«يأتي حاملًا البهجة والأمل».. انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري ب«شم النسيم»    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    أسعار السمك والجمبري اليوم الاثنين 6-5-2024.. البلطي ب59 جنيها    برلماني يطالب بإطلاق مبادرة لتعزيز وعي المصريين بالذكاء الاصطناعي    «التنمية المحلية»: مبادرة «صوتك مسموع» تلقت 798 ألف شكوى منذ انطلاقها    محافظ كفرالشيخ: توريد 133 ألف و723 طن قمح حتى الآن    الطن يسجل هذا الرقم.. سعر الحديد اليوم الاثنين 6-5-2024 في المصانع المحلية    محافظ المنوفية: 56 مليون جنيه حجم استثمارات مشروعات الخطة الاستثمارية بمركزي شبين الكوم وتلا    تطورات جديدة في حرب أوكرانيا.. هل تتدخل فرنسا عسكريا ضد روسيا؟    «أونروا»: سنحافظ على وجودنا في رفح الفلسطينية لأطول فترة ممكنة    تصريح رسمي.. طلب عاجل من رئيس فرنسا لإدارة ريال مدريد بشأن مبابي    إقبال كبير من المواطنين على حدائق القناطر الخيرية احتفالا بشم النسيم    توقعات برج الجوزاء في مايو 2024: «الصداقة تتحول إلى علاقة حب»    4 أفلام تحقق أكثر من 7.5 مليون جنيه في دور العرض خلال 24 ساعة    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    استشاري تغذية توجّه نصائح لتفادي خطر الأسماك المملحة    قبل أولمبياد باريس.. زياد السيسي يتوج بذهبية الجائزة الكبرى ل السلاح    بعد مشاركة وسام أساسيا في المباريات السابقة .. هل سيعود محمود كهربا لقيادة هجوم الأهلى أمام الاتحاد السكندري ؟    كشف ملابسات مقتل عامل بأحد المطاعم في مدينة نصر    طلاب مدرسة «ابدأ» للذكاء الاصطناعي يرون تجاربهم الناجحة    التعليم العالي: تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    الاتحاد الأوروبي يعتزم إنهاء إجراءاته ضد بولندا منذ عام 2017    وزير الرياضة: 7 معسكرات للشباب تستعد للدخول للخدمة قريبا    ماجدة الصباحي.. نالت التحية العسكرية بسبب دور «جميلة»    بالفيديو.. مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية: شم النسيم عيد مصري بعادات وتقاليد متوارثة منذ آلاف السنين    وفاة شقيق الفنان الراحل محمود ياسين.. ورانيا ياسين تنعيه: مع السلامة عمي الغالي    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    «المستشفيات التعليمية» تناقش أحدث أساليب زراعة الكلى بالمؤتمر السنوى لمعهد الكلى    استشاري تغذية ينصح بتناول الفسيخ والرنجة لهذه الأسباب    لاعب نهضة بركان: حظوظنا متساوية مع الزمالك.. ولا يجب الاستهانة به    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    اتحاد القبائل العربية يحذر من خطورة اجتياح رفح ويطالب مجلس الأمن بالتدخل لوضع حد لهذا العدوان    إصابة 7 أشخاص في تصادم سيارتين بأسيوط    تعرف على أسعار البيض اليوم الاثنين بشم النسيم (موقع رسمي)    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    أول تعليق من الأزهر على تشكيل مؤسسة تكوين الفكر العربي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    هل يجوز قراءة القرآن وترديد الأذكار وأنا نائم أو متكئ    طقس إيداع الخميرة المقدسة للميرون الجديد بدير الأنبا بيشوي |صور    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    كولر يضع اللمسات النهائية على خطة مواجهة الاتحاد السكندرى    نصائح لمرضى الضغط لتناول الأسماك المملحة بأمان    نيويورك تايمز: المفاوضات بين إسرائيل وحماس وصلت إلى طريق مسدود    وزيرة الهجرة: نستعد لإطلاق صندوق الطوارئ للمصريين بالخارج    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    استشهاد طفلان وسيدتان جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلًا في حي الجنينة شرق رفح    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض من ذكرياتى
صلاح جاهين
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 04 - 2015


حمار شهاب الدين الذى ظلمتة الليلة الكبيرة
ضباب لندن "قصيدتى المشتركة معه
الغنوة التى كنت أهرع بعد الشغل فى الاهرام لاغنيها مع صلاح جاهين تعد صوت النصر وليس صوت النكسة
(طم طم) .. (طاطم) .. (طرالم) .. (طمطم) .. هكذا كنت أصاحب أداء العبقرى الطيب الحزين، محاولاً مسك الواحدة، وضبط الإيقاع بأصوات لا معنى لها ولكنها توقيعية منغمة، ترافقها تصفيقات ذات وقع مبتهج..(تصفيقتان فى كل دقة).
