«يذكر المقريزى أن الهرم الأكبر كان مغطى بطبقة من الحجر الجيرى عليه كتابة بقلم الطير (الهيروغليفية) مذهبة فإذا أشرقت الشمس تبرق الحروف حتى لترى من مسافة قصية تبلغ يوما أو يومين. إذا تعامدت الشمس فوق ذروة الهرم عند منتصف النهار تخفت الحروف تماما حتى أنها لا تبين، غير أن الوهج يستأنف حدته عند الغروب حتى ليفوق لمعته عند الشروق ثم يمضى إلى خفوت كأنه لم يكن، لا يبدو ليلا حتى فى ليالى اكتمال القمر.. منذ أيام صدرت الأعمال الكاملة للكاتب جمال الغيطانى عن الهيئة العامة للكتاب فى سفرين ضخمين. كما صدر له عن دار النشر العريقة «نهضة مصر» كتابان: الأول مجموعة قصصية صغيرة بعنوان «يمام» والثانى كتاب ضخم جميل بعنوان «حكايات هائمة» «500 صفحة». والغيطانى بالنسبة لى رحلة عمر. منذ نحو 50 عاما تشرفت بتقديم عمله الأول «أوراق شاب عاش من ألف عام» فى باب عصير الكتب بمجلة صباح الخير. كنا فى أعقاب 67، وكنا فى حاجة لأصوات تعيد الأمل وتبعث الثقة، وكان كتابه الصغير صوت من الأصوات الشابة التى تصدت لليأس والهزيمة، مع أمل دنقل، والأبنودي، والراحل يحيى الطاهر. كان أغلبهم قد خرج من تجربة اعتقال مريرة جسدت حيرة النظام وارتباكه وكشفت عن روح الشعب الرافض للهزيمة، ومشحون بطاقة الشعب الخالد الذى يحمل لغة الطير الخالدة التى تبرق كالذهب تحت شمس مصر التى لا تغيب. عشق الغيطانى الكتب والكتابة، وتفرغ ابن جهينة المولود فى رحاب الحسين الدارس للنسيج والتراث العربى والفرعوني، المعجون فى صلابة المتصوفين واستقامة الكادحين من أجل العيش ونور المعرفة. فى غابات الصحافة أختار أن يعمل سنوات مراسلا حربيا على كل جبهات القتال فى مناطق القنال إبان حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، ثم تصدى لمشروع ارتبط باسمه وهو اصدار مجلة «أخبار الأدب» التى لعبت فى مصر بل فى البلاد العربية دورا مهما بالنسبة لكل الأصوات الشابة الجديدة. علاقته ومحبته الخالصة لأستاذ الرواية والأدب أكسبته نظاما «محفوظيا» فى القدرة على مواصلة الانتاج والقيام فى الوقت نفسه بدور معتدل متوازن فى الحياة العامة، والشأن الاجتماعي. ولأن الغيطانى كان شابا ونشيطا فإن أسفاره الداخلية والخارجية فى العالم العربي. جمال الغيطانى ليس فى حاجة إلى تعريف أو تقديم. ما أحمله له أنا من محبة شخصية تجعلنى راغب فقط أدعو فى هذه الصفحة الجديدة شباب الكتاب إلى الاقتراب من الخبرة العميقة المجردة التى يتعامل بها الغيطانى مع اللغة. هو قادر على الكتابة السهلة الواضحة عن الموضوعات الدقيقة والصعبة. معرفته بالتراث العربى جعلته قادرا على الحفاظ على ايقاع حر وناصع فى جمله المستقيمة مهما يكن موضوعه خاصا ودقيقا.فى المجموعة الصغيرة «يمام» يخرج علينا «غيطاني» آخر جديد، كما يقول كان قد تقاعد، وقلت حركته واكتفى بالأقناس بالكتب والموسيقى والوحدة فى الدور العالى من العمارة التى يسكنها: يقول فى «مقطوعة» أو «قصة» (لم يعد رسم الشكل مهما بعد أن أصبح قادرا على تجسيد الشعور والقبض على المعنى باللفظ والايقاع) يقول فى قطعة «بغتة»: «ضوء ليس مرجعية عندي، مشطوف كالزجاج النقي. متمدد، معلق لا يستند إلى شيء، لا ينفذ من خارج، ولا ينتهى إلى داخل، مستغلق البداية والنهاية، أحاول الالمام. لست بمفردي، ثمة حضور آخر، لكن لا أعرف أين. ربما فى الممر المؤدى إلى الحمام، غرفة المعيشة، حجرة المكتب التى أحرص على اغلاقها عقب مفارقتى لها، ثمة وجود ما. ربما تمكن أحدهم من الوصول والتدلى منه إلى احدى الشرفتين.....« منذ عامين أقيم بمفردي، الأبناء هناك للعمل ورفيقة الدرب تحت العلاج من المرض الشرس، دائما أضع الاحتمال أن يظهر غريب فى البيت» رغم خصوصية المشهد فإن الكاتب يصنع منه حالة عامة: قلقا ووحدة وترقبا. ذلك الرحال، الجوال عاشق النجوم واليمام، المتغزل فى نخيل الصعيد، وفى هواء سمرقند، هنا يراقب الصمت والخيالات وتحول الضوء. ولكن قلم الغيطانى يستطيع أن يصنع فنا من الألم والوحدة ومن صعوبة المرض والجراحة والفراق. كما استطاع أن يطلق روحنا إلى الأفق البعيد عندما يقول فى «حكايات هائمة» فى قطعة «كون» من نافذة الفندق قابل بصرى شجر التيوليب، لم أره إلا فى المنمنمات التى تزين الكتب. طريق يحفه صفان من أشجار باسقات كغصين المحبوبة التى لخطوها عندى رجع ورعدة حتى زمنى هذا رغم فوات السنين وضعف الهمة وبعد الشقة أمام نهر عاش متيما باليمام المحوم فى السماء منذ أن كان طفلا يراقبه فى سماء الحسين ويقول «من يعشق الحمام حقا لا يحبسه، إنما يتبعه ولو بالنظر» صوت كأنى فرخ يمام، اليمام بالتحديد أنس إلى وتبادلنا المحبة والرقرقة» الغرام المنتشر فى نصوص الغيطانى هو غرام بالصعيد. بالبر الغربى بنخيل البر الغربى الذى ليس كمثله نخيل «ثابت وفرعه فى السماء» أخميم سحر أخاذ يروى عنها حكايات وأساطير. كذلك مقبرة سنجم رع التى زينت بنقوش لا يمكن أن ينساها من استظل بظلها يوما ما. لمزيد من مقالات علاء الديب