مجلس الوزراء: خامات الأعلاف المستوردة والمحلية متوفرة.. وأسواق الدواجن واللحوم مستقرة    محافظ الإسكندرية: تخفيض إنارة الشوارع بنسبة 60%.. وتوقيع أقصى عقوبة على المحال المستخدمة لإضاءة الزينة    إيران تستدعي سفير سويسرا للاحتجاج على تصريحات ترامب    "نيوزويك": إسرائيل تسحب قوات من غزة وتنفي وجود نقص في صواريخ "آرو" الاعتراضية    جوارديولا: مواجهة الوداد كانت الأصعب.. وعودة رودري تمنحنا التوازن    جوارديولا ينتقد حكم مباراة مانشستر سيتي والوداد في مونديال الأندية    عبدالمقصود: الزمالك يحتاج تدعيمات.. والفريق لا يقف على أحد    دون خسائر بشرية.. انهيار جزئي لعقار قديم شرقي الإسكندرية    انطلاق أولى جلسات صالون الجامعة العربية الثقافي حول دور السينما في التقارب بين الشعوب    لجنة السكان بقنا تبحث التدخل السريع لمواجهة "النقاط الحمراء" بأبوتشت ودشنا    الرقابة المالية تحدد الشروط والمعايير المطلوب توافرها بأعضاء مجالس إدارة شركات التأمين أو إعادة التأمين والإدارات التنفيذية لها    مينا مسعود وشيرين رضا في ضيافة معكم منى الشاذلي.. غدًا    قرار من النيابة بشأن واقعة تصوير السيدات داخل مطعم بالدقي    آخر موعد لتقديم مرحلة رياض الأطفال KG1 في القليوبية (الشروط والأوراق المطلوبة)    أسامة كمال: حديث نتنياهو عن امتلاك إيران لسلاح نووي قديم ومكرر منذ 2011    «بتوع مصلحتهم».. الأبراج الثلاثة الأكثر نرجسية    هل يجوز للزوجة زيارة والدتها المريضة رغم رفض الزوج؟.. أمين الفتوى يجيب    ما الفرق بين القرض والتمويل؟.. أمين الفتوى يجيب    وزير خارجية الكويت: نأمل في خفض التصعيد بالمنطقة وجهودنا الدبلوماسية لم تتوقف    الأهلي يرد على العرض الأمريكي لضم وسام أبو علي.. شوبير يكشف    نكران الجميل.. عامل يقتل رب عمله ويقطع جثته إلى أشلاء بغرض سرقته    تأجيل محاكمة متهمي نشر أخبار كاذبة    جامعة الأزهر ضمن أفضل 300 جامعة بالعالم وفقًا لتصنيف US NEWS الأمريكي    الشيخ خالد الجندي: استحضار الله في كل الأمور عبادة تحقق الرضا    خالد الجندي: «داري على شمعتك تِقيد» متفق مع صحيح العقيدة فالحسد مدمر (فيديو)    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في جنوب غزة    تكريم الدرديري في حفل الأفضل    بعد شائعات الخلاف مع ميدو.. عبد الواحد السيد يكشف ل"أهل مصر" كواليس طلبه الحصول على إبراء ذمة مالية    ننشر موازنة اتحاد الغرف السياحية.. 54 مليون جنيه إيرادات و26 مصروفات    «فات الميعاد».. صفع متبادل بين أحمد مجدي وأسماء أبواليزيد ينهي الحلقة الخامسة    وفاة شقيق الفنان الراحل حسن يوسف    محافظ الأقصر يتفقد المرحلة السابعة من مشروع سترة السكني    أستاذ علوم سياسية: إسرائيل تمارس «هندسة إبادة جماعية» بحق الفلسطينيين وسط صمت دولي    وكيل شباب الفيوم يستقبل لجنة هيئة تعليم الكبار لتفعيل مبادرة "المصريون يتعلمون"    الجبهة الوطنية يقرر إرجاء المؤتمر الجماهيري بالقليوبية    خالد الجندي يوضح الفرق بين قول "بإذن الله" و"إن شاء الله"    البابا تواضروس لرئيس وزراء صربيا: الأراضي المسيحية المقدسة موجودة في فلسطين ومصر    حيل نفسية لكسر حاجز القلق والخوف من الامتحانات.. تعرف عليها    بعد الإقلاع عن التدخين- إليك طرق تنظيف الرئتين من النيكوتين    مشروعات تعليمية جديدة في قويسنا ومنوف لدعم المنظومة التعليمية    الجهاز القومي للتنسيق الحضاري يشارك في الحلقة النقاشية «حوار المدن» بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية    كرة يد – منتخب مصر يهزم السعودية في افتتاح بطولة العالم للشباب    إيران تمدد تعليق الرحلات الداخلية والدولية حتى فجر غد الخميس    قبول دفعة جديدة من المجندين بالقوات المسلحة مرحلة أكتوبر2025    محافظ الأقصر يتفقد المرحلة السابعة من مشروع «سترة» بعد تسليمه للمستفيدين    الغربية.. ضبط سيارة نقل محملة ب236 أسطوانة غاز منزلي مدعم قبل تهريبها    حصريا ولأول مرة.. قناة النيل للأخبار في هيئة الرقابة النووية المصرية    تقديم خدمات طيبة علاجية مجانية ل 189 مريضا من الأولى بالرعاية بالشرقية    ضبط 79 مخالفة تموينية متنوعة خلال حملات مكثفة على الأسواق بالفيوم    فليك يجتمع مع شتيجن لحسم مصيره مع برشلونة    محافظ القليوبية يعقد لقاء المواطنين الأسبوعي للتواصل معهم وحل مشاكلهم بشبين القناطر    الأمم المتحدة تدين إطلاق النار على مدنيين يبحثون عن الطعام في غزة    بعد الموافقة النهائية من «الإسكان».. تفاصيل عقود الإيجارات القديمة التي تطبق عليها التعديلات    الصحة: إصدار أكثر من 18 مليون قرار علاج على نفقة الدولة خلال 5 سنوات    الأرصاد تكشف عن ارتفاع درجات الحرارة ابتداء من الجمعة    ترامب يختتم اجتماعه بفريق الأمن القومي الأمريكي وسط تصاعد الصراع بين إسرائيل وإيران    «هنعاير بعض».. رئيس تحرير الأهلي يهاجم وزير الرياضة بسبب تصريحاته عن الخطيب    أطفال الغربية تتوافد لقصر ثقافة الطفل بطنطا للمشاركة في الأنشطة الصيفية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنّ نصبحَ أغْرَاباً

رواية تتحري الظرف الإنساني ، أو بالأحري تتأمل الأساليب الاستثنائيّة التي نتعامل عبرها حين نُجابه بالمواقف الأكثر صعوبة ، وهي هنا المراحل الأخيرة من السرطان و الأولي من الزهايمر . و الإجابات التي تطرحها المؤلفة مُكئِبة : الحياة هراء ، و العلاقات البشريّة تنمو منهوكة و يجب أن تُطرَحَ جانباً ، و أولئك الّذين يخسرون ما طالما اشتاقوا إليه أو من نالوا ما تمنوه ، يصيبهم الإحباط بصدد حقيقته .
حققت الرواية فور صدورها عام 2004 نجاحاً كبيراً ، ففازت بجائزة بيتي تراسك عن أفضل رواية أولي في نفس عام صدورها و جائزة الأمير موريس عام 2006 ، كما ترشّحت لجائزة الغارديان للكتاب الأول و كانت ضمن القائمة الطويلة لجائزة المان بوكر فضلاً عن كونها واحدة من أفضل خمس روايات صدرت عام 2004 حسب صحيفة الأوبزيرفر ، رغم ذلك تعترف دين أنّها لم تكن دائماً بمثل هذا النجاح :أظن أنّ الكتابة تشبه كثيراً عمل الفطائر المُحلاة ، الفطيرة الأولي أو الثانية ، في حالتي ، نالهما الكثير من السمن ، لذا تجد نفسك مُضطراً لإلقائهما بعيداً ، سوي أنّي حين كتبت أن نصبح أغراباً عرفتُ أنّها عمل مُغاير ، رُبّما بسبب شغفي الكبير بالشخصيات التي كتبتها ، و خصوصاً جورج و آنّيمايك .
تشتهر روايات دين بمقاربتها للجانب الأكثر إظلاماً من الحياة بشكل هزلي ، ممتلكةً القدرة علي : اكتشاف بعضاً من خِفّة الرّوح و الدماثة في أكثر الأماكن إثارة للوحشة » و هي ميزة تفتخر الروائيّة بها ، بالنظر لأهميّة الجانب السّاخر لا في الأدب فحسب بل بالحياة عموماً ، أظنّ أنّ القدرة علي الضحك في ظروف بالغة الصعوبة هو الانتصار الأكبر للنوع البشري . و حتي في روايتي عن الاضطرابات في أيرلندا الشماليّة ، حيث يقضي الرجال نحبهم من أجل ما يؤمنون به ، استعمل السخريّة . أظنُّ أنّ ثمّة بطولة و جمال في القدرة علي الضحك في مواقف عسيرة أو قاسية ، وهو ما يحافظ علي سلامة عقولنا في كثير من الأحيان ! .
الرواية تصدر قريباً عن سلسلة الجوائز.
1
كان قد ملَّ حياته من قبل أن يصيبه السّرطان.
و بدءً من اللحظة التي أخذ فيها مسألة احتضاره علي محمل الجدّ، صار مشغولاً ؛ استغرقه فهم المرض و تدريب جسده علي مقاومته. لكم كان بدنه قوي الاحتمال . ست سنوات من العمليات و الاستئصالات ، بدأت بصدره ، ثمّ راحت الخلايا السّرطانيّة تنبّثُ برئتيه و في كبده . باحت حزمة من الاستئصالات المُبكّرة بكل مُخيّم في سبيله أن يصير، في جزءٍ منه، ورماً خبيثاً . لكنه أصرّ علي النضال . كان الأطباء بكل مرّة يكاشفونه، و الأسرة ،أنّ فرص الشفاء تكاد تكون معدومة و أن معاودة ظهور المرض العُضال مُرجّحة. و عاماً تلو الآخر، كانت مجموعة من الخلايا الجديدة تظهر و تتلوها عمليّات استئصال، وقد عاش. و بان و كأنّ تقطيع جسده قد منح إرادته للبقاء زخماً عنيداً.
كان تشبّثه بالحياة في جزءٍ منه نابعاً من قناعة مفادها أنّ حياته لابد و أنّها راكمت لنفسها قيمةً ما بمرور العمر. ماذا عن كل التنهدات و الأصوات التي سُجّلت ، وكل تلك الأفكار التي اقتفي أثرها؟ لابد وأنّها تساوي شيئاً . لابد وأنّها تضيف لحياته معنيً ما. بلايين الكلمات عبر السنين طرّزها لتنسج حفنة أفكار بسيطة. أمّه! بلده! الصواب والخطأ!
كفّ عن العمل ، و التجأ للقراءة . سياسة، فلسفة، تراجم ذاتيّة.
منذ أسبوعين فحسب، أظهر مِجسّ استكشافي لبنكرياسه أنّ المرض تفشّي بدرجة أكبر، و كاشفه الأطبّاء أنّهم لن يتمكنوا من إجراء الجراحة مرّةً أخري. شدّ علي يدّ الطبيب اليمني بيديه كلتيهما وأومأ برأسه متفهماً . لاحقاً في مساء نفس اليوم ، تناهي لسمعه ، عبر باب المكتب، الموصد ، صوت زوجته آنّيمايك تتقاسم الأنباء عبر الهاتف : لقد تفشي المرض في جسده ، ولن يتمكنوا من عمل شيء له الآن.
بعد حوالي ثلاثة أيام، مرّ عليهما ولديهما الراشدين ، يحملان تذكرتين لمدة أسبوعين في الجنّة ، أوتيل بمنتجع مترف في إحدي جُزر الكاريبي . بالغ الخصوصيّة، من الأخر. صافحهما بيديه كلتيهما و نكّس رأسه ، وباستهما آنّيمايك.
قالت وهي تتفحّص زوجها جسده يَضْعُف و أردفت: لن تكون الرحلة يسيرة، سوي أنّي قويّة كفاية لكلينا»، ثمّ استأذنت كي تردّ علي الهاتف.
جلس مع ولديه، ممسكاً الهدية بين أصابعه، زاماً شفتيه، مداعباً شاربه، مدمدماً بنبرات عميقة، يفكر ملياً فيما ينصت لما يحملانه من أنباء. كان الابن الأكبر يدير مشروعه الخاص بمحرك بحث علي الويب نطاقه أوروبا ، أمّا الآخر فينهي رسالة الدكتوراه في الفلسفة في جامعة بروكسل . كان يجرّب أن يراهما كرجلين حقيقيين.
في نفس الوقت، تمكّن من سماع نُتَف من كلام زوجته المنفعل في الحجرة الأخري.
كانت تكرر بنبرة تشديد : بعدئذٍ.
أعاد قراءة التذكرتين الهدية، كانتا تحملان توصيّة أن، Vermaak julli ! متّعوا أنفسكم ! كان التّضمينُ بالنسبة له واضحاً: فبمجرد أن يتبع التوصيّة، يمكنه العودة و الموت علي نحو لائق.
ستكون تلك بمثابة عطلتهما الختاميّة. كانا قد أمضيا عدة عطلات أخيرة في السابق، لكن تلك ستكون حقّاً النهائيّة. كانت طريقة زوجته في التشديد علي هذا وسيلة لتذكيره الآن، علي متن الطائرة، أنّهما قد أمضيا بعض الأوقات الرائعة خلال السنوات الست وثلاثين، عمر زيجتهما. كانت تتنهّد بين الفينة و الأخري و هي تقلّب صفحات مجلتها قبل أن تنحيها جانباً.
أراحت فكّها علي راحة يده تُنْعِمَ النظر في وجهه، وغمغمت: حاجات كثيرة، لكن فارغة، بلا معني.
وافقها دون أن يبادلها النظر.
أردفت: مليحة جدّاً، جيدة الصناعة، لكنها تصيرُ بلا قيمة بالعام التالي، ولو كُنتَ في سبيلك لإنفاق الكثير علي حاجة منها...آه، هذا الأمر يقودوني للجنون .
أخبرته ، وهي تنزع قشرة فول سوداني علقت بضرس ورّاني ، مُتنبّهة لطلاء شفتيها _ كانت امرأة جذّابة _ قبل أن تبتلع أخر جرعة من كأس الجِنّ مع الصودا ، أنّها قدّرت عدد العطلات التي أمضياها سوياً منذ زواجهما ففاقت الأربعين.ناولت المضيفة الكوب البلاستيك
تخيّل الكُتب ذات الغلاف الورقي مثنيّة الأطراف ، مبلولة ورخوة عند حافة المسبح . فُتات المحار المتبقّي في أطباق العشاء. مساعي ساعات الليل لركل الشراشف البيضاء المُثبّتة بعناية. الأوتيلات والمستشفيات كلاهما يتطلّب منه درجة من الإذعان. زوجته لم تذعن.كانت ذقنها صارمة ، وكانت تستعملها في إنهاء عباراتها. و قد تلألأت عيناها؛ فلو كانت براغماتيّة فلديها السبب لذلك ، ففي البدء توقّعوا ألا يعيش أكثر من ستة أشهر و قد عاش ستة أعوام . لقد جعلها هذا صلبة.
فكّر جان: سِتُ سبعُ سنواتٍ تقريباً من الصفاء مُتصيّداً عينيها برهة قبل أن يطرف بناظريه بعيداً .
كان النقاء يغمرني مثل كلمة الرّب.
عفواً قال، وقد اصطدم مرفقه بمرفقها علي مسند الكرسي الّذي يتوسطهما بطريق الخطأ. كان إيمانه قد تأكّد ، أثناء مكوثه المُتكرر بالمستشفي ، أن العلاقات الإنسانيّة تونِع إذا ما أديرت بكياسة ، لقد كان ممتنّاً للأخلاق الحميدة . أمّا وجود الحبّ، الحبّ الغير مشروط، فهو محلّ شكّ. إنّه حتي يرتاب فيما يُكنّه ولديه. كما أنّه يفتقر لفكرة ما إذا كان جاهزاً للموت؛ فهي لم تخطر بباله تدريجياً علي العموم، متيحةً المجال للمرء كي يألفها. إنّ الموت علاقة ثنائيّة ، وليست تراكميّة. تشغيل و إيقاف، إِنْ هي إلا ثانية تتلو ضغطة الزناد و تنطلق الرصاصة.
الآن، و قد أضيئت أنوار ربط أحزمة الأمان و زوجته تدسّ زجاجة فودكا صغيرة احتياطيّة داخل الحقيبة المركونة قدّامها، ذكّر نفسه بعزمه أن يحزم الحقيبة من أجلها.كان بالكاد يعرفها ، و قد وقع في مشاكل جمّة بسبب معرفته البسيطة بها في السنوات القليلة الماضية . كان أمراً معقولاً التفكير بأنّ ما من أحدٍ منهما يمكن إلقاء اللائمة عليه بالكامل، وكان من الممكن، حتي الآن، أن يهجر كل منهما الآخر كصديقين. لقد كان هذا ما يأمله من تلك العطلة، لم يصارحها بالكثير ، سوي أنّه افترض شعورها بالأمر . خصوصاً و أنّه، في الحقيقة ، كان يحتضر الآن.
رأي، علي يساره، قطاعاً من رفاق الرحلة من شمال أوربا ينزوون و يجفلون من الإنغماد المُباغت لأشعّة الشّمس الاستوائيّة. بسط ذراعه عبر زوجته و بحركة أنيقة، مُستخدماً سبابته و إبهامه، رفع السّتار المرن ليغطي نافذتيهما.
2
ازدادت بهجة آنّيمايك أثناء ارتفاع المِصْعَد، و نطق وجهها بابتسامة حين أضاء النّور حرفي PH ؛ ففلذتي كبدها حرصا علي مستوي لائق للإقامة كانت الحجرة تتوافق مع معايرها للرفاهيّة ، مناشف بيضاء كثيفة الوبر ، شراشف دقيقة الغزل ، فولاذ لا يصدأ و خشب مصقول .ذلك ما كانت علي قناعة بأنّه الأمثل .
جلس زوجها في أودة النوم برفقة كتاب ، يشذّب شاربه و يجرع كأساً تلو الآخر مع كل صفحة يقلبها ، و قد أخفض كتفيه مانحاً عنقه بين الفينة والأخري هزّه خفيفة .
: كنتُ أظنُ أنّه من المُفترض أن تُريحك القراءة ، قالت آنّيمايك تردد جملتها المكرورة .
كانت قد خرجت لشمّ الهواء ، و توضّبت لتأخذ جولة حول المكان لتقف علي ما يُقدّمه ، سوي أنّ زوجها خلا إلي الكتاب . هو يقبع في مكانه وهي تنبضُ بالحركة ، لطالما سارت الأمور بينهما علي نفس المنوال ، أمّا مرضه فقد عزز ببساطة هذا التباين كما يُظهرُ الضوءُ شريطاً فوتوغرافياً .
خرجت لتري المنتجع . كل شيء مُنظّم فضلاً عن نظافته . ألِف لسانها أن يلهج بصوتٍ عال ، بشكر الله ، علي النظافة التي كانت تلقاها بكل ركنٍ قصدته . مطاعم ، بيوت أصدقاء ، مدارس ، وطبعاً ، علي وجه الخصوص ، الحمّامات.
:بإمكاني رواية الكثير عن مكانٍ ما ، بمجرد أن أدخلَ الحمام " ، أعلنت أمام حشدٍ من الحضور ، ما جعلَ جان يبتسم و يتمتم في هدوء :Summa summarium
لدي عودتها لحجرتهما ، راحت تصف بدقّة العصافير ،وهي تُشيح بيديها في الفراغ ، السقوف العالية و المراوح الخشبيّة و النوافذ الزجاجيّة المستطيلة المُطلّة علي مغطس سباحة لازَوَرْديّ يُتاخم حمام جاكوزي رخامي . كانت تملك عيناً خبيرة بالتفاصيل ؛ فمغطس السباحة نصف مسقوف علي طراز القصور الإيطاليّة ، تحوطه فرندة مطليّة بالقرميد تطلّ علي منحدَر صخري شاهق يري صخب المحيط الأطلنطي .
: و ، يا جان ، ذلك هو ذات القرميد الّذي لدي ليني و إيريك في حمامهما ، لكنه هنا ملصوق برّه . تحبُ ليني فكرة أنّ لا أحدَ سواها يلصقُ قرميد الواجهات داخل المنزل ، سوي أنّي رأيت ذلك مسبقاً ، حين كُنّا في إجازة في الشارنتيه . لقد قلتُ لها .
كانت قد شافت شلّة رجال يتسكّعون حول المسبح كابحين بطونهم . كانت زوجاتهم في الجاكوزي ، يتحدّثن علي المشايات الجانبيّة ، و قد حافظنّ علي وجوههن مكشوفة للشمس .
أخبرته عن بار مسقوف عند نهاية جادة تحفّها الأشجار ، يشبه إسطبلاً ايطالياً يسع حوالي ثلاثين كرسيّاً عالياً بلا مسند تتحلّق حول منضدة مصقولة بالأجرّ . في المنتصف فرن بيتزا ، وقد جعلتها رائحة نبات إكليل الجبل المخبوز و جبن البارما الطري السّاخن ، تشعر بالجوع . كانت ثلاث شابّات ، من المنتجع ، يلبسن فساتين ، تتشاركنّ فطيرة بيتزا مُسطّحة كبيرة الحجم ، ثمّ عادت نظاراتهنّ تعكس كوكتيلاً أحمر اللون يملأ دورقاً يكسوه الثلج . بلغت ، عبر بساتين يغطيها عشب مورق و تتدلي منها ثمار مكتنزة ترويها مرشّة ضخمة ، مرجة خضراء تتوسطها بركة ماء مستديرة وراءها باحة فيها ممشي إلي بعض الغُرف بالطابق الأرضي و دَرَج مفروش بالرّمال البيضاء يقود للفندق الرئيسي. ثمّة مطعمين في الطابق الأول ، أحدهما غير رسمّي علي طراز المطاعم الفرنسيّة الصغيرة ، كل ما فيه مصنوع من الخشب الثّقيل و الألومونيوم ، والآخر مؤثث بشمعدان زيني و كراسي بمساند عالية قدّام مناضد مدوّرة واسعة وعارية ، وقد جلس بعض الموظفين إلي إحدي الترابيزات يتكلّمون بصورة جديّة. تسمّرت برهة عند الباب تحدّق بهم . حطّ المدير ، الوحيد الّذي يلبس بلا تكلّف ، والوحيد صاحب البشرة البيضاء ، ذراعيه اللتين سفعتهما الشمّس فوق التّرابيزة مُمسكاً بمفكرته المخطوطة كي يري الموظفون المكتوب فيها . بدا شاباً سائغاً ذا وجه مُعبّر مُفْعَم بالحياة . تمتمت ، وسيم ، محققة نقلة صغيرة بالرأي . هنا توقّفت .
التقط جان كتابه مرّة أخري .
غمغم : طيب ...طيب مردفاً : يبدو المكان من النوع الّذي تفضلينه .
رأت ، زوجين شابين بملابس السباحة يتبادلان القُبلات في مدخل حجرتيهما . كان بإمكانهما التريُّث قليلاً ليصيرا بالداخل ، سوي أنّهما رغبا أن يتباوسان بكل ركن . كانت الفتاة اسبانيّة الطلعة بشعر داكن طويل مُجعّد ، والفتي غضّ كفاية ليحوز بشرة ناعمة ، خلت من الشعر . تُري ما مدي الطراوة التي يحسّها جسديهما حين يتضامّان ؟. ممتلئان بالصحّة ، غادرا المسبح نظيفان جداً ، تحوطهما الأناقة من كل جانب .تساءلت ما إذا كانا يغفران لبعضهما حين يتجادلان . ربّما لا يتجادلان أبداً ، أو أنّ حاجتهما للمس بعضهما غمرت أي تبرّم .
كان جان ينوس فوق الكتاب . لم يكن المشهد صامتاً بالنسبة له ، بلّ ناطقاً ، أنصت و أظهر ردّات فعل، حتي و هي واقفة هناك قدّامه ، تُطلّ الإثارة من عينيها مبهورة الأنفاس وهي تحدّق لصورتها في المرآة. لم تعر سنها انتباهاً _ خمسون عاماً _ سوي أنّها سرعان ما ستنتبه، وساعتها كل تلك الفورة لتنتهي بالنسبة لها . لقد ودّعت حياتها بكل الصور الممكنة ، برقّة و بغضب ، أمّا هو فلم يسمعها أبداً ، بأي شكل .
غادرت الحجرة و قصدت مكتب الاستقبال حيث انتظرت الشّابة طويلاً ؛ حتي تُجيب أسئلتها بشأن ركوب الخيل .
كانت عيناها قد وقعتا علي الكتاب المُقدّس في البيت ، بين كُتبه . " لن أحيا كميتة " رددت لنفسها ، وأردفت : في انتظار العيش بالحياة الآخرة ! عجزت عن إيقاف نفسها عن التفكير بتلك الأمور ، و قضت الليل صاحيّة تقنع نفسها بحقّها في الاستياء .
كانت الآن قد حشدت بعض النّشرات الدعائيّة ، وصار بوسعه الفُرجة عليها إن أراد الخروج و عمل ما يحبّ أثناء الفسحة . لديه القدرة علي خدمة نفسه ، وكانت في سبيلها لتمضيّة الأجازة التي تناسبها ، و ستتمتّع بكل ركن بالمنتجع ؛ فصحتها تستحق بعض الرعاية . ألم يقل الأطباء أنّه في كثير من الأحيان ما يتم تجاهل صحّة القائم علي رعاية مريض كُليّاً ؟ أمسكت كُتيّب المنتجع بذراعين مفرودين ، وكانت في الغالب تستعير نظارة جان .
ثمّة رجلٍ مُقزّز يسجلُ اسمَه ، حرّان و مُتضايق . ألقت نظرة سريعة علي الخاتم المنقوش في خنصره الأيمن ، و علي المحاليق المُتعرّقة تحت قبعته البانميّة و المِدْرَأ الّذي تعرّقت نقوشه فوق ظهره . قال أّنه من جنوب أفريقيا سوي أنّ لكنته كانت ايرلنديّة تحمل ثقةً زائدة بالنفس تنقلب لكوميديا بنبرات الصوت . ترقّبت أن يعيرها انتباهاً ، و قد فعل .
:" أهلاً ..طقسٌ لطيف، أليس كذلك ؟ أظنُ أنّي بمفردي قد رفعتُ درجة حرارة هذه الحجرة الصّغيرة جدّاً حوالي خمس درجات " مُردفاً كلماته بابتسامة عريضة .
أعطت جان لدي رجوعها إلي الحجرة ، الكُتيّبات الدعائيّة المُتعلّقة بالشأن الثقافي . اختارت تلك التي اعتبرتها أكثر مدعاة للسخرية ، جولة تاريخيّة للمستعمرات النباتيّة و قضاء ظهيرة بالزخرفة الخرزيّة .
: تبدو تلك الأمور أثيرة لديك " و تابعت " كان ثمّة جنوب أفريقي سوقي يسجّل اسمه بالطابق السفلي ، وقد تخطّاني ، ربّما فكّر نفسه في نادي ميد .
نظر جان لزوجته الآن و كانت تقف قبالته ، ترتكن علي طرف الكرسي ، يتفحّص صورتها بالمرآة المستطيلة . يقدر علي رسم المشهد الّذي جري بمكتب الاستقبال . كانت لتستعمل مرفقها الأيسر لتسند جسدها و قد مالت فوق الطّاولة ، مُفسحة مسافة دقيقة مقصودة بين الطّاولة وصدرها . كانت أصابعها الطويلة لتلعب بعُقدِها ، و حين التفت الرجل ناحيتها كانت لتمنحه تلك نفس الابتسامة المتباطئة التي تعكسها المرآة الآن ، نظرة تجعل رجلاً يُمعنُ النظرَ مرتين .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.