حين كنت أجلس إلى صلاح جاهين فى مكتبه- الذى كان يشغل إحدى غرف منزله بشارع جامعة الدول العربية فى المهندسين- تعودت أن أطلب إليه- دون ملل أو كلل- أن يغنى لى (البيانولا)..إحدى قصائده الإنسانية الرائعة التى لحنها سيد مكاوي.
وكان صلاح يضجر منى أحياناً وينفجر متظاهراً بالغضب حين أهاتفه، لأخبره أننى قادم لزيارته، بعد أن أفرغ من الطبعة فى «الأهرام» الذى كنت أعمل فيه- فى أواخر السبعينيات- مخرجاً فنياً ورساماً للكاريكاتير بعض الوقت.
«تعال فوراً..بس على شرط ما تقوليش أغنيلك البيانولا»
وما أن أنتهى من «تقفيل» الطبعة وأتأكد أن مدير الديسك المركزى صادق على الصفحات حتى أسابق الريح على الدرج الرخامى للأهرام، مشيراً بيدى لأستوقف تاكسياً حتى قبل خروجى إلى فضاء شارع الجلاء ( بالمناسبة كان هناك- وقتها- فضاء..كما كان هناك شارع)!
وكنت اخترت- بإصرار- أن تكون «نوبتجيتي» أو طبعتي- دائما- فى (سهرة) الأستاذ مكرم محمد أحمد ومسئوليته عن الجريدة، إذ كنت أأنس إلى وجودى فى جوار ذلك الحصن المهنى الشاهق ولكن (من بعيد لبعيد) فلا أحد يجرؤ على الاقتراب من مكرم فى لحظات الشغل، وهو الذى كان يستحيل أثناءه إلى كتلة من الأعصاب المشدودة، وإن تمتعت بصحبة ذلك الصديق الكبير فى غير أوقات العمل، وكان- مع الأستاذ سمير صبحى المخرج الصحفى العتيد- من علمانى فأحسنا تعليمي.
كنت أسارع بلملمة المثلث والممحاه والأقلام الرصاص والماكيتات، لأودعها فى أدراج مكتبى (لم يك عندى مكتب وقتها ولكن سمير صبحى أعطانى حق استخدام درجين جانبيين فى مكتبه فى حين سلمنى يوسف فرنسيس مفتاحاً لغرفته فى الدور الخامس وهى التى ضمته مع أحمد بهجت وسناء البيسي، ومن ثم فقد عشت فى الأهرام عيشة الملوك..مكتب وغرفة..وهو ترف لم يك من فى عمرى يتحصله بسهولة..لابل وتماديت فى شعور الامتلاء بنفسى نتيجة حكاية درجى مكتب سمير حتى بدأ يشعر أنه- شيئاً فشيئاً- سوف يحتاج إلى استئذانى إذا قرر الجلوس على مكتبة!)
وحين أهرع للخروج بعد الطبعة، كان الوحيد الذى يفهم إلى أين- أنا- ذاهب هو مكرم محمد أحمد الذى يدلى نظارته الطبية فوق أنفه الكبير، وينظر لى على نحو أريب من فوق قنطرتها مبتسماً إلى (الداخل) حتى لا يضبط نفسه مبتسماً فى وقت العمل.. وبالمناسبة فإن الأستاذ مكرم- الذى يراه البعض كشرياً- هو واحد من أخف الناس ظلاً ومقدرة على إرتياد مناطق الضحك فى الحياة، ولكن دون أن ينجح أحدنا فى تسجيل لحظة ضحك مرئية على وجهه العبوس.
كنت أجرى لبيت صلاح، وما أن أصل إلى بيته وأجلس إليه، وأنظر فى عينيه الملتمعتين بالطفولة، حتى يذوب ويتآكل كل ذلك الإصرار الذى تمترس به كى لا يغني: (البيانولا)..وأجده - دون أن أفتح فمي- يخاطبني: «خلاص..خلاص..ح أغنيهالك..بس دى آخر مرة»..وبالطبع لم يك للمرات آخر..وإنما مرة..سحبتنا إلى الأخري..حتى المشهد النهائى من عمر صلاح فى أبريل 1987 عندما أبلغت مكرم بوفاته وقت عملى معه فى (المصور) بدار الهلال، فسقط فى إعياء باك ونواح فلاحي، ثم استيقظ داخله وحش الصحافة من جديد، فمضى فى رواق الطابق الذى تقع فيه مكاتب المصور، ناهراً صالح مرسي- الذى اتكأ بظهره على حائط وانخرط فى نحيب فاجع- ليتوقف عن البكاء ويكتب شيئاً بينما خرج راجى عنايت من مكتبه ليسحب صالح إلى الداخل، فيما كان مكرم يصدر أوامره إلى شباب المصور (وقتها) ليتجمعوا بين يديه ويتناثروا كحبات الحنطة حين يبذرها فلاح شاطر (عمرو عامل آخر حوار مع صلاح..ناخده رئيسي..يا عمرو عاوزين صورة للغلاف..الصور الموجودة قديمة تقدر؟!)
كان مكرم إعصار صحافة يتلقى كل أسبوع عشرات من الشهادات التى تؤكد أن المصور تفوق على كل الجرائد اليوميه . وبالذات «الأهرام» واحدى تلك الشهادات كانت عن عدد صلاح جاهين الذى وضعت لحواره- ومن ثم لغلافه- عنوان (الاعترافات الأخيرة).
أما سمير صبحى فقد كان رباطا وثيقا يشدني- هو الآخر- لصلاح، وأذكر أننى التقيته فى يومى الأول للعمل فى «الأهرام» بعد أن سلمنى الأستاذ احسان عبد القدوس الى الاستاذ محمود عبد العزيز محمود مدير تحرير الأهرام(والد خالد عبد العزيز وزير الشباب الحالي) . وحين جلست فى صالة تحرير الجريدة أراقب الرائح والغادي، وأستوعب- بعينين دهشتين- كل تفاصيل عملية إنتاج الصحيفة، لاحظت رجلا يرتدى بدلة سفارى زرقاء. ويرفع دماغه الى أعلى برئاسية شديدة (كان وقتها مازال بخيره أو بشوكه.. اختر مايروق لك ) وتكتسى جلده برونزية غامقة وكأنه عاد لتوه من المصيف، نظر لى بفضول من يريد معرفة كنه هذا الكائن الشاب الذى استجد على المكان، واقترب ناحيتى بنفس خطواته الخافتة، ومد يده على ورقة رسم ملفوفة أمامى كما لو كانت من حقه، فنظرت إليه باستهجان وتحد، وإذ به يفتح الورقة ويطالعها- بإمعان- ثم يقول بصوت هامس- لا يتناسب مع رئاسيته الباديه : (تعال معايا).. وفى مكتبه قال لى : (انت مين؟).. فبادلته المقارعة بالاستنكار والاستفهام (انت اللى مين؟).. فضحك مقهقها (أنا سمير صبحى نائب رئيس القسم اللى انت بتشتغل فيه ومخرج عدد الجمعة فى الأهرام، ولسه جاى من المصيف فى مرسى مطروح)..
وخجلت قليلا ثم تماسكت وسألته: (عجبك الرسم؟) فأجابنى :(مالكش دعوة) ..
كنت أعددت ذلك الرسم للنشر فى صحيفة (صوت الجامعة) الجريدة المعملية التى كنا نتدرب فيها بكلية إعلام القاهرة، ويرأس تحريرها جلال بك الحمامصى أستاذ مادة التحرير الصحفي، والذى كان رئيس مركز الدراسات الصحفية فى الأهرام ولما جاء على أمين رئيسا لتحرير الأهرام ثم رحل ليلحق به توأمه مصطفى أمين بعد الإفراج الصحى عنه، رافقه جلال بك الى الأخبار ليكتب- هناك- عموده اليومى الشهير ( دخان فى الهواء ).
وكنت رسام جريدة صوت الجامعة، وتعودت أن أقدم عملى الى رئيس التحرير جلال بك كل أسبوع، وللأمانة لم يعترض الا فى النادر جدا على أى من أفكارى التى كانت صادمة وعنيفة فى معظمها .
