"كنا جزءاً من الحلم الجماعي الذي حمله العالم في سكرة رأس العام، لنفيق على هذا العالم الذي نرى..!!" الاثنين: لست أنا ذلك الرجل الذي كان يحرث أرض مصر بقدميه طوال العام.. يعايش تجربة السد العالي في أسوان، ويعيش حرب الاستنزاف النبيلة علي شاطئ قناة السويس، ويجوس في وديان مصر وصحاريها وكفورها ونجوعها وجبالها يجمع أشلاء الملحمة العربية الوحيدة الباقية علي قيد الحياة "سيرة بني هلال" على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وأجمع أغنيات الصعيد، والزواج والميلاد والعمل والموت، قبل أن تدهسها أقدام وسائل الإعلام الحديثة وبعد أن بدأت أدوات العمل التاريخية في الانقراض: الشادوف والنورج والمحراث والساقية.. الخ. لست أنا ذلك الرجل الذي أحب السعي في أرجاء بلاده يقيم أمسياته الشعرية، بالذات في زمن النكسة ليزرع الأمل ويبشر بالنهار. لست أنا ذلك الرجل الذي لم يكن يبيت في بيته "ليلتين على بعض" فأنا أعيش الآن على شاطئ قناة السويس، بيني وبين مشروعها مشروع مصر العظيم مسافة قليلة، ومع ذلك تمنعني الحالة الصحية من التواجد بين عمالها مثلما ارتحلت إلى السد العالي وهو بعد صخر ترمي به القلابات إلى السد الترابي، إلى البناء. إلى.. إلى.. إلى. في قلب الحر والبرد مع أحبابي عمال اليومية جيش مصر العامل الذي زرعها ورصف طرقها وأقام صروحها وقناطرها وتكلست أكتافهم من حمل الأشياء، أو لنقل أنهم دائماً كانوا يحملون مصر على أكتافهم. الموقع يحتاج مني إلى صعود وهبوط وهو أمر لا تحتمله الرئات التي تغلق تنفسي في حنجرتي وتكاد أن ترحل بي، كذلك تلك "الرطوبة" التي تُشبع الهواء الواقف ببخار الماء كأن الدنيا سوف تتوقف عن التنفس، ومع ذلك هم يعملون في آتون هذا القيظ، وفي ظروف عمل بدائية مازالت، إذ أن أوامر الرئيس سبقت الاستعداد، لكن كله يهون من أجلها: السندسية ذات العيون المنتظرة. ما أن ينكسر جبروت الطقس حتى أذهب إلى هناك، بحثاً عن "حراج ي القط" الذي تنقل مع مصر كما تتنقل الشمس مارة بالعالي والخفيض، بالجبال والوديان والشمال والجنوب. تحية لمفجر المشروع القومي الجديد وتحية لجيش عمال مصر الذي لا يغلبه غلاب. وإلى لقاء قريب علي رمالها زهواً ومحبة. الثلاثاء: من يري العالم الآن وانكماشه لصنع مؤامراته، أو انكماشه لتجنب هذه المؤامرات، لا يمكنه المقارنة بين العالم اليوم والعالم في الستينيات، كانت نفس المؤامرات تحاول الإظلام، وكانت نفس الشعوب تحاول الإفلات لكنها كانت من قبل سنوات الستينيات وما أدراك ما الستينات كما قالها قائل يوماً ودفع ثمن محاولة إهانتها أو إدانتها..!! لقد كان زمن التفاؤل الكوني، زمن الحلم الذي اقتسمه الجميع بالتساوي في جميع أرجاء الأرض "زمن الجماهير" التي ارتفع ثمنها، والزعماء الذين نبتوا في أرض التحدي، وأورقوا وأثمروا في دفء الثورات، كان الزمن الذي يقتصد في أقواله ولا مراوغة ولا سقوط في الصياغات للركب هرباً من التصويب نحو الأهداف في أقصر مسافة، ثمن السياسات الواضحة التي لا يتسلل زعماؤها من خلفها للتصويب على العدم، ثمن الوضوح ثمن دفع الثمن والمواجهة. كان الكل يحاول أن يدفئ الكل في زمن لا تعقيد فيه، زمن المباشرة والصوت الصحيح في خطابات زعمائه وفي الكتابات السياسية والأدبية وكانت حقول القراء ممتدة بلا حدود، وكانت العلاقة بين المبدع وجمهوره كالعلاقة بين الابن والأسرة: الأم والأب والأخوة الصغار، هزم شعراء الإنسانية غيرهم من أصحاب الذاتية والفردية دون جهد، وراحت الترجمات تقرب لنا عظماء كتاب الرواية والدراسات السياسية التي كانت من الصعب التفريق بينها وبين الأدب العظيم، وأهلت وأطلت علينا وجوه شعراء الإنسانية العالميين البسطاء، بريخت، بابلو نيرودا، ايلوار، أراجون، لوركا، وناظم حكمت التركي