"يوم الدين" لرشا الأمير رواية تستفز الأصوليين بعلاقة شيخ بامرأة تبحث رواية "يوم الدين" عن إجابات لمسائل مهمة وصعبة وعالقة في فكرنا الديني، منها الفرق بين الدين الخالص وأشكال التدين، والفرق بين المرأة كعورة والمرأة ككيان روحي.. تستفز المد الأصولي بعلاقة حب غير شرعية تجمع بين إمام مسجد وامرأة مريدة للشعر.. من اعترافاته يشرح هذا الشيخ مجهول الاسم كيف زاد ما يعتبره العقل الجمعي "خطيئة" من علاقته بالخالق قربا وإيمانا.. تسحبنا الرواية بقوة لمقارنتها بجرأة الباكستاني البريطاني سلمان رشدي في "آيات شيطانية"، فأي مصير ينتظر هذه الكاتبة؟! ما الذي يعنيه صدور الطبعة الثالثة لهذه الرواية مؤخرا في ظل خجل الإعلام الثقافي من تناولها والاحتفاء بها؟ بعد طبعتي دار الجديد البيروتية التي أسستها مؤلفة الرواية الصحفية اللبنانية رشا الأمير، والطبعة المصرية عن دار ميريت، وهي التي نقرأ منها الآن وكانت قد صدرت عام 2003، ونسخة أخري في الجزائر، فضلا عن ترجمتها إلي الفرنسية العام الماضي. إن الإجابة البديهية بأن هذه الإجراءات دليل علي تأثير رواية "يوم الدين" ونجاحها وبالتأكيد جدليتها، لا تنفي صفة التعجب من الاهتمام برواية مرهقة وصعبة وشاقة كتلك، ليس علي مستوي تعدد الشخصيات أو تشابك الأحداث وتعقدها كما سيتبادر إلي الذهن عادة، بل علي العكس، الشخصيات هنا محدودة والأحداث مكثفة وواضحة، لكن الصعوبة هذه المرة لصيقة بأكثر عناصر الرواية أهمية، إنها اللغة. أي قارئ يمكنه أن يتحمل قراءة رواية كتبت كاملة في 487 صفحة بلغة تراثية، ثقيلة، كتلك التي استخدمتها الأمير في روايتها الأولي والوحيدة حتي الآن؟، علي أي حال لن تحلو "يوم الدين" للقارئ الكسول، أو من ذلك النوع الباحث عن متعة أو تسلية ما من وراء القراءة، اعتقد أن أفضل طريقة لتناول "يوم الدين" هو نسيان ذلك التعريف علي غلافها بأنها رواية، ربما كان العنوان الفرعي في الترجمة الفرنسية والذي يعني "اعترافات إمام"، أو "يوميات واستطرادات" كما يجري علي لسان البطل، كفيل إلي جانب العنوان الرئيسي "يوم الدين" بإحداث التشويق الكافي لقارئ متمهل، صبور، مثقف، يمكنه وحده أن يكسب رواية بهذا الثقل كل هذا الانتشار والنجاح علي مستوي تعدد الطبعات. "لا أبالغ صدقيني: علم التوحيد سلبني الله الذي رأيته في بديع خلقه وأحببته دونما مساعدة من أحد، وحياتي قبلك قبحت لي الحياة وسلبتني الشوق إليها ... الله لم ألتق من يرده علي أو يردني إليه بل ما التقيت إلا بمن نأيت بنفسي، في سر نفسي، أن أشترك في الله معه، أما الحياة فالتقيت بمن ردها علي وردني إليها وكان ذلك أنت. ولادة ثانية أم بعث أول".. عبر لغة تحاكي أمهات الكتب، ومليئة باستشهادات شعرية وأحاديث نبوية وآيات من القرآن الكريم، تروي أحداث الرواية عبر راو ذكر ذي أصول ريفية محافظة، ترك عمله في وزارة الأوقاف في بلده، ليعمل كإمام مسجد وخطيب في بلد آخر ويعشق امرأة غريبة عنه. السرد الذي هو عبارة عن مذكرات الشيخ من سجنه مخاطبا عشيقته، يحوي مكاشفة عالية وتعرية للذات، حيث يلجأ الراوي إلي كتابة حكايته فيما يمكن أن نطلق عليه "أدب الاعتراف"، لكن جمال الرواية هي تجاوزها الذاتي نحو الموضوعي الاجتماعي، فولادة الشيخ الشاب الثانية المجازية علي يدي المرأة الحبيبة تحيلنا إلي قراءة موضوعية للوضع الراهن العربي، الذي سيطرت عليه أشكال للتدين غير ذات صلة بجوهر الدين، ويشهد تزايد نمو الاتجاهات الأصولية في الفكر الديني. فالشيخ الذي عرف مع عشقه - الممزوج بالطبع بممارسة الجنس - معني الحرية التي هي عكس التزمت والصرامة التي فرضتها عليه تربيته الريفية، وعرف كيف يبوح بعواطفه بعيدا عن حساسية موقعه كرجل دين، يزداد تقربا إلي الله مع عشقه هذا، علي الرغم من أنه ليس حبا صوفيا كما عهدنا، وهذه هي مفارقة الأمير الأولي الذكية والمستفزة التي تطرحها في روايتها، لكن المؤلفة تنحو جانبا عقلانيا موضوعيا ثقافيا، لكنه أيضا إنسانيا ناعما، وهي تؤسس لعلاقة بطلها الجنسية مع عشيقته، فالعاشقان يجمعهما شعر المتنبي وفعل القراءة قبل أن يجمعها تشارك الأجساد والتحامها الجنسي، ومن هنا - كما جري نقديا تداول تلك الرواية - يتزامن اكتشاف الذات والجسد مع تصاعد موجة الأصولية الدينية في المجتمعات العربية، لأن الشيخ يسجن علي إثر فتوي بإهدار دمه، لكنه في آخر الرواية، يتمني في "يوم الدين هذا" يقصد يوم القيامة، أن تكون له صاحبة مثل عشيقته لا تتردد حين يفر إليها، مناقضا بذلك الآية التي تستشهد بها المؤلفة: "يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه". إذن الرواية صادمة، تطبق فيها رشا بشكل أو بآخر نشأتها الانفتاحية والتسامحية وسط عائلة لبنانية تتمتع بتعدد الجنسيات والديانات، وتقدم بالتالي رؤية تستفز الفكر الأصولي وتناقضه بطبيعة الحال، تقول الرواية إن هذا الشيخ العاشق بات عرضة للقتل بفعل فتوي أصدرتها بعض الفرق الدينية المتزمتة، بينما أفضت تجربة هذا العاشق إلي التوفيق بين الإسلام الحق ومقتضيات العصر وقبول الاختلاف الفكري، لمحة أخري ذكية للكاتبة، أو قل هي مفارقة ثانية، أنها اختارت النصوص التراثية سواء من الشعر أو الأحاديث النبوية ما يناصر منها المرأة والدين الخالص، فمثلا اختارت بيتين للمتنبي يقول فيهما: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم الجنس والمرأة والدين والسياسة في نص صعب وطويل كهذا دافع للإرهاق بالفعل، لكنها دعوة للوقوف أمام أمور جدلية كثيرة وخلخلة الثابت منها، حتي إن لم تطرح حلولا مباشرة.