ولكن وقعت الواقعة ..
ورفض لى جلال بك ذلك الرسم الذى حملته فى يدى وذهبت للأهرام مغاضبا .. وكان الرسم تعليقا على بدء كتابة محمد حسنين هيكل مقاله (بصراحة) لأول مرة بعد أن أقيل من الأهرام فى صحيفة (الأنوار) اللبنانية، فرسمت كشافا ضخما مكتوب عليه (بصراحة)، يوجه ضوءه الى باشا سمين مكتوب عليه (الرجعية )، والباشا يرفع يديه على عينيه ليقيهما شر الضوء وتحت اللوحة كتبت كلمة واحدة هى : (الأنوار).
طبعا كان فى الرسم الكثير من الاندفاع والطفولية قبل أن أعيد قراءة هيكل نقديا كدور وكنص – مرات ومرات – ولكن الآراء الاطلاقية المجردة كانت متساوقة مع تلك الفترة الساداتية التى اتسمت باستقطاب شديد ضد كل من ارتبط أو ما أرتبط بعصر عبد الناصر، فمهدت لردود فعل عنيفة على الجانب الآخر.
نهايته .. أخذ سمير الرسم دون استئذان (مرة أخري) . وفوجئت به ينشره (دون استئذان مرة ثالثة) فى جريدة (الطلاب) التى يصدرها اتحاد طلاب الجمهورية وكانت ذات هوى ناصرى غلاب، وتطبع- فى ذلك الوقت- فى الأهرام.
ولم يكترث سمير صبحى بنظراتى المحتجة حين أرادت الانتصار لحقى فى أن يستأذننى هذا الرجل الذى أصبح- فيما بعد- صاحب حق، بل صاحب كل الحقوق فى أن يتصرف كما يشاء فى أمورى وأشيائي، لأننى لم أحب مثله فى تلك الدار الصحفية العتيقة التى أعمل بها حتى الآن حيث اشتعل الرأس شيبا .
وبعد أيام وبنفس الخطوات الخافتة والنبرة الهامسة والنزعة الرئاسية , وجدته يشير لى من وراء زجاج صالة التحرير لألحق به الى غرفته , وهناك سألني: (انت تعرف صلاح جاهين؟).
فأجبته: طبعا رأيته وأنا صغير فى منزل أبى وعندى نسخة من أحد دواوينه أهداه لأبى اسمه(عن القمر والطين), فقال سمير: (لا.. هل تعرفه كرسام؟) وأجبت : (مش فاهم) , فواصل: (أصله سأل عليك النهاردة بعد ماشاف رسمتك فى جريدة الطلاب .. وأنا قلت له انت مين .. وهو عاوز يشوفك).
ومرت على تلك الحادثة سنوات تلو أخرى , تطورت فيها علاقتى بصلاح جاهين , وبعد ماغنى أمامي- مرة- ( البيانولا ) صرت أطلبها منه كل مرة, حتى إن سمير صبحى كلما عرف اننى كنت عند صلاح فى الليلة السابقة, سألنى : ( وغنى لك: البيانولا؟!).
.................................
(أنا دبت وجزمتى نعلها داب .. طمطم .. من كتر التدوير ع الأحباب .. طمطم .. وياسلملم لو أعتر فى حبيب .. طمطم .. دانا أرقص من كتر الاعجاب ..طاططم.. واتنطط واتعفرت واترقص ..كدهه .. كدهو .. كدهه ..
بيانولا وألبنده وحركات .. طمطم .. اطلعى بقى يا نصاص يافرنكات .. طمطم .. أنا عازمك ياحبيبى أمَا ألاقيك .. طمطم .. على فسحة فى جميع الطرقات .. نتنطط .. نتعفرت .. نترقص.. كدهه .. كدهو .. كدهو ) !!
......................................
كان ذلك الرجل قادرا على التحليق بى فى سماء صافية الزرقة من الطفولة والانسانية والاحساس المغرق فى الحب .
ولعلها كانت تغريدته الختامية بغنوة (البيانولا) تلك التى جمعتنى به فى حوارنا الأخير وقد نشره مكرم محمد أحمد عند رحيل صلاح جاهين .
