلب الفتي وتلاعبت بعواطفه وعقله، خصوصاً أن هنري قد أصبح قريباً من الفتي منذ أن تعرف عليه في مرسمه، وهما غالباً لا يفترقان، ودوريان يقترب منه يوماً بعد يوم وبنفس القدر الذي يبتعد فيه عن بازل وصداقته وفنه. إن للفن شيطانه لكنه حافز الإبداع والتوهج، وهو لايعرف ذلك الشر الذي أدمنه اللورد هنري، شيطان "أوسكار وايلد" الذي يذكرنا ب "فاوست" وشيطان الشاعرالألماني "جوته". وهو أقرب ما يكون إلي شيطان الكاتب الأسباني "أليخاندرو كاسونا" في مسرحيته "مركب بلا صياد"، ذلك أنه من شياطين الإنس، رجلاً مبتذلاً محرضاً علي الشر. مع هنري عاش دوريان إزدواجية الحياة وتناقضها، مابين حفلات اللوردات والنبلاء وحياته الأخري التي أخفاها وعاشها مع الرعاع في أزقة لندن القديمة حيث الأفيون والمجون وعلب الليل الرخيصة وكل الحماقات والشرور والآثام التي أدمنها. ذات مساء وفي احدي جولاته الغريبة اكتشف دوريان مسرحاً قديما في شارع فقير من شوارع لندن، ذهب هناك بحثاً عن مغامرة لكنه وقع في حب فتاة فقيرة جميلة " سيبل فان" إبنة السبعة عشر ربيعاً، وعندما حكي قصته معها لهنري سخر منه وحرضه عليها، وبالفعل تنصل من حبه لها وسحب وعده بالزواج منها، تركها مع صدمتها في كواليس المسرح حيث انتحرت حزناً عليه. في نفس الليلة علم بالخبر فظل هائماً علي وجهه من شارع إلي شارع علي غير هدي. عندما عاد دوريان إلي منزله وتطلع إلي صورته التي رسمها بازل وجد بها شيئاً مختلفاً، لقد تغير الوجه وأضحت ابتسامته كئيبة عابثة وهيئ له أن الصورة ترقبه وتسخر منه، هي نفسها الصورة التي علمته من قبل أن يحب نفسه وهي الآن تعلمه أن يرفض قلبه ويكره روحه. ماذا حدث للصورة؟ وهنا تذكر أمنيته السابقة أن لو بقي شابا بينما الصورة هي التي تتقدم في العمر. إنها فكرة مستحيلة، لكن ذلك هو ما حدث. سرت قشعريرة في كل جسده، غطي الصورة وغادر المكان مسرعاً. لكن خلف الباب الموصد كانت الصورة تكبر كل عام وتشي قسماتها بالأسرار القاتمة في حياته، وبينما تمضي السنون والأيام كان خوف دوريان من الصورة يزداد، لقد كان يمقتها ويحبها في آن واحد. في ليلة عيد ميلاده الثامن والثلاثين زاره بازل وأخبره أن الناس في لندن يلوكون سيرته ويتقولون عليه، وسأله ماذا حدث لك، وأين دوريان جراي الحقيقي؟ ذلك الفتي الجميل الذي رسمته، وقام إلي الصورة ونزع عنها الغطاء فألجمته الصدمة، وعندما بدأ في الصراخ عاجله دوريان بطعنة من السكين، نفس السكين التي طعن بها الصورة فيما بعد فأعاد لها شبابها، وقتل نفسه الحائرة مابين الأصل وبين الصورة.