كتب أوسكار وايلد تحفته الشهيرة رواية (صورة دوريان جراي) أواخر القرن التاسع عشر؛ ورأيت أن أعرض لك عزيزي القارئ ملخصا لها لتشاركني إعجابي اللامتناهي بفكرة الرواية العبقرية، والتي يمكن أن تطبقها على واقع الحال المصري هذه الأيام.. تحكي الرواية قصة شاب إسمه دوريان جراي، فائق الجمال والحُسن، وكان يحافظ على جماله بأن آل على نفسه ألا يرتكب أيا من المعاصي والخطايا، ويبتعد عن إيذاء الآخرين، أُعجب أحد الرسامين بجمال وجهه فرسم له صورة طبق الأصل احتفظ بها في مرسمه، ورأى اللورد هنري (الشيطان) الصورة وبهره حسنها، وعقد اتفاقا مع دوريان أن يتيح له ممارسة كل أنواع الفواحش والخطايا والمعاصي ولا يتأثر جماله أو شبابه، بل يبقى على حسنه وشبابه برغم مرور السنين وهرم من يحيطون به، ولكن صورته المرسومة هي التي ستتأثر بالدمامة والقُبح ومرور الزمن؛ بينما يبقى وجهه صافيا رائقا مهما ارتكب من الذنوب، ومرت الأيام وتحقق لكلٍ ما أراد؛ مارس دوريان كل أنواع الرذائل والخطايا وبقي على حاله وجماله وشبابه وفتوته وحسنه، وصورته المخبأة في مخزنه تزداد تجاعيد وقبحا ودمامة، حتى جاء اليوم الذي قرر فيه دوريان كشف الصورة ليرى ما آلت إليه، ورآها وأدرك ما فعله بصورته بكثرة ارتكاب الخطايا والذنوب فغضب وأخرج خنجره ومزق الصورة، وما إن فعل؛ حتى انتقل كل قبحها ودمامتها إلى وجهه هو، ولمح صورة وجه في المرآة فلم يتحمل المنظر وأغمد الخنجر في قلبه وانتحر... قبل انقلاب يوليو 1952؛ كان وجه الشعب المصري وصورته ووجه وصورة بلاده أجمل وجه وأبهى صورة في العالم، علماؤه منتشرون في أرجاء الأرض يعمرونها وينشرون العلم في ربوعها، شعراؤه وأدباؤه وفنانوه وخبراؤه ورياضيوه يحتلون المراتب الأولى في مجالاتهم، زراعته أوفى وأكمل زراعة؛ قطنه وفاكهته وقمحه وذرته وقصبه تطعم أهل البلاد وتكسوهم، والفائض يجودون به على جيرانهم، بحاره مترعة بالأسماك والشعاب المرجانية فائقة الروعة، نيله يجري بالخير ويصونه أهله وربائب نعمته، صحراؤه تعيش فيها الغزلان والكباش والأراوي والنعام، الجنيه المصري يشتري جنيها ذهبيا ومصر دائنة لبريطانيا العظمى، الناس يعيشون مع بعضهم البعض ويتعاملون تعاملا محترما، يقدر كلٌ منهم الآخر، الشوارع نظيفة والمناطق الشعبية أنظف، وشارع سليمان باشا وشارع فؤاد الأول ينافسان في جمالهما الشانزيليزيه وأكسفورد ستريت، في ميدان وسط البلد الرئيس تقبع أجمل دار أوبرا في العالم، كان وكان وكان.. كل الظواهر والصفات كانت تؤكد أن الشعب المصري يتمتع بجمال صفات ومميزات شعب ورشاد حكم قلّ أن يوجَد على الأرض مثله. فماذا حدث ؟ الطامة الكبرى حدثت منتصف عام 1954، في ذلك الزمان؛ طلب رئيس الجمهورية الأول اللواء محمد نجيب من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي يرأسه انسحاب الجيش من الحكم إلى ثُكناته، وتسليم السلطة في مصر لحكومة منتخبة ديموقراطيا، فقامت قيامة المجلس الطموح إلى الحكم والسيطرة، وكان ما كان مع الرئيس نجيب داعية الديموقراطية الأول في مصر بعد الثورة، المهم أن ما حدث للشعب المصري في العقود الستة التالية كان نتيجة مباشرة لغياب الديموقراطية، فإخراج الشعب من معادلة الحكم بإرساء قواعد الديكتاتورية الرئاسية؛ جعل اتخاذ القرارت في جميع الأمور في يد واحدة؛ يد الرئيس، لا يحاسبه أحد ولا يجرؤ على مساءلته أحد، وتمتع الرئيس بحصانة رفعته إلى مصاف الآلهة، وحذا حذوه كل المحيطين به والمنتمين إلى جهاز حكمه، فاختلفت معايير اختيار الوزراء والوظائف العليا في الوزارات والمحافظات والحكم المحلي من أهل الخبرة إلى أهل الثقة، ومن أهل الولاء للبلاد إلى أهل الولاء لولي النعمة والتعيين، وتدهورت بالتالي كل مناحي الحياة في مصر، من التعليم إلى الصحة، ومن الصحافة إلى الإعلام، ومن الشرطة إلى القضاء، ومن الفن إلى الغناء، وانحدرت القيم والمبادئ والمُثُل، والشعب كل يوم يفقد وجها من وجوه جماله وتميزه بين الأمم الصاعدة، وامتلأت دور القضاء بالمظالم والقضايا والجرائم التي لم نكن يُسمع عنها، وانتشر الفساد والفوضى في بر مصر وبحرها بما كسبت أيدي الناس ... وعَوْدٌ إلى دوريان جراي، الشعب المصري؛ بوجه عام؛ وقع تحت تأثير قوة رهيبة قامت بدور اللورد هنري؛ جهاز الحكم المتسلط؛ الذي عقد معه الاتفاق الشيطاني؛ فسنّ له القوانين ووضع القواعد التي تضمن تناحر الناس وتنافسهم فيما بينهم، فلا يفكرون في أمور الحكم والسياسة، ونفذ الشعب بالضبط ما أريد له؛ أُطلقت أيدي الناس على بعضهم البعض، وانتشرت المظالم؛ ومع انتشارها شاهت معالم صورة الشعب من كثرة ما ارتكب من ذنوب وآثام؛ وخطايا وإجرام عبر ما يقترب من الستين عاما؛ فأصبح مثل دوريان جراي في دمامة وقبح صورته، بينما يرفض أن ينظر إليها، وهو يظن أنه لازال جميلا ومؤثرا، والخوف كل الخوف أن نفيق ذات يوم على رؤية وجهنا الحقيقي، حين نرى منتهى الدمامة ومنتهى القبح ومنتهى التناقض، ندعو الله أن تحمل لنا الأيام حلا لمشكلتنا غير حلّ الانتحار.. إسلمي يا مصر.