الذي قضي القسم الأكبر من عمره في سجون تركيا العريقة. وراح الجميع ينشد مع العم ناظم حكمت قانونه الشعري المتفائل الذي اخترعه بل راح كل من يعيد صياغته علي هواه كأنه فولكلور. "إن أجمل البحار هي التي لم نعبرها بعد وأجمل الأشعار لم نكتبها بعد وأجمل الأيام لم نعشها بعد".. وهكذا يستطيع أي حالم بغد أن يحمّل على هذا القانون البسيط الواضح النابع من الحتمية التاريخية الساذجة الرائعة ما أراد..!! كانت الستينيات زمن جيفارا، وكاسترو، وناصر، وبن بيلا، وتيتو، ونهرو وسوكارنو وسيكوتوري ونكروما، لكأن الجميع كان يريد أن يطاول بقامته سماء الفجر الجديد، أظن أننا نشأنا في زمن صحي ولحظة موفقة عالمياً، كنا جزءا من الحلم الجماعي الذي حلمه العالم في سكرة رأس العام لنفيق علي هذا العالم الذي نري..!! يموت الزمَّار الخميس: بعد أحكام المؤبد والإعدام التي أهداها القاضي لرموز الإخوان الذين أهدونا ومازالوا الكذب والانحطاط والعجرفة والفجاجة الوقحة، والاستهتار بالوطن وأهله، وسحق كل ما نحب بأقدام وضيعة. تأملت قليلاً وفكرت في عوائهم وضجيجهم وإحساسهم بعظمة كاذبة مؤذية للنفس والعقل، وحاولت تذكر ملامحهم التي طمستها السجون وغيبها أمل الزمن الجديد، وبشاير غد كنا نعتقد أننا سوف نرحل تاركين على وجوههم ابتسامة الظفر، وعلى أفواههم دمانا التي تقطر من أنيابهم السامة وقد غرسوها في قلب البدن المصري بكل الشماتة والغل. فجأة قلت لرفيقي: من هو محمد البلتاجي لم يتخيل صاحبي أني أسأل سؤالاً جاداً وإنما اعتقد أنني أحقر الرجل بنوع شماتتهم القديمة، لكن الحقيقة أن الرجل قد اختفى من ذاكرتي تماماً، شيء حقيقي من داخلي طمسه وغيب ملامحه تماماً ولم أعد أذكر من هو. قال رفيقي: يا رجل أنت تعبث، فلما اكتشف جديتي وأن ريحاً هبت على الذاكرة فاقتلعت الرجل تماماً ولم يعد له بها أثر، قال بعجب: ألا تذكر ذلك الذي كان أحد أركان "مولد رابعة"؟ ذلك الذي كان يقول: "في الوقت الذي يفرج فيه عن مرسي يكف القتل وكل ما يحدث في سيناء"؟ "يا.......ه" هكذا حين تذكرت، يا..ه كم كرهت منه الكراهية التي كانت تفج من ملامح الرجل بالذات وهو ينطق بتلك الكلمات "التعيسة!" في وجهه شيء يحفزك إلي كراهيته، ربما ذلك الغل الذي ينضح من تكوين وجهه، وذلك الوجه الذي شد إلي قالب من الكراهية، وجه لا يصلح للسماحة أو الحب أو الصفاء، وجه أضنته وأعادت تشكيله فكرته التآمرية الدائمة علي مصر وشعبها، نعم تذكرته، فقد كنت أقشعر رفضاً أحياناً حين أراه وهو يمارس احتقاره لنا وكأننا ذباب البرك، ويلقي بحكمه الجافة المصفاة عروقها من أي نبض أو رائحة إنسانية ثم تذكرت فكرته عن وضع وزارة الداخلية في جيبه. وتذكرت أني كنت أراه خلف القضبان وقد فقد إصبعاً من كفه المرفوعة أو وهو "يشوشر" على القضاة ويتطاول فيقتلونه بهدوئهم ودماثة خلقهم، يروح ويجئ مع "إخوانه" في القفص الذي لا يتسع لغلهم وبينهم كبيرهم الذي علمهم أو علموه لا أدري الكِبْر وقصر النظر واحتقار الوطن. رأيته ومرشده وفوجئت بذقن صفوت حجازي الذي يقولون إن اسمه "صفوة" وقد فقدت سمسمتها التي حاول الهرب بها يوم أعطيناه الجائزة الأولي في "قضمة السندويتش"، ترعرعت الذقن لتصبح أكبر من الوجه وتحمل نفس استدارته فكأنهما وجهان كورقة الكوتشينة "قالب ومقلوب" صاحب أشهر جملة منذ بدء القبض عليه حتى نهاية المحاكمة "أنا مش من الإخوان"، لكنك شاركتهم جل جرائمهم متلذذاً بدماء القتلى، وواقفاً في قلب الغزوة تحرض المسلمين علي الكفار ليسقط الأبرياء دون ذنب، فلتهنأ بصحبة إخوانك، ولتعتبر أنك الهاوي وهم المحترفون، اهنأ بصحبتهم ربع قرن كامل، وأرجو ألا يضيق صدرك من ضغط محبة المرشد والبلتاجي والآخرين، وألا تطلب يوماً إدارة السجن لتبلغ عن أشياء مهمة "نسيت" أن توردها في القضية فتخونهم لتنقذ نفسك ذلك أنك ضعيف ومتلون كأنك تلعب دوراً في مسرحية ولا يأخذك أحد مأخذ الجد، لا هم، ولا نحن!! اللهم لا شماتة، ولو كف الإخوان عن نيتهم الدموية وتابوا إلى الله وأنابوا، توبة نصوحا، فإننا لن نغفر لهم شر ما فعلوا بالوطن، إن غفراننا لن يمنعهم من العودة إلي شرورهم من جديد "يموت الزمّار وصابعه بيلعب" ثم إن هناك من ينوب عنهم الآن في القتل والحرق والتآمر فهذا ديدنهم الأبدي. هل كان الزمن الجميل جميلاً..؟ الجمعة: يسمونه "الزمن الجميل"، تلك النزعة الأصيلة التواقة للماضي الذي رأت بعضه أو لم تر بعد تخليصه من كل واقعيته وحقيقة الصورة التي تتبدي في التفاصيل التي يلقون بها ليأتي الاسم مطابقاً للصورة الرمادية في العقول الطيبة البسيطة التي لا تعاني مثلنا من وعورة التضاريس والتفاصيل والظلال. في استسهال مسلم وشوق عارم للماضي الذي يشبه نفياً للحاضر يقولون عن زماننا زمن الستينيات الزمن الجميل، فقد كان زمناً غنياً بآدابه وأدبائه وفنانيه وبالساسة والعلماء، هم حين يطلقون التسمية لا يسعون إلى محاولة فهم ذلك أو أسبابه، وكأن الله خلقه زمناً جميلاً، فقط لأنه مضي هم يستمعون لأغنية صادقة محكمة البناء كتابة ولحناً وغناء، فيقولون "أغنية من الزمن الجميل"، ولا نلومهم على ذلك فقد كان الزمن مزدحماً بالعمالقة يقذف بضعاف المواهب إلي الصفوف الخلفية، إلا من احتمى بالدولة أو المنصب هؤلاء الذين تختفي إبداعاتهم قبل موتهم بدقائق. في الغناء، كان زمن عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم ونجاة وشادية وفايزة وصباح ونجاح سلام وسعاد محمد وليلي مراد.. الخ وفي الرجال كان محمد قنديل وعبد المطلب ورشدي وعبد المطلب والعزبي ومحرم ولحق بأطرافه هاني شاكر.. لا تنضب الأسماء مهما استطردنا، زمن نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم وإحسان والسباعي وصبري موسي وجيل الستينيات من الغيطاني وخيري شلبي ويحيي الطاهر.. إلى آخر القائمة.. زمن عبد الصبور وحداد وجاهين وحجازي وشوشة وأبو سنة ثم أمل دنقل وسلسلة شعراء الستينيات الرائعة وكل الآخرين وكل آخر أفضل مما سبقه.. لم يكن جويدة قد جاء بعد.. زمن النجوم الكبرى في السينما من فاتن حمامة إلى التابعي كبير الرحيمية مروراً بكل من عطر وجودهم الفن المصري وأذكر علي سبيل الرمز فقط سعاد حسني ونادية لطفي أما الرجال فلا قبل لنا بحصرهم، كذلك كبار مخرجي السينما من صلاح أبو سيف وحتى سعيد مرزوق.. شفاه الله. زمن المسرحيين غير المذكور: الفريد ونعمان والشرقاوي ورومان وإدريس ووهبة وأردش ومطاوع والشرقاوي والعصفوري و.. و.. زمن كمال الطويل وبليغ والموجي وصدقي والشريف ومكاوي وعبد الحق ومنير مراد زمن السنباطي والقصبجي.. زمن كل العظماء والمبدعين، زمن الساسة الكبار والصحافيين والسجانين الكبار، زمن الأبطال العسكريين العظام.. زمن عبد الناصر.. هل فعلاً كان ذلك الزمن الجميل جميلاً كما يراه من لم يعشه؟ هل كنا تحت سمائه.. نحس أنه جميل فعلاً وأننا عظماء لأننا جئنا في ذلك الزمن؟.. أبداً، كنا دائماً في حالة دائمة من القلق والضيق والإحساس بأننا نعاني اختناقاً، وعلى الرغم من السجن كان إبداعنا يقاوم قلقنا ليخرج في صورة تجمل الزمن فيصبح جميلاً لا يمكنك تجميل الزمن لو قصدت إلى تجميله وأنت لا تملكه، ولكننا كنا دائمي البحث عن الاكتمال لأن العمالقة عن يمينك وشمالك فتكتب أو تصور أو تخرج أفضل قدراتك ليعترف بمرورك في الزمن، فصدرت تلك الأعمال العبقرية.. زيادة إلى ذلك الهدوء الذي وهبه لنا وجود الإخوان في السجون فحالة القلق التي تخلفها أعمالهم الآن تقف حائلا بينك وبين التفكير في أعمال أدبية أو فنية كبرى. الآن إذا أردت أن تقدم أغنية جميلة ماذا تصنع؟ كان الزمن القديم مُرحِّباً، بل في احتياج، بكل عمل طيب وليس طارداً للجودة كما هو الآن، كان المسرح متألقاً، والسينما بها واحة كبيرة للجدية، والغناء مجلجلاً، منذ قلب الانفتاح الاقتصادي كل فن إلى سلعة تشوه الهدف النبيل في إبداع من يبني البشر والمجتمع، إلى سلعة يلجأ الجميع إلى كل الأساليب لكي تعود حاملة ربحها!! ومع ذلك كان زمناً للمناهدة والقلق، ماله قليل، ومطارداته وتضيقاته لا تتوقف، زمن قلق وخوف.. من اللحظة القادمة، كان الإبداع جميلاً ولكن هل كان زمنه جميلاً؟.. أرجو ألا يقع في اعتقاد أحد أني أحاول النيل من الزمن الناصري مثلاً ولكن بأمانة متى عشنا "زمناً جميلاً" كما ينطقونها لحظة إذاعة عمل فني؟ تماماً مثلما كان البسطاء يتجمعون لسماع السيرة الهلالية، كانوا يعتقدون أن ذلك الزمن هو أيام العروبة النقية والبطولة المطلقة، زمن التضحيات وزمن الكل في واحد والواحد في الكل، وفي الحقيقة أن ذلك الزمن الذي افترضه السميعة لم يوجد إطلاقاً ومع ذلك تخلدت الملحمة الهلالية. كان زمناً للإبداع. ولكن المبدع نفسه يظل يحمل معاناته وقلقه وتعثراته أينما ارتحل، انظروا في المسافة بين "القصبجي" المبدع، والقصبجي المواطن، ربما وضح هذا فكرتي قليلاً!! فارق بين الزمنين إن الفترة طاردة للجيد، تجبرك علي النزول من عليائك قليلاً قليلاً، تمت المقارنة في زمن التشوه، فسُمي القديم بزمن الفن الجميل.. وفي ظني أنه بعد نصف قرن آخر سوف يقولون عن زماننا هذا بأنه الزمن الجميل، فالعالم في حالة تدهور مستمر، أعاننا الله علي بناء مستقبل لهذا البلد، يليق به!! عن الأدب الفكاهي السبت: اندثر ما يسمي ب"الأدب الفكاهي" التهمه الهم الأشبه بقطارات البضاعة التي كلما مرت عربة ظهرت عربة بنفس اللون الداكن المقبض السخيف لدرجة تنسيك جمال قطارات الركاب البيضاء المبتهجة. انتهى فن النكتة تماماً كأنه اقتلع من جذوره ولم يعد يغني عنه نكات الفيسبوك التي شكلت أدمغة الأجيال الجديدة معتقدين أنها الثقافة الحديثة، وانشغل الشباب العصري بمسألة الاستقبال والإرسال، وهي نكات قد تنتهي ب"هيء" ومعظمها تعليقات سطحية على أشياء شديدة الخطورة والتأثير في واقعنا اجتماعياً وسياسياً بالذات رجعت الضحكات المجلجلة وكأنها صارت عيباً. وانتهي الشعر الفكاهي من أزجال و"مشعلقات" وغيرها، تلك التي كانت تحمل طاقة إبداعية تلعب علي مفارقات الحياة فتفجر الضحك وتخلف إبداعاً راقياً اختفي الآن في الكتب القديمة وغلفته أتربة الزمن ونسيته ذاكرته المتداعية. أزجال عمنا بديع خيري ومشعلقات "حسين شفيق المصري" وزجالو مجلة البعكوكة التي أمدت الأدب الفكاهي بزاد لا ينفد مازلت احتفظ بحقيبة كبيرة مليئة بتلك الأزجال والأغنيات تمنيت أن أنكب على تصنيفها وإضاءتها وبعثها من جديد، لكنه الزمن وألاعيبه والسياسة، ومفاجآتها لم تترك لنا فرصة التقاط الأنفاس في رمْحنا خلفها خوفاً على الوطن الذي.. علي الرغم من كل ذلك لا يلتفت إلينا كثيراً ولا يعتمد علي ما نقول وما نفعل، وحتى لو تغلب على مآزقه وأفلت واعتدل في طريقه فإن ذلك لا يكون بجهدنا علي كل حال، وإذا كان بجهدنا فإن الكرة دائماً تحت أقدام من يجيد التصويب. هل نحن مهمومون على الرغم من حالة التفاؤل التي تشكل مناخاً عاماً مؤجلاً ومحمولاً علي أكتاف أمل نفترضه ونصدقه.. وهل في فترة اشتعال فن الزجل فيما قبل الثورة، كانت الناس متفائلة؟ إن اليأس والمعاناة وقسوة المعيشة كانت تفجر في المصريين ينابيع من الضحك والإبداع، أين ذهب ذلك؟ وهل نحن في هناء مقيم؟ أو لأننا لا نملك بؤس من سبقنا كففنا عن إضحاك بعضنا البعض؟ ولماذا ماتت النكتة وكأننا قتلناها ولم نعد نملك إبداعاً فكاهياً عدا بعض من إبداعات قليلة متناثرة لا تليق بما نحن فيه، وبالمسافة ما بين أحلامنا وواقعنا؟! "كنا جزءاً من الحلم الجماعي الذي حمله العالم في سكرة رأس العام، لنفيق على هذا العالم الذي نرى..!!" الاثنين: لست أنا ذلك الرجل الذي كان يحرث أرض مصر بقدميه طوال العام.. يعايش تجربة السد العالي في أسوان، ويعيش حرب الاستنزاف النبيلة علي شاطئ قناة السويس، ويجوس في وديان مصر وصحاريها وكفورها ونجوعها وجبالها يجمع أشلاء الملحمة العربية الوحيدة الباقية علي قيد الحياة "سيرة بني هلال" على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وأجمع أغنيات الصعيد، والزواج والميلاد والعمل والموت، قبل أن تدهسها أقدام وسائل الإعلام الحديثة وبعد أن بدأت أدوات العمل التاريخية في الانقراض: الشادوف والنورج والمحراث والساقية.. الخ. لست أنا ذلك الرجل الذي أحب السعي في أرجاء بلاده يقيم أمسياته الشعرية، بالذات في زمن النكسة ليزرع الأمل ويبشر بالنهار. لست أنا ذلك الرجل الذي لم يكن يبيت في بيته "ليلتين على بعض" فأنا أعيش الآن على شاطئ قناة السويس، بيني وبين مشروعها مشروع مصر العظيم مسافة قليلة، ومع ذلك تمنعني الحالة الصحية من التواجد بين عمالها مثلما ارتحلت إلى السد العالي وهو بعد صخر ترمي به القلابات إلى السد الترابي، إلى البناء. إلى.. إلى.. إلى. في قلب الحر والبرد مع أحبابي عمال اليومية جيش مصر العامل الذي زرعها ورصف طرقها وأقام صروحها وقناطرها وتكلست أكتافهم من حمل الأشياء، أو لنقل أنهم دائماً كانوا يحملون مصر على أكتافهم. الموقع يحتاج مني إلى صعود وهبوط وهو أمر لا تحتمله الرئات التي تغلق تنفسي في حنجرتي وتكاد أن ترحل بي، كذلك تلك "الرطوبة" التي تُشبع الهواء الواقف ببخار الماء كأن الدنيا سوف تتوقف عن التنفس، ومع ذلك هم يعملون في آتون هذا القيظ، وفي ظروف عمل بدائية مازالت، إذ أن أوامر الرئيس سبقت الاستعداد، لكن كله يهون من أجلها: السندسية ذات العيون المنتظرة. ما أن ينكسر جبروت الطقس حتى أذهب إلى هناك، بحثاً عن "حراج ي القط" الذي تنقل مع مصر كما تتنقل الشمس مارة بالعالي والخفيض، بالجبال والوديان والشمال والجنوب. تحية لمفجر المشروع القومي الجديد وتحية لجيش عمال مصر الذي لا يغلبه غلاب. وإلى لقاء قريب علي رمالها زهواً ومحبة. الثلاثاء: من يري العالم الآن وانكماشه لصنع مؤامراته، أو انكماشه لتجنب هذه المؤامرات، لا يمكنه المقارنة بين العالم اليوم والعالم في الستينيات، كانت نفس المؤامرات تحاول الإظلام، وكانت نفس الشعوب تحاول الإفلات لكنها كانت من قبل سنوات الستينيات وما أدراك ما الستينات كما قالها قائل يوماً ودفع ثمن محاولة إهانتها أو إدانتها..!! لقد كان زمن التفاؤل الكوني، زمن الحلم الذي اقتسمه الجميع بالتساوي في جميع أرجاء الأرض "زمن الجماهير" التي ارتفع ثمنها، والزعماء الذين نبتوا في أرض التحدي، وأورقوا وأثمروا في دفء الثورات، كان الزمن الذي يقتصد في أقواله ولا مراوغة ولا سقوط في الصياغات للركب هرباً من التصويب نحو الأهداف في أقصر مسافة، ثمن السياسات الواضحة التي لا يتسلل زعماؤها من خلفها للتصويب على العدم، ثمن الوضوح ثمن دفع الثمن والمواجهة. كان الكل يحاول أن يدفئ الكل في زمن لا تعقيد فيه، زمن المباشرة والصوت الصحيح في خطابات زعمائه وفي الكتابات السياسية والأدبية وكانت حقول القراء ممتدة بلا حدود، وكانت العلاقة بين المبدع وجمهوره كالعلاقة بين الابن والأسرة: الأم والأب والأخوة الصغار، هزم شعراء الإنسانية غيرهم من أصحاب الذاتية والفردية دون جهد، وراحت الترجمات تقرب لنا عظماء كتاب الرواية والدراسات السياسية التي كانت من الصعب التفريق بينها وبين الأدب العظيم، وأهلت وأطلت علينا وجوه شعراء الإنسانية العالميين البسطاء، بريخت، بابلو نيرودا، ايلوار، أراجون، لوركا، وناظم حكمت التركي الذي قضي القسم الأكبر من عمره في سجون تركيا العريقة. وراح الجميع ينشد مع العم ناظم حكمت قانونه الشعري المتفائل الذي اخترعه بل راح كل من يعيد صياغته علي هواه كأنه فولكلور. "إن أجمل البحار هي التي لم نعبرها بعد وأجمل الأشعار لم نكتبها بعد وأجمل الأيام لم نعشها بعد".. وهكذا يستطيع أي حالم بغد أن يحمّل على هذا القانون البسيط الواضح النابع من الحتمية التاريخية الساذجة الرائعة ما أراد..!! كانت الستينيات زمن جيفارا، وكاسترو، وناصر، وبن بيلا، وتيتو، ونهرو وسوكارنو وسيكوتوري ونكروما، لكأن الجميع كان يريد أن يطاول بقامته سماء الفجر الجديد، أظن أننا نشأنا في زمن صحي ولحظة موفقة عالمياً، كنا جزءا من الحلم الجماعي الذي حلمه العالم في سكرة رأس العام لنفيق علي هذا العالم الذي نري..!! يموت الزمَّار الخميس: بعد أحكام المؤبد والإعدام التي أهداها القاضي لرموز الإخوان الذين أهدونا ومازالوا الكذب والانحطاط والعجرفة والفجاجة الوقحة، والاستهتار بالوطن وأهله، وسحق كل ما نحب بأقدام وضيعة. تأملت قليلاً وفكرت في عوائهم وضجيجهم وإحساسهم بعظمة كاذبة مؤذية للنفس والعقل، وحاولت تذكر ملامحهم التي طمستها السجون وغيبها أمل الزمن الجديد، وبشاير غد كنا نعتقد أننا سوف نرحل تاركين على وجوههم ابتسامة الظفر، وعلى أفواههم دمانا التي تقطر من أنيابهم السامة وقد غرسوها في قلب البدن المصري بكل الشماتة والغل. فجأة قلت لرفيقي: من هو محمد البلتاجي لم يتخيل صاحبي أني أسأل سؤالاً جاداً وإنما اعتقد أنني أحقر الرجل بنوع شماتتهم القديمة، لكن الحقيقة أن الرجل قد اختفى من ذاكرتي تماماً، شيء حقيقي من داخلي طمسه وغيب ملامحه تماماً ولم أعد أذكر من هو. قال رفيقي: يا رجل أنت تعبث، فلما اكتشف جديتي وأن ريحاً هبت على الذاكرة فاقتلعت الرجل تماماً ولم يعد له بها أثر، قال بعجب: ألا تذكر ذلك الذي كان أحد أركان "مولد رابعة"؟ ذلك الذي كان يقول: "في الوقت الذي يفرج فيه عن مرسي يكف القتل وكل ما يحدث في سيناء"؟ "يا.......ه" هكذا حين تذكرت، يا..ه كم كرهت منه الكراهية التي كانت تفج من ملامح الرجل بالذات وهو ينطق بتلك الكلمات "التعيسة!" في وجهه شيء يحفزك إلي كراهيته، ربما ذلك الغل الذي ينضح من تكوين وجهه، وذلك الوجه الذي شد إلي قالب من الكراهية، وجه لا يصلح للسماحة أو الحب أو الصفاء، وجه أضنته وأعادت تشكيله فكرته التآمرية الدائمة علي مصر وشعبها، نعم تذكرته، فقد كنت أقشعر رفضاً أحياناً حين أراه وهو يمارس احتقاره لنا وكأننا ذباب البرك، ويلقي بحكمه الجافة المصفاة عروقها من أي نبض أو رائحة إنسانية ثم تذكرت فكرته عن وضع وزارة الداخلية في جيبه. وتذكرت أني كنت أراه خلف القضبان وقد فقد إصبعاً من كفه المرفوعة أو وهو "يشوشر" على القضاة ويتطاول فيقتلونه بهدوئهم ودماثة خلقهم، يروح ويجئ مع "إخوانه" في القفص الذي لا يتسع لغلهم وبينهم كبيرهم الذي علمهم أو علموه لا أدري الكِبْر وقصر النظر واحتقار الوطن. رأيته ومرشده وفوجئت بذقن صفوت حجازي الذي يقولون إن اسمه "صفوة" وقد فقدت سمسمتها التي حاول الهرب بها يوم أعطيناه الجائزة الأولي في "قضمة السندويتش"، ترعرعت الذقن لتصبح أكبر من الوجه وتحمل نفس استدارته فكأنهما وجهان كورقة الكوتشينة "قالب ومقلوب" صاحب أشهر جملة منذ بدء القبض عليه حتى نهاية المحاكمة "أنا مش من الإخوان"، لكنك شاركتهم جل جرائمهم متلذذاً بدماء القتلى، وواقفاً في قلب الغزوة تحرض المسلمين علي الكفار ليسقط الأبرياء دون ذنب، فلتهنأ بصحبة إخوانك، ولتعتبر أنك الهاوي وهم المحترفون، اهنأ بصحبتهم ربع قرن كامل، وأرجو ألا يضيق صدرك من ضغط محبة المرشد والبلتاجي والآخرين، وألا تطلب يوماً إدارة السجن لتبلغ عن أشياء مهمة "نسيت" أن توردها في القضية فتخونهم لتنقذ نفسك ذلك أنك ضعيف ومتلون كأنك تلعب دوراً في مسرحية ولا يأخذك أحد مأخذ الجد، لا هم، ولا نحن!! اللهم لا شماتة، ولو كف الإخوان عن نيتهم الدموية وتابوا إلى الله وأنابوا، توبة نصوحا، فإننا لن نغفر لهم شر ما فعلوا بالوطن، إن غفراننا لن يمنعهم من العودة إلي شرورهم من جديد "يموت الزمّار وصابعه بيلعب" ثم إن هناك من ينوب عنهم الآن في القتل والحرق والتآمر فهذا ديدنهم الأبدي. هل كان الزمن الجميل جميلاً..؟ الجمعة: يسمونه "الزمن الجميل"، تلك النزعة الأصيلة التواقة للماضي الذي رأت بعضه أو لم تر بعد تخليصه من كل واقعيته وحقيقة الصورة التي تتبدي في التفاصيل التي يلقون بها ليأتي الاسم مطابقاً للصورة الرمادية في العقول الطيبة البسيطة التي لا تعاني مثلنا من وعورة التضاريس والتفاصيل والظلال. في استسهال مسلم وشوق عارم للماضي الذي يشبه نفياً للحاضر يقولون عن زماننا زمن الستينيات الزمن الجميل، فقد كان زمناً غنياً بآدابه وأدبائه وفنانيه وبالساسة والعلماء، هم حين يطلقون التسمية لا يسعون إلى محاولة فهم ذلك أو أسبابه، وكأن الله خلقه زمناً جميلاً، فقط لأنه مضي هم يستمعون لأغنية صادقة محكمة البناء كتابة ولحناً وغناء، فيقولون "أغنية من الزمن الجميل"، ولا نلومهم على ذلك فقد كان الزمن مزدحماً بالعمالقة يقذف بضعاف المواهب إلي الصفوف الخلفية، إلا من احتمى بالدولة أو المنصب هؤلاء الذين تختفي إبداعاتهم قبل موتهم بدقائق. في الغناء، كان زمن عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم ونجاة وشادية وفايزة وصباح ونجاح سلام وسعاد محمد وليلي مراد.. الخ وفي الرجال كان محمد قنديل وعبد المطلب ورشدي وعبد المطلب والعزبي ومحرم ولحق بأطرافه هاني شاكر.. لا تنضب الأسماء مهما استطردنا، زمن نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم وإحسان والسباعي وصبري موسي وجيل الستينيات من الغيطاني وخيري شلبي ويحيي الطاهر.. إلى آخر القائمة.. زمن عبد الصبور وحداد وجاهين وحجازي وشوشة وأبو سنة ثم أمل دنقل وسلسلة شعراء الستينيات الرائعة وكل الآخرين وكل آخر أفضل مما سبقه.. لم يكن جويدة قد جاء بعد.. زمن النجوم الكبرى في السينما من فاتن حمامة إلى التابعي كبير الرحيمية مروراً بكل من عطر وجودهم الفن المصري وأذكر علي سبيل الرمز فقط سعاد حسني ونادية لطفي أما الرجال فلا قبل لنا بحصرهم، كذلك كبار مخرجي السينما من صلاح أبو سيف وحتى سعيد مرزوق.. شفاه الله. زمن المسرحيين غير المذكور: الفريد ونعمان والشرقاوي ورومان وإدريس ووهبة وأردش ومطاوع والشرقاوي والعصفوري و.. و.. زمن كمال الطويل وبليغ والموجي وصدقي والشريف ومكاوي وعبد الحق ومنير مراد زمن السنباطي والقصبجي.. زمن كل العظماء والمبدعين، زمن الساسة الكبار والصحافيين والسجانين الكبار، زمن الأبطال العسكريين العظام.. زمن عبد الناصر.. هل فعلاً كان ذلك الزمن الجميل جميلاً كما يراه من لم يعشه؟ هل كنا تحت سمائه.. نحس أنه جميل فعلاً وأننا عظماء لأننا جئنا في ذلك الزمن؟.. أبداً، كنا دائماً في حالة دائمة من القلق والضيق والإحساس بأننا نعاني اختناقاً، وعلى الرغم من السجن كان إبداعنا يقاوم قلقنا ليخرج في صورة تجمل الزمن فيصبح جميلاً لا يمكنك تجميل الزمن لو قصدت إلى تجميله وأنت لا تملكه، ولكننا كنا دائمي البحث عن الاكتمال لأن العمالقة عن يمينك وشمالك فتكتب أو تصور أو تخرج أفضل قدراتك ليعترف بمرورك في الزمن، فصدرت تلك الأعمال العبقرية.. زيادة إلى ذلك الهدوء الذي وهبه لنا وجود الإخوان في السجون فحالة القلق التي تخلفها أعمالهم الآن تقف حائلا بينك وبين التفكير في أعمال أدبية أو فنية كبرى. الآن إذا أردت أن تقدم أغنية جميلة ماذا تصنع؟ كان الزمن القديم مُرحِّباً، بل في احتياج، بكل عمل طيب وليس طارداً للجودة كما هو الآن، كان المسرح متألقاً، والسينما بها واحة كبيرة للجدية، والغناء مجلجلاً، منذ قلب الانفتاح الاقتصادي كل فن إلى سلعة تشوه الهدف النبيل في إبداع من يبني البشر والمجتمع، إلى سلعة يلجأ الجميع إلى كل الأساليب لكي تعود حاملة ربحها!! ومع ذلك كان زمناً للمناهدة والقلق، ماله قليل، ومطارداته وتضيقاته لا تتوقف، زمن قلق وخوف.. من اللحظة القادمة، كان الإبداع جميلاً ولكن هل كان زمنه جميلاً؟.. أرجو ألا يقع في اعتقاد أحد أني أحاول النيل من الزمن الناصري مثلاً ولكن بأمانة متى عشنا "زمناً جميلاً" كما ينطقونها لحظة إذاعة عمل فني؟ تماماً مثلما كان البسطاء يتجمعون لسماع السيرة الهلالية، كانوا يعتقدون أن ذلك الزمن هو أيام العروبة النقية والبطولة المطلقة، زمن التضحيات وزمن الكل في واحد والواحد في الكل، وفي الحقيقة أن ذلك الزمن الذي افترضه السميعة لم يوجد إطلاقاً ومع ذلك تخلدت الملحمة الهلالية. كان زمناً للإبداع. ولكن المبدع نفسه يظل يحمل معاناته وقلقه وتعثراته أينما ارتحل، انظروا في المسافة بين "القصبجي" المبدع، والقصبجي المواطن، ربما وضح هذا فكرتي قليلاً!! فارق بين الزمنين إن الفترة طاردة للجيد، تجبرك علي النزول من عليائك قليلاً قليلاً، تمت المقارنة في زمن التشوه، فسُمي القديم بزمن الفن الجميل.. وفي ظني أنه بعد نصف قرن آخر سوف يقولون عن زماننا هذا بأنه الزمن الجميل، فالعالم في حالة تدهور مستمر، أعاننا الله علي بناء مستقبل لهذا البلد، يليق به!! عن الأدب الفكاهي السبت: اندثر ما يسمي ب"الأدب الفكاهي" التهمه الهم الأشبه بقطارات البضاعة التي كلما مرت عربة ظهرت عربة بنفس اللون الداكن المقبض السخيف لدرجة تنسيك جمال قطارات الركاب البيضاء المبتهجة. انتهى فن النكتة تماماً كأنه اقتلع من جذوره ولم يعد يغني عنه نكات الفيسبوك التي شكلت أدمغة الأجيال الجديدة معتقدين أنها الثقافة الحديثة، وانشغل الشباب العصري بمسألة الاستقبال والإرسال، وهي نكات قد تنتهي ب"هيء" ومعظمها تعليقات سطحية على أشياء شديدة الخطورة والتأثير في واقعنا اجتماعياً وسياسياً بالذات رجعت الضحكات المجلجلة وكأنها صارت عيباً. وانتهي الشعر الفكاهي من أزجال و"مشعلقات" وغيرها، تلك التي كانت تحمل طاقة إبداعية تلعب علي مفارقات الحياة فتفجر الضحك وتخلف إبداعاً راقياً اختفي الآن في الكتب القديمة وغلفته أتربة الزمن ونسيته ذاكرته المتداعية. أزجال عمنا بديع خيري ومشعلقات "حسين شفيق المصري" وزجالو مجلة البعكوكة التي أمدت الأدب الفكاهي بزاد لا ينفد مازلت احتفظ بحقيبة كبيرة مليئة بتلك الأزجال والأغنيات تمنيت أن أنكب على تصنيفها وإضاءتها وبعثها من جديد، لكنه الزمن وألاعيبه والسياسة، ومفاجآتها لم تترك لنا فرصة التقاط الأنفاس في رمْحنا خلفها خوفاً على الوطن الذي.. علي الرغم من كل ذلك لا يلتفت إلينا كثيراً ولا يعتمد علي ما نقول وما نفعل، وحتى لو تغلب على مآزقه وأفلت واعتدل في طريقه فإن ذلك لا يكون بجهدنا علي كل حال، وإذا كان بجهدنا فإن الكرة دائماً تحت أقدام من يجيد التصويب. هل نحن مهمومون على الرغم من حالة التفاؤل التي تشكل مناخاً عاماً مؤجلاً ومحمولاً علي أكتاف أمل نفترضه ونصدقه.. وهل في فترة اشتعال فن الزجل فيما قبل الثورة، كانت الناس متفائلة؟ إن اليأس والمعاناة وقسوة المعيشة كانت تفجر في المصريين ينابيع من الضحك والإبداع، أين ذهب ذلك؟ وهل نحن في هناء مقيم؟ أو لأننا لا نملك بؤس من سبقنا كففنا عن إضحاك بعضنا البعض؟ ولماذا ماتت النكتة وكأننا قتلناها ولم نعد نملك إبداعاً فكاهياً عدا بعض من إبداعات قليلة متناثرة لا تليق بما نحن فيه، وبالمسافة ما بين أحلامنا وواقعنا؟!