«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنّ نصبحَ أغْرَاباً

رواية تتحري الظرف الإنساني ، أو بالأحري تتأمل الأساليب الاستثنائيّة التي نتعامل عبرها حين نُجابه بالمواقف الأكثر صعوبة ، وهي هنا المراحل الأخيرة من السرطان و الأولي من الزهايمر . و الإجابات التي تطرحها المؤلفة مُكئِبة : الحياة هراء ، و العلاقات البشريّة تنمو منهوكة و يجب أن تُطرَحَ جانباً ، و أولئك الّذين يخسرون ما طالما اشتاقوا إليه أو من نالوا ما تمنوه ، يصيبهم الإحباط بصدد حقيقته .
حققت الرواية فور صدورها عام 2004 نجاحاً كبيراً ، ففازت بجائزة بيتي تراسك عن أفضل رواية أولي في نفس عام صدورها و جائزة الأمير موريس عام 2006 ، كما ترشّحت لجائزة الغارديان للكتاب الأول و كانت ضمن القائمة الطويلة لجائزة المان بوكر فضلاً عن كونها واحدة من أفضل خمس روايات صدرت عام 2004 حسب صحيفة الأوبزيرفر ، رغم ذلك تعترف دين أنّها لم تكن دائماً بمثل هذا النجاح :أظن أنّ الكتابة تشبه كثيراً عمل الفطائر المُحلاة ، الفطيرة الأولي أو الثانية ، في حالتي ، نالهما الكثير من السمن ، لذا تجد نفسك مُضطراً لإلقائهما بعيداً ، سوي أنّي حين كتبت أن نصبح أغراباً عرفتُ أنّها عمل مُغاير ، رُبّما بسبب شغفي الكبير بالشخصيات التي كتبتها ، و خصوصاً جورج و آنّيمايك .
تشتهر روايات دين بمقاربتها للجانب الأكثر إظلاماً من الحياة بشكل هزلي ، ممتلكةً القدرة علي : اكتشاف بعضاً من خِفّة الرّوح و الدماثة في أكثر الأماكن إثارة للوحشة » و هي ميزة تفتخر الروائيّة بها ، بالنظر لأهميّة الجانب السّاخر لا في الأدب فحسب بل بالحياة عموماً ، أظنّ أنّ القدرة علي الضحك في ظروف بالغة الصعوبة هو الانتصار الأكبر للنوع البشري . و حتي في روايتي عن الاضطرابات في أيرلندا الشماليّة ، حيث يقضي الرجال نحبهم من أجل ما يؤمنون به ، استعمل السخريّة . أظنُّ أنّ ثمّة بطولة و جمال في القدرة علي الضحك في مواقف عسيرة أو قاسية ، وهو ما يحافظ علي سلامة عقولنا في كثير من الأحيان ! .
الرواية تصدر قريباً عن سلسلة الجوائز.
1
كان قد ملَّ حياته من قبل أن يصيبه السّرطان.
و بدءً من اللحظة التي أخذ فيها مسألة احتضاره علي محمل الجدّ، صار مشغولاً ؛ استغرقه فهم المرض و تدريب جسده علي مقاومته. لكم كان بدنه قوي الاحتمال . ست سنوات من العمليات و الاستئصالات ، بدأت بصدره ، ثمّ راحت الخلايا السّرطانيّة تنبّثُ برئتيه و في كبده . باحت حزمة من الاستئصالات المُبكّرة بكل مُخيّم في سبيله أن يصير، في جزءٍ منه، ورماً خبيثاً . لكنه أصرّ علي النضال . كان الأطباء بكل مرّة يكاشفونه، و الأسرة ،أنّ فرص الشفاء تكاد تكون معدومة و أن معاودة ظهور المرض العُضال مُرجّحة. و عاماً تلو الآخر، كانت مجموعة من الخلايا الجديدة تظهر و تتلوها عمليّات استئصال، وقد عاش. و بان و كأنّ تقطيع جسده قد منح إرادته للبقاء زخماً عنيداً.
كان تشبّثه بالحياة في جزءٍ منه نابعاً من قناعة مفادها أنّ حياته لابد و أنّها راكمت لنفسها قيمةً ما بمرور العمر. ماذا عن كل التنهدات و الأصوات التي سُجّلت ، وكل تلك الأفكار التي اقتفي أثرها؟ لابد وأنّها تساوي شيئاً . لابد وأنّها تضيف لحياته معنيً ما. بلايين الكلمات عبر السنين طرّزها لتنسج حفنة أفكار بسيطة. أمّه! بلده! الصواب والخطأ!
كفّ عن العمل ، و التجأ للقراءة . سياسة، فلسفة، تراجم ذاتيّة.
منذ أسبوعين فحسب، أظهر مِجسّ استكشافي لبنكرياسه أنّ المرض تفشّي بدرجة أكبر، و كاشفه الأطبّاء أنّهم لن يتمكنوا من إجراء الجراحة مرّةً أخري. شدّ علي يدّ الطبيب اليمني بيديه كلتيهما وأومأ برأسه متفهماً . لاحقاً في مساء نفس اليوم ، تناهي لسمعه ، عبر باب المكتب، الموصد ، صوت زوجته آنّيمايك تتقاسم الأنباء عبر الهاتف : لقد تفشي المرض في جسده ، ولن يتمكنوا من عمل شيء له الآن.
بعد حوالي ثلاثة أيام، مرّ عليهما ولديهما الراشدين ، يحملان تذكرتين لمدة أسبوعين في الجنّة ، أوتيل بمنتجع مترف في إحدي جُزر الكاريبي . بالغ الخصوصيّة، من الأخر. صافحهما بيديه كلتيهما و نكّس رأسه ، وباستهما آنّيمايك.
قالت وهي تتفحّص زوجها جسده يَضْعُف و أردفت: لن تكون الرحلة يسيرة، سوي أنّي قويّة كفاية لكلينا»، ثمّ استأذنت كي تردّ علي الهاتف.
جلس مع ولديه، ممسكاً الهدية بين أصابعه، زاماً شفتيه، مداعباً شاربه، مدمدماً بنبرات عميقة، يفكر ملياً فيما ينصت لما يحملانه من أنباء. كان الابن الأكبر يدير مشروعه الخاص بمحرك بحث علي الويب نطاقه أوروبا ، أمّا الآخر فينهي رسالة الدكتوراه في الفلسفة في جامعة بروكسل . كان يجرّب أن يراهما كرجلين حقيقيين.
في نفس الوقت، تمكّن من سماع نُتَف من كلام زوجته المنفعل في الحجرة الأخري.
كانت تكرر بنبرة تشديد : بعدئذٍ.
أعاد قراءة التذكرتين الهدية، كانتا تحملان توصيّة أن، Vermaak julli ! متّعوا أنفسكم ! كان التّضمينُ بالنسبة له واضحاً: فبمجرد أن يتبع التوصيّة، يمكنه العودة و الموت علي نحو لائق.
ستكون تلك بمثابة عطلتهما الختاميّة. كانا قد أمضيا عدة عطلات أخيرة في السابق، لكن تلك ستكون حقّاً النهائيّة. كانت طريقة زوجته في التشديد علي هذا وسيلة لتذكيره الآن، علي متن الطائرة، أنّهما قد أمضيا بعض الأوقات الرائعة خلال السنوات الست وثلاثين، عمر زيجتهما. كانت تتنهّد بين الفينة و الأخري و هي تقلّب صفحات مجلتها قبل أن تنحيها جانباً.
أراحت فكّها علي راحة يده تُنْعِمَ النظر في وجهه، وغمغمت: حاجات كثيرة، لكن فارغة، بلا معني.
وافقها دون أن يبادلها النظر.
أردفت: مليحة جدّاً، جيدة الصناعة، لكنها تصيرُ بلا قيمة بالعام التالي، ولو كُنتَ في سبيلك لإنفاق الكثير علي حاجة منها...آه، هذا الأمر يقودوني للجنون .
أخبرته ، وهي تنزع قشرة فول سوداني علقت بضرس ورّاني ، مُتنبّهة لطلاء شفتيها _ كانت امرأة جذّابة _ قبل أن تبتلع أخر جرعة من كأس الجِنّ مع الصودا ، أنّها قدّرت عدد العطلات التي أمضياها سوياً منذ زواجهما ففاقت الأربعين.ناولت المضيفة الكوب البلاستيك
تخيّل الكُتب ذات الغلاف الورقي مثنيّة الأطراف ، مبلولة ورخوة عند حافة المسبح . فُتات المحار المتبقّي في أطباق العشاء. مساعي ساعات الليل لركل الشراشف البيضاء المُثبّتة بعناية. الأوتيلات والمستشفيات كلاهما يتطلّب منه درجة من الإذعان. زوجته لم تذعن.كانت ذقنها صارمة ، وكانت تستعملها في إنهاء عباراتها. و قد تلألأت عيناها؛ فلو كانت براغماتيّة فلديها السبب لذلك ، ففي البدء توقّعوا ألا يعيش أكثر من ستة أشهر و قد عاش ستة أعوام . لقد جعلها هذا صلبة.
فكّر جان: سِتُ سبعُ سنواتٍ تقريباً من الصفاء مُتصيّداً عينيها برهة قبل أن يطرف بناظريه بعيداً .
كان النقاء يغمرني مثل كلمة الرّب.
عفواً قال، وقد اصطدم مرفقه بمرفقها علي مسند الكرسي الّذي يتوسطهما بطريق الخطأ. كان إيمانه قد تأكّد ، أثناء مكوثه المُتكرر بالمستشفي ، أن العلاقات الإنسانيّة تونِع إذا ما أديرت بكياسة ، لقد كان ممتنّاً للأخلاق الحميدة . أمّا وجود الحبّ، الحبّ الغير مشروط، فهو محلّ شكّ. إنّه حتي يرتاب فيما يُكنّه ولديه. كما أنّه يفتقر لفكرة ما إذا كان جاهزاً للموت؛ فهي لم تخطر بباله تدريجياً علي العموم، متيحةً المجال للمرء كي يألفها. إنّ الموت علاقة ثنائيّة ، وليست تراكميّة. تشغيل و إيقاف، إِنْ هي إلا ثانية تتلو ضغطة الزناد و تنطلق الرصاصة.
الآن، و قد أضيئت أنوار ربط أحزمة الأمان و زوجته تدسّ زجاجة فودكا صغيرة احتياطيّة داخل الحقيبة المركونة قدّامها، ذكّر نفسه بعزمه أن يحزم الحقيبة من أجلها.كان بالكاد يعرفها ، و قد وقع في مشاكل جمّة بسبب معرفته البسيطة بها في السنوات القليلة الماضية . كان أمراً معقولاً التفكير بأنّ ما من أحدٍ منهما يمكن إلقاء اللائمة عليه بالكامل، وكان من الممكن، حتي الآن، أن يهجر كل منهما الآخر كصديقين. لقد كان هذا ما يأمله من تلك العطلة، لم يصارحها بالكثير ، سوي أنّه افترض شعورها بالأمر . خصوصاً و أنّه، في الحقيقة ، كان يحتضر الآن.
رأي، علي يساره، قطاعاً من رفاق الرحلة من شمال أوربا ينزوون و يجفلون من الإنغماد المُباغت لأشعّة الشّمس الاستوائيّة. بسط ذراعه عبر زوجته و بحركة أنيقة، مُستخدماً سبابته و إبهامه، رفع السّتار المرن ليغطي نافذتيهما.
2
ازدادت بهجة آنّيمايك أثناء ارتفاع المِصْعَد، و نطق وجهها بابتسامة حين أضاء النّور حرفي PH ؛ ففلذتي كبدها حرصا علي مستوي لائق للإقامة كانت الحجرة تتوافق مع معايرها للرفاهيّة ، مناشف بيضاء كثيفة الوبر ، شراشف دقيقة الغزل ، فولاذ لا يصدأ و خشب مصقول .ذلك ما كانت علي قناعة بأنّه الأمثل .
جلس زوجها في أودة النوم برفقة كتاب ، يشذّب شاربه و يجرع كأساً تلو الآخر مع كل صفحة يقلبها ، و قد أخفض كتفيه مانحاً عنقه بين الفينة والأخري هزّه خفيفة .
: كنتُ أظنُ أنّه من المُفترض أن تُريحك القراءة ، قالت آنّيمايك تردد جملتها المكرورة .
كانت قد خرجت لشمّ الهواء ، و توضّبت لتأخذ جولة حول المكان لتقف علي ما يُقدّمه ، سوي أنّ زوجها خلا إلي الكتاب . هو يقبع في مكانه وهي تنبضُ بالحركة ، لطالما سارت الأمور بينهما علي نفس المنوال ، أمّا مرضه فقد عزز ببساطة هذا التباين كما يُظهرُ الضوءُ شريطاً فوتوغرافياً .
خرجت لتري المنتجع . كل شيء مُنظّم فضلاً عن نظافته . ألِف لسانها أن يلهج بصوتٍ عال ، بشكر الله ، علي النظافة التي كانت تلقاها بكل ركنٍ قصدته . مطاعم ، بيوت أصدقاء ، مدارس ، وطبعاً ، علي وجه الخصوص ، الحمّامات.
:بإمكاني رواية الكثير عن مكانٍ ما ، بمجرد أن أدخلَ الحمام " ، أعلنت أمام حشدٍ من الحضور ، ما جعلَ جان يبتسم و يتمتم في هدوء :Summa summarium
لدي عودتها لحجرتهما ، راحت تصف بدقّة العصافير ،وهي تُشيح بيديها في الفراغ ، السقوف العالية و المراوح الخشبيّة و النوافذ الزجاجيّة المستطيلة المُطلّة علي مغطس سباحة لازَوَرْديّ يُتاخم حمام جاكوزي رخامي . كانت تملك عيناً خبيرة بالتفاصيل ؛ فمغطس السباحة نصف مسقوف علي طراز القصور الإيطاليّة ، تحوطه فرندة مطليّة بالقرميد تطلّ علي منحدَر صخري شاهق يري صخب المحيط الأطلنطي .
: و ، يا جان ، ذلك هو ذات القرميد الّذي لدي ليني و إيريك في حمامهما ، لكنه هنا ملصوق برّه . تحبُ ليني فكرة أنّ لا أحدَ سواها يلصقُ قرميد الواجهات داخل المنزل ، سوي أنّي رأيت ذلك مسبقاً ، حين كُنّا في إجازة في الشارنتيه . لقد قلتُ لها .
كانت قد شافت شلّة رجال يتسكّعون حول المسبح كابحين بطونهم . كانت زوجاتهم في الجاكوزي ، يتحدّثن علي المشايات الجانبيّة ، و قد حافظنّ علي وجوههن مكشوفة للشمس .
أخبرته عن بار مسقوف عند نهاية جادة تحفّها الأشجار ، يشبه إسطبلاً ايطالياً يسع حوالي ثلاثين كرسيّاً عالياً بلا مسند تتحلّق حول منضدة مصقولة بالأجرّ . في المنتصف فرن بيتزا ، وقد جعلتها رائحة نبات إكليل الجبل المخبوز و جبن البارما الطري السّاخن ، تشعر بالجوع . كانت ثلاث شابّات ، من المنتجع ، يلبسن فساتين ، تتشاركنّ فطيرة بيتزا مُسطّحة كبيرة الحجم ، ثمّ عادت نظاراتهنّ تعكس كوكتيلاً أحمر اللون يملأ دورقاً يكسوه الثلج . بلغت ، عبر بساتين يغطيها عشب مورق و تتدلي منها ثمار مكتنزة ترويها مرشّة ضخمة ، مرجة خضراء تتوسطها بركة ماء مستديرة وراءها باحة فيها ممشي إلي بعض الغُرف بالطابق الأرضي و دَرَج مفروش بالرّمال البيضاء يقود للفندق الرئيسي. ثمّة مطعمين في الطابق الأول ، أحدهما غير رسمّي علي طراز المطاعم الفرنسيّة الصغيرة ، كل ما فيه مصنوع من الخشب الثّقيل و الألومونيوم ، والآخر مؤثث بشمعدان زيني و كراسي بمساند عالية قدّام مناضد مدوّرة واسعة وعارية ، وقد جلس بعض الموظفين إلي إحدي الترابيزات يتكلّمون بصورة جديّة. تسمّرت برهة عند الباب تحدّق بهم . حطّ المدير ، الوحيد الّذي يلبس بلا تكلّف ، والوحيد صاحب البشرة البيضاء ، ذراعيه اللتين سفعتهما الشمّس فوق التّرابيزة مُمسكاً بمفكرته المخطوطة كي يري الموظفون المكتوب فيها . بدا شاباً سائغاً ذا وجه مُعبّر مُفْعَم بالحياة . تمتمت ، وسيم ، محققة نقلة صغيرة بالرأي . هنا توقّفت .
التقط جان كتابه مرّة أخري .
غمغم : طيب ...طيب مردفاً : يبدو المكان من النوع الّذي تفضلينه .
رأت ، زوجين شابين بملابس السباحة يتبادلان القُبلات في مدخل حجرتيهما . كان بإمكانهما التريُّث قليلاً ليصيرا بالداخل ، سوي أنّهما رغبا أن يتباوسان بكل ركن . كانت الفتاة اسبانيّة الطلعة بشعر داكن طويل مُجعّد ، والفتي غضّ كفاية ليحوز بشرة ناعمة ، خلت من الشعر . تُري ما مدي الطراوة التي يحسّها جسديهما حين يتضامّان ؟. ممتلئان بالصحّة ، غادرا المسبح نظيفان جداً ، تحوطهما الأناقة من كل جانب .تساءلت ما إذا كانا يغفران لبعضهما حين يتجادلان . ربّما لا يتجادلان أبداً ، أو أنّ حاجتهما للمس بعضهما غمرت أي تبرّم .
كان جان ينوس فوق الكتاب . لم يكن المشهد صامتاً بالنسبة له ، بلّ ناطقاً ، أنصت و أظهر ردّات فعل، حتي و هي واقفة هناك قدّامه ، تُطلّ الإثارة من عينيها مبهورة الأنفاس وهي تحدّق لصورتها في المرآة. لم تعر سنها انتباهاً _ خمسون عاماً _ سوي أنّها سرعان ما ستنتبه، وساعتها كل تلك الفورة لتنتهي بالنسبة لها . لقد ودّعت حياتها بكل الصور الممكنة ، برقّة و بغضب ، أمّا هو فلم يسمعها أبداً ، بأي شكل .
غادرت الحجرة و قصدت مكتب الاستقبال حيث انتظرت الشّابة طويلاً ؛ حتي تُجيب أسئلتها بشأن ركوب الخيل .
كانت عيناها قد وقعتا علي الكتاب المُقدّس في البيت ، بين كُتبه . " لن أحيا كميتة " رددت لنفسها ، وأردفت : في انتظار العيش بالحياة الآخرة ! عجزت عن إيقاف نفسها عن التفكير بتلك الأمور ، و قضت الليل صاحيّة تقنع نفسها بحقّها في الاستياء .
كانت الآن قد حشدت بعض النّشرات الدعائيّة ، وصار بوسعه الفُرجة عليها إن أراد الخروج و عمل ما يحبّ أثناء الفسحة . لديه القدرة علي خدمة نفسه ، وكانت في سبيلها لتمضيّة الأجازة التي تناسبها ، و ستتمتّع بكل ركن بالمنتجع ؛ فصحتها تستحق بعض الرعاية . ألم يقل الأطباء أنّه في كثير من الأحيان ما يتم تجاهل صحّة القائم علي رعاية مريض كُليّاً ؟ أمسكت كُتيّب المنتجع بذراعين مفرودين ، وكانت في الغالب تستعير نظارة جان .
ثمّة رجلٍ مُقزّز يسجلُ اسمَه ، حرّان و مُتضايق . ألقت نظرة سريعة علي الخاتم المنقوش في خنصره الأيمن ، و علي المحاليق المُتعرّقة تحت قبعته البانميّة و المِدْرَأ الّذي تعرّقت نقوشه فوق ظهره . قال أّنه من جنوب أفريقيا سوي أنّ لكنته كانت ايرلنديّة تحمل ثقةً زائدة بالنفس تنقلب لكوميديا بنبرات الصوت . ترقّبت أن يعيرها انتباهاً ، و قد فعل .
:" أهلاً ..طقسٌ لطيف، أليس كذلك ؟ أظنُ أنّي بمفردي قد رفعتُ درجة حرارة هذه الحجرة الصّغيرة جدّاً حوالي خمس درجات " مُردفاً كلماته بابتسامة عريضة .
أعطت جان لدي رجوعها إلي الحجرة ، الكُتيّبات الدعائيّة المُتعلّقة بالشأن الثقافي . اختارت تلك التي اعتبرتها أكثر مدعاة للسخرية ، جولة تاريخيّة للمستعمرات النباتيّة و قضاء ظهيرة بالزخرفة الخرزيّة .
: تبدو تلك الأمور أثيرة لديك " و تابعت " كان ثمّة جنوب أفريقي سوقي يسجّل اسمه بالطابق السفلي ، وقد تخطّاني ، ربّما فكّر نفسه في نادي ميد .
نظر جان لزوجته الآن و كانت تقف قبالته ، ترتكن علي طرف الكرسي ، يتفحّص صورتها بالمرآة المستطيلة . يقدر علي رسم المشهد الّذي جري بمكتب الاستقبال . كانت لتستعمل مرفقها الأيسر لتسند جسدها و قد مالت فوق الطّاولة ، مُفسحة مسافة دقيقة مقصودة بين الطّاولة وصدرها . كانت أصابعها الطويلة لتلعب بعُقدِها ، و حين التفت الرجل ناحيتها كانت لتمنحه تلك نفس الابتسامة المتباطئة التي تعكسها المرآة الآن ، نظرة تجعل رجلاً يُمعنُ النظرَ مرتين .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.