وقصة ذلك العمل عجيبة، إذ رحت أخطط لسلسلة من الأحاديث أنشرها فى (المصور)، وضمنها كان حوار مع صلاح، الذى دعانى أن أذهب لأسجله معه، فلما دخلت غرفة مكتبه وجدت الناقد اللبنانى سمير نصرى عنده، فيما جلس صلاح على أريكة تحت لوحة لآدم حنين فيها تشكيلات جميلة من النخل ذات الأكمام .. هى نفس الغرفة التى طلبت السيدة سوزان مبارك حرم الرئيس الأسبق أن تزورها بعد وفاة صلاح واستعجبت من بساطتها، وبأنها كانت الورشة التى خرجت منها عشرات الآلاف من الرسوم، ومئات من الأغاني.
حين نظرت الى صلاح جاهين لم أك بحاجة الى كثير فراسة لأكتشف أن حزنا مغرقا من ذلك النوع الذى كان يربض على صدره أحيانا، ويهيمن على إحساسه الرقيق وقلبه المفعم بطاقة تصدير الفرح، تلبسه فى تلك الليلة.
وباغتنى صلاح متسائلا: ( هو احنا ح نتكلم ف ايه؟) ولم ينتظر اجابتى وانما واصل : (تيجى نتكلم على النخل ده .. نخله .. نخله .. نخله نخله؟) وأشار الى لوحة آدم حنين .
وأدركت أن صلاح لم يك على مايرام فقبلته وانصرفت ..
ومرت أسابيع ثلاثه .. ووجدت زوجتى تهاتفنى فى دار الهلال لتقول لي: « أن صلاح جاهين يبحث عنك»، واتصلت به على الفور فجاءنى صوته الرخيم الذى لايخلو – ابدا – من حزن عميق ليقول لى : ( انت فاكر الحوار اللى كنا ح نعمله سوا ؟ .. ايه رأيك نعمله النهارده؟).
ووافقت على الفور، ولم يك جهاز التسجبل معي، فاستعرت واحدا من مكتب الأستاذ مكرم, وذهبت إلى صلاح مساء يوم الاثنين 14ابريل1987 وسط عاصفة خماسين اختنق من جرائها ضوء أعمدة الانارة فى شارع جامعة الدول العربية .
وكعادتى لم أجهز أسئلة لذلك الحوار، ولكننى فكرت فى خطة الحديث أو (فورم) وصيغة ذلك الحديث، وكانت أن يواجه الشاعر بعضا من أشعاره ويحاورها وأحاوره من خلالها .. وبينها- بالقطع- كانت ( البيانولا).
وتلوت على صلاح :
أنا دبت وجزمتى نعلها داب .. من كتر التدوير ع الأحباب ثم سألته: ( أين أصبح أحبابك الآن .. متى تتذكرهم .. ومن تتذكر منهم؟ ) فأجاب : ( لا أبحث عن الأحباب الذين عرفتهم، ولكن عن الأحباب الذين أريد أن أقابلهم ).
وسألته:( هل تجد صعوبة فى ذلك؟) وقال:( حين أجد واحدا يكون ذلك بمحض الصدفة وليس لى الفضل فى ذلك، فأنا لا أجده من «كتر التدوير» ولكن- فقط- يدوب نعل حذائى من «كتر التدوير») !!
وسألت صلاح : (ومن أحباب زمان الذين تشتاق اليهم ؟!) فأجاب : ( أحمد بهاء الدين وسيد مكاوى وإبراهيم رجب).
وخطر لى سؤاله : (ألا تر أحدا من زملاء مدرستك القديمة؟) وقال: (كنت فى روضة أطفال أسيوط، ثم مدرسة الناصرية الابتدائي، ثم شبرا الابتدائية، ثم أسيوط الابتدائية، ثم أسيوط الثانوية .. وبالرغم من هذا فليس لى منهم أصدقاء ولا أشعر بشوق لأى منهم ).
وحين أتأمل المقطع السابق من حوارى الأخير معه (كتبت زوجته منى قطان فى مذكراتها اننى كنت آخر من جلس اليه) أجد أن صلاح تارك الدنيا حزينا وحيدا رغم أن مصركلها كانت- لعقود- حوله.
والغريب انني- عادة- لا أكتب حوارا فى نفس يوم إجراءه طالما ليس إخباريا، لأننى أترك لنفسى الفرصة كى أتأمله وأعيش فيه قليلا .. ولكن هذه المرة سطرت الحوار فور عودتى الى المنزل بعد أن أخبرت زوجتى (وقد كان صلاح يحبها ويحادثها كثيرا) اننى لم أر صلاح حزينا هكذا.
وحين قرأت فى اليوم التالى خبر نقل صلاح الى مستشفى (الصفا) بالمهندسين, ظللت أتابع حالته كل يوم مع طبيب التخدير د.عدلى الشربيني، الى أن أخبرني- بعد يومين- بأن صلاح انتقل الى رحاب بارئه.
وفى الصباح حملت الحوار الى مكرم محمد أحمد الذى بهت حين أخبرته النبأ المؤلم الصاعق، ولم يك ذاع فى المدينة بعد، وتتابعت مشاهد اللوحة الحزينة التى اختلط فيها استسلامنا لطوفان الدموع- وقد راح يضربنا على حواف مجرى ذلك اليوم الأسود- مع انصياعنا لالتزامات الواجب المهنى التى تجبرنا على انتاج الصحيفة أو المجلة وطرحها خبراً ساخناً للناس كل صبح على الرصيف.
.....................................
وفى مسار علاقتى بصلاح جاهين مئات المشاهد، والنجوم، والمشاعر والحوارات، والكثير منها لم يك منشوراً، وفى موضوعات أشعر بغرابتها حين أطالعها اليوم .. وأحدها كان عن (نكات الصعايده) سأقتطف منه- هنا- بعض الفقرات، وقد كان سبب ذلك الحوار هو زيارة قمت وزوجتى بها الى صلاح عام 1985 فى مصحة شنلى لودج شمالى لندن، التى كان صلاح يمر فيها بماراثون تنحيف وعناية صحية، ولكنه كان يعانى الوحده، فكنا نذهب إليه كل يوم تقريبا، وهناك وفى جناح الضيافة الملحق بالمصحة استقبلنا صلاح يحمل نسخة من كتاب دواوينه، وجلسنا اليه، وطلبت زوجتى أن يقرأ لها بعضا من النص، فراح ينشد الى أن بلغ شطرة، فاستعادتها منه لمرات ثلاث وهى (الأصل لما يزول .. الضل برضه يزول)، وعند تلك النقطة بدأنا حديثا طويلا عريضا عن أصل المصريين وشخصية مصر، وكعادة أى حوار شرقى مضى فى مساريب كثيرة حتى وجدنا أنفسنا فى قلب مناقشة حامية الوطيس عن نكت الصعايده، وهنا استأذنت فى التسجيل وراح صلاح جاهين يحكي: « كنت أنظر- باستمرار- لظاهرة (نكت الصعايده) على أنها جزء من ظاهرة إنسانية عالمية، فدائماً نجد فى تراث أى شعب شريحة منه أو اقليمايصبح مستهدفاً لتنكيته و تبكيته.
وحين سألت صلاح جاهين عن مدى تعامله مع الصعايده – فى رسومه الكاريكاتورية- كهدف سخرية .. قال:
«لم يحدث ذلك اطلاقاً، فقد عشت مع الصعايدة معظم صباي، لأن أبى كان وكيلا للنيابة فى ذلك الوقت،وتنقلنا معه من (ملوى الى اسيوط إلى أبوتيج) وأصبح الصعايدة- مثل كل فئات المصريين- أحد مفرداتي، بعد أن تشربت روحهم وحياتهم، وعاداتهم، وحتى حينما تعرضت لهم فى رسم (انتخبوا عبد المعبود محمود) لم يك ذلك سخرية من الصعايده، ولكنه كان سخرية من عوامل أخرى تؤثر فى الرأى السياسى للناخبين، إلا أننى مادمت ذكرت التنكيت لا أخفى ضيقى من المعاملة التى يلقاها أولئك الصعايده العمال فى المطار وفى الطائرات،حتى ان احدى نكاتهم تحكى أن مضيفة قالت لهم: (ياريس- انت وهوه- اقعدوا كلكوا على أرض الطيارة ..السواق مش شايف وراه).
وسألت صلاح عن مدى مصادقته على احساسى بأن بعض نكات الصعايده مترجمة مثل تلك التى تقول: (واحد صعيدى حاول يموت مراته حط لها المسدس فى الشوربة)، وأجابنى صلاح قاطعاً: «فعلا مثل تلك النكته يمكن ان تكون وافدة، لأن مسألة تناول الشوربة ليست من تقاليