كان الشيخ خالد الجندى موَفَّقاً هذه المرة عندما قال إن وقف برنامج إسلام بحيرى غلطة جسيمة سيرتكبها الأزهر، وإنه ليس من حق الأزهر وقف هذا البرنامج أو أى برنامج آخر، وإن العلاج ليس بتكميم الأفواه، وإن الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، وإنه لو عندنا حق، بسبب الشتم والسبّ، ناخد حقنا بالقانون. هذه عبارات الشيخ الجندى مُجمَّعة من أكثر من موقع، يُشكَر على تمسكه بما تتضمنه من مبادئ، برغم أنه قالها فى سياق التسفيه من أفكار إسلام بحيرى. أهم غرائب الموضوع أن مؤسسة الأزهر بوضعيتها الدستورية والقانونية، وبكل تاريخها الألفى، وبكل نفوذها، وبتشعب هيئاتها فى الداخل وعبر العالم، وبانتشار رجالها فى جميع الأرجاء، وبالتقدير الأدبى الكبير لها فى صفوف الأغلبية، قررت أن تختصم شخصاً واحداً! ثم إن الخصومة على آراء، محض آراء، قالها هذا الشخص، وأن ما قاله ليس جديداً وإنما من كتب مرّ على بعضها قرون من الزمان، ثم أن تصل الخصومة إلى حد العمل على إزاحته من المشهد، والتهديد بسجنه، وأن يتخيل أحد أنه يمكن منع انتشار آرائه بوقف برنامجه، فى زمن الإنترنت حيث لم يعد بإمكان أحد أن يمنع تداول كتاب أو برنامج! كما أن الأزهر بكل ما لديه، وبتأويله للخصومة مع إسلام بحيرى، يضع الهيئة العامة للاستثمار والقائمين على القناة فى حرج يبدون فيه وكأنهم يدافعون عن أعداء الإسلام! كل هذا يفتح الباب مجدداً لطرح القضية المهمة التى ينبغى أن تأخذ حقها من النقاش الهادئ حتى يتبلور فيها رأى عام، وهى الخاصة بالوضعية الاستثنائية التى يمنحها الدستور والقانون لمؤسسة الأزهر الشريف، بما يتعارض أحياناً مع الحريات التى طالب الشعب بتأصيلها، وفى وقت تجلت فيه أدلة مادية على أن هذه الوضعية تهدد أحياناً أوضاعاً حسمها الرأى العام لزمن ممتد، مثل الموقف الشعبى الواضح دون لبس والخاص بتجريم فكر التطرف وحكم الإخوان وحلفائهم ونشاطهم واستخدامهم سلاح تكفير الخصوم فى السياسة، بل ومحاكمتهم على استخدام العنف بالسلاح والتحريض على ذلك..إلخ وقد أثبتت الفترة المنقضية منذ الإطاحة بحكم الإخوان أن هناك جيوباً داخل الأزهر، المؤسسة والأوقاف والجامعة، لها رأى آخر، وهو ما كان على أوضح ما يكون فى التظاهرات التخريبية التى عمّت جامعة الأزهر، والتى شاركت فيها أعداد من الطلاب والطالبات، وكانوا يطالبون بعودة حكم الإخوان، وكان يساندهم عدد من الأساتذة. أخطر ما يمكن استنتاجه من هذه الأحداث هو أن من وسط هؤلاء المتطرفين، فكراً وممارسة، سوف تأتى قيادات الأزهر الشريف، المؤسسة والأوقاف والجامعة، بعد سنوات قليلة، ومن الطبيعى أن يستغلوا عندئذٍ الوضعية الخاصة التى يمنحها الدستور والقانون لتحقيق مآربهم. أليس هذا أدعى لإعادة النظر فى هذه النصوص التشريعية حماية لمستقبل البلاد القريب. بل إن هناك البعض، هذه الأيام، من رجال الأزهر الشريف، خاصة فى وزارة الأوقاف، يتصرف معتمداً على الصلاحيات التى تمنحها له هذه التشريعات، ولكنه يسير بها فى بعض الأحيان على خط يصطدم مع ما قرره الشعب لنفسه فى ثورة يناير وفى خروج يونيو لاسترداد الثورة بالذات من هؤلاء المتطرفين. فقد ضغط الرأى العام أيامها على الرئيس السابق عدلى منصور ليصدر قانوناً يمنع غير الأزهريين من ارتقاء منابر المساجد، وكان فى هذا تكريم للأزهر والأزهريين، وصدر القانون بالفعل استجابة لرغبة الشعب فى حظر أسماء محددة من المتطرفين من استغلال المنابر بعد أن أثبتوا أنهم خطر على أمن البلاد بما يعتمدونه من خطاب التكفير والتمييز الدينى وهجومهم السافر على المسيحية بل وعلى المذاهب الإسلامية التى لا يؤمنون بها! وأعطى القانون وزير الأوقاف حق أن يستثنى من يراه. وكان غريباً، هذه الأيام وبعد فترة قصيرة من تنفيذ القانون، أن نرى بعض هؤلاء الممنوعين بالذات يعودون، فى ملابسات غامضة يصعب على أحد أن يتخيل فيها أن تكون وزارة الأوقاف غير موافقة، وإلا فإنها متقاعسة عن تنفيذ القانون إذا كانت جهة أخرى هى التى أعادت الممنوعين. والأكثر غرابة أن هؤلاء العائدين هم الذين كان يُوجِّه إسلام بحيرى معظم سهامه لأفكارهم ولمصادرهم الفكرية، أى أن رجال الأزهر، فى المؤسسة وفى الأوقاف، بينما كان بعضهم يخططون فى السعى لوقف برنامج إسلام بحيرى، كان آخرون منهم يستعيدون هؤلاء الذين أراد الشعب استبعادهم، أو أن يغضوا الطرف عن عودتهم! كما قال مسئول بالأوقاف!! وهم يعودون هذه المرة وقد خلت لهم الساحة من الخصم اللدود، ليصولوا ويجولوا مطمئنين إلى أن أجواء التخويف سوف تفرض على آخرين أن يتعظوا من رأس الذئب الطائر! هل أخطأ إسلام بحيرى؟ إذا كان أخطأ، ما هو الخطأ؟ وما هى العقوبة؟ هل كان يسخر من المقدس بالفعل؟ أم أن السخرية كانت من شئ آخر؟ وهل تجاوزت سخريته حدود المباح؟ من حق كل شخص أن يجيب على هذه الأسئلة وغيرها كما يرى، أما ما سوف يُطبَّق على إسلام بحيرى وبرنامجه فالمفروض ألا يحسمه سوى القضاء. لقد كتبت فى هذا المكان، فى 29 ديسمبر من العام الماضى، انتقدت المصادرة الإدارية من الأوقاف لنحو 5 آلاف كتاب من كتب السلفيين، وأخذت على الاشتراكيين والعلمانيين أنهم يتعامون عن هذه المصادرة دون حكم قضائى، بوهم أنهم بعيدون عنها، وقلتُ بالنصّ: «يبدو أن الغالب على تيارات وأحزاب الاشتراكيين والليبراليين أنهم سعداء بهذا، ببساطة، وبحسابات ضيقة، لأنهم يعادون الأفكار السلفية، مما جعلهم يتناسون مقولاتهم التى يصخبون بها أن الفكر يواجَه بالفكر. أى أنهم يمارسون بالضبط ما يعيبونه على السلفيين الذين لا يرون سوى أنفسهم ولا يعترفون إلا بأنفسهم. وبدلاً من أن يُثبت الاشتراكيون والليبراليون مبدأيتهم وهم ينادون بحريات الفكر والتعبير، إذا بهم يتبنون مضمون منهج السلفيين الذى ينفى حقوق غير السلفيين! ولك أن تتخيل أن يتكرر الموقف فى كل مرة مع تيار على حدة فتتخلى عنه التيارات الأخرى سعيدة بما طاله، بوهم أن هذا يزيدهم قوة، فى حين أنه يُضعِف الجميع ويضيف قوة للاستبداد فوق قوته المستمدة من سيطرته على أجهزة الدولة». لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب