سألونى فى مجمع علمى نظمته جامعة إقليمية فى صعيد مصر سؤالا هائلا: ما الذى يصنع وجدان الإنسان المصرى الآن.. فى ظل حالة الضباب الفكرى والأدبى والفنى الذى تعيشه مصر.. ونحن كلنا نجلس الآن تحت سماء عتماء غبراء لا نجم فيها ولا قمر يضىء لنا ليل الحيارى بأدب رفيع أو شعر منيع أو رواية تملأ حياتنا نورا وإشعاعا.. وتبدد ظلمة الجهل والجهالة التى أصبحنا نمشى وسط ضبابها المعتم وليلها الطويل الذى لا ينتهى بصبح منير تسطع فيه شمس الحق والصدق والخير والجمال والفضيلة. وفى ظل غياب رموز تربينا عليها وتعلمنا فى مدرستها وعشنا مع أبطال قصصها ومسرحها وأفلامها وشعرها ورسمها ولوحاتها وغناويها وموسيقاها عمرنا كله؟ قلت لهم: أنتم كمن تريدون أن تعيدوا بناء الهرم الأكبر مرة أخرى.. وهذا مستحيل فى هذا الزمان.. وحتى لو حاولنا ومن خلفنا كل مهندسى الكرة الأرضية ومعنا كل بدع وفن وتكنولوجيا القرن الحادى والعشرين.. فلن نبنى هرما فى عظمة وشموخ الهرم الأكبر! يتدخل ك. بولس أستاذ الهندسة المعمارية خريج جامعة ميتشجان الأمريكية قائلا: اسمح لى أن أضع أمام أعين تلاميذى وتلميذاتى أن الأمريكيين حاولوا بالفعل بناء هرم يماثل تماما الهرم الأكبر.. ليخرج فى النهاية مسخا مشوها سرعان ما انهار وتساقطت حجارته! قلت لهم: الهرم ليس مجرد بناء هرمى الشكل قوامه أكثر من مليونى حجر.. كل حجر ملتصق بالحجر الذى تحته بتفريغ الهواء وليس بمونة أو أسمنت.. وتلك معجزة الهرم وعمره من عمر الزمن ما يزيد على 45 قرنا.. ومازال يتحدى الزمن وهو ليس مجرد هرم يضم مومياء الملك خوفو وزوجته، ولكنه رمز للوجود كله.. ولكن تلك حكاية أخرى غير حكايتنا اليوم! تسألنى فتاة طويلة القامة تقف فى آخر القاعة: ولا تتركنا فى حيرة من أمرنا.. هو سؤال واحد: يعنى لو وضعنا داخل الهرم نباتا أو زهورا أو حتى طعاما أو إنسانا بحاله.. وأغلقنا دونه الجدران والأبواب.. ماذا يحدث له؟ قلت: هذا السؤال تسألونه أنتم لعالم المصريات رفيق الطريق د. زاهى حواس وله كتبه ومؤلفاته عن الهرم الأكبر نفسه.. بل وله حفرياته المسجلة باسمه عن الهرم ومن بناه وكيف ومتى؟ ولكن تلك حكاية أخرى.. وإن كنت أعرف جوابه: لا شىء يذبل أو يفسد أو يموت إذا وضعناه فى قلب الهرم!
......................... ......................... نعود إلي سؤالنا الذى مازال ساطعا فى كبد السماء من فوق رءوسنا كشمس الظهيرة؟ ما الذى يصنع الآن وجدان وعقل الإنسان المصرى.. فى ظل غياب كل من صنعوه من قبل ومن بعد.. ونفخوا فيه من روحهم وفكرهم وأدبهم وعلمهم وفنهم وشعرهم وموسيقاهم وغناويهم ورسمهم ومرحهم وضحكهم وعلمهم وتعليمهم.. وغرسوا فى نفوسهم روح التحدى وفى قلوبهم أحاسيس الإبداع والخيال العظيم؟ من وضع فرشاة الألوان فى أيديهم ليرسموا لنا لوحات عبقرية تكاد تنطق وتتكلم وتقول؟ من فى مثل عظمة وفن وإبداع مايكل أنجلو وفان جوخ ورامبرانت ورودان وبيكاسو العظيم الآن؟ ثم من يملك فى مصر الآن إبداع وفن فرشاة من سبقونا أمثال مختار النحات العظيم وصلاح طاهر صاحب الريشة الذهبية وجمال السجينى وجمال كامل وإنجى أفلاطون.؟ ثم أين نحن الآن ممن سكبوا وكتبوا بدمهم وصادق أحاسيسهم تلك القصائد العظام من الشعر الشامخ الأبي.. لن نقول من أيام عمنا المتنبى وزهير بن سلمى وفارس بن حمدان وبشار بن برد والمعرى والمتنبي العظيم.. وصولا بأشجار النخيل الباسقات اليانعات ذات الطلع النضير والحضور الراسخ الأبي الكبير المتكبر والثمرات التى تسر الناظرين؟.. أين نحن الآن فى بلدنا من إبداع أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وصلاح عبدالصبور وعزيز أباظة وإبراهيم ناجى صاحب أجمل قصيدة فى سمع الغناء العربى التى اسمها الأطلال؟ أيها السادة.. لنعلنها صريحة مدوية.. من يوم أن غربت شموسهم لم يظهر نجم أو قمر ولا نقول شمس للشعر فى سماء بلادنا تشرق وتسطع سطوع شموس شوقى وحافظ وعبدالصبور وناجى وعزيز أباظة أو من ضوء شمعة إلا فى نفحة منها من أشعار الصديق فاروق جويدة والراحل عبدالرحمن الابنودى وأغانى مصطفى الضمرانى.. ......................... ......................... مازال زورقنا يسبح حتى هذه اللحظة فى بحر من تساؤلات الشباب الحائر الذى يبحث عن طريق يمشى فيه.. أو شمس تهديه.. أو بوصلة ترشده وتقوده عبر صحراء التيه التى انغرزنا فى رمالها بعقولنا وفكرنا وأدبنا وفننا.. قبل أن ننغرز فيها بأقدامنا.. تتساءل من مقدمة الصفو فتاة ذات لحظ وجمال وشعر فى سواد الليل قال عنه نزار قبانى يوما: شعر غجرى مجنون يسافر فى كل الدنيا: لا تنسوا يا سيدى فى حوارنا ما آل إليه الفن فى بلدنا.. حتى وصلنا إلى خروج الراقصات عن النص حتى إن إحداهن بدلا من هز الوسط قدمت أوراق ترشيحها لمجلس النواب المقبل..! يصيح شاب وسط الصفوف بصوت عال: يا سنة سودة يا أولاد! الفتاة ذات الوجه الصبوح تتابع كلامها بقولها: يا سيدى أين نحن الآن من نجوم الزمن الجميل.. ومن فنون الزمن الجميل فى السينما الجميلة بتاعة الأبيض والأسود.. التى تعلى كلمة الحق والخير والجمال.. ما أحوجنا نحن إلى فن هذا الزمان الذى ولى وراح.. وأصبحنا الآن نقدم فنا رديئا من »اللى أبوعشرة بقرش«؟ أسألها: أين تدرسين؟ قالت: فى معهد السينما.. ولكن أين هذه السينما التى كان ترتيبها الثالث على سينمات العالم.. بعد السينما الأمريكية والفرنسية.. بل إننا تفوقنا زمنا طويلا على السينما الإيطالية.. أما نحن الآن فقد تأخرنا كثيرا بعد موجة أفلام الجنس والإيماءات والحوار الفاضح والمناظر التى يصورونها فى غرف النوم.. وليذهب الزمن الجميل.. فن يوسف شاهين وعاطف سالم وعاطف الطيب وصلاح أبوسيف وكمال سليم إلى الجحيم؟ يصيح شاب من آخر القاعة مقاطعا أو متداخلا مع زميلته الواعية فكرا وفنا بقوله: واللا أفلام البورنو المصرية التى تشجع الشباب على الغش والجحود وعظائم الأمور.. لقد أعلنوا أخيرا أن الأفلام الممنوع عرضها لأنها تدعو صراحة للرذيلة.. سوف يعرضونها كاملة فى دور العرض.. ولتضرب رقابة المصنفات رأسها فى أقرب حائط.. ولتسقط رقابة المصنفات الفنية وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء.. الذى لا يستطيع أن يصنع شيئا.. ودقى يا مزيكا.. زى ما حضرتك بتقول دائما.. يعنى الأفلام الهابطة والتى تتضمن مشاهد يندى لها الجبين.. سوف يعرضونها عينى عينك كده على بناتنا وأولادنا ما هى ظاطت بقى! تضج القاعة بالضحك.. ......................... ......................... فى هذه اللحظة.. لم أتكلم أنا.. فقط أردت أن أعرف كل ما يدور فى فكر ووجدان هذا الجمع من الشباب الصغير.. رصيد مصر فى بنك المستقبل.. كيف يفكرون؟ ماذا يمكن أن يقدموه لمصر ولأهل مصر؟ وقفت فتاة محتشمة ذات عيون تعرف كل شىء وتخفى كل شىء..، قالت: اسمح لى يا سيدى أن أقول لك إننى أكتب القصة والرواية والمقال فى صحف ومجلات وزارة الثقافة التى بكل أسف لا يقرأها أحد.. لأن الكل مشغول بالتليفزيون والقنوات الفضائية واللعب على شاشات النت والحوار على شبكات التواصل الاجتماعى التى لا يراها ولا يفهمها الكثيرون هنا فى صعيد مصر والتى تلعب بالعقول قبل القلوب.. غرائز الخلق وحواسهم قبل عقولهم ووجدانهم.. اسمح لى عبر هذا الحوار أن أسأل سؤالا واحدا: هل نجد بين من يكتبون أدبا أو شعرا أو مسرحا أو مسلسلا تليفزيونيا أو فيلما سينمائيا أو نصا مسرحيا.. من هم فى قامة نجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو يحيي حقى أو عبدالرحمن الشرقاوي أو د. محمد حسين هيكل أو جمال حمدان أو مصطفى محمود؟ لن نقول طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وزكى نجيب محمود ود. بنت الشاطىء ولويس عوض لو تلفت يا سيدى على الساحة الآن لن تجد إلا فراغا وكراسى خالية.. بعد أن فقدنا هؤلاء.. لن نجد من حولنا الآن إلا سرابا أو أشباحا.. صدقنى يا سيدي مصر لم تعد مصر تلك الأم الولادة التى نعرفها.. أصيبت بالعقم أو أصبناها نحن بالعقم.. لألف سبب وسبب.. نحلم أن تحمل فى بطنها روادا أو نجوما.. تداعب هاماتهم السحاب.. بل أصبحت تلد أقزامل.. والأقزام كما تعرف لا يصعدون جبلا ولا يصنعون جيلا.. بل يجمعون كومة من الطوب يلقونها دون تميز على الرايح والغادى! وهذا ما يحدث الآن فى دنيا الأدب والفن والشعر وكان الله يحب المحسنين! ......................... ......................... لم يعد لدينا إلا أنصاف الفنانين وزراء المطربين وخنفاء المطربات وسقط الملحنين وأرباع الشعراء الذين نسوا أن للشعر أصولا وقواعد وقوافى وبلونا بالشعر المرسل.. وما هو بشعر وما هو بزجل.. وهذا آخر ما عندهم.. وعلينا أن نصفق لهم ونقول: يا سلام سلم من الأول عشان الجدعان! أنا الآن وحدى أزعق فى البرية.. هل لدينا شاعر واحد فى مثل قامة أحمد فؤاد نجم الذى قال وقال وقال عن شباب مصر المثقل بهموم الوطن.. ولحن أغانيه الشيخ سيد.. ومازال شباب كثير يرددوا أغانيه وأشعاره العامية التى تحكى ملحمة مصر والناس فى مصر.. وتتحدث شعرا بكل نبضة حب لهذا البلد العظيم الذى جار عليه أبناءه وأولاده وحبسوه وعذبوه وطاردوه إلى سابع أرض! لم يرحموا تاريخ مصر العظيم.. ولم يحفظوا ذكرى رجاله العظام الذين زرعوا فى كل بستان زهرة وحولوا البرارى والقفار والصحارى التى تربط فيها القرد يقطع.. كما يقول أهل الحارة المصرية وناسها الطيبين.. إلى جنات خضر وبساتين ورد ورياحين وفل متعة للناظرين.. وحتى لا نفارق سرادقات الأحزان.. ما نكاد نخرج منها حتى ندخلها من جديد حزانى مقهورين.. وها نحن ندخلها هذه المرة لكى تقف مصر كلها صفا صفا تتلقى العزاء فى ابنها ضناها.. شاعرها الجميل الذى غنى للبرتقال والست وهيبة الغجرية الجميلة التى سحرت شباب البندر عندما قال: تحت الشجر يا وهيبة يا ما كلنا برتقال.. ضحكة عنيكى يا وهيبة.. شاغلة قلوب الجدعان،. الليل بينعس على البيوت وعلى الغيطان.. والبدر نازل نوره على البيوت وعلى الحيطان.. وعيونك الصاحيين وموش نايمين .. ................... ................... نقف كلنا دقيقة حدادا على شاعر العامية الذى فرد شراعه ورحل عنا فى نهر بلا عودة!{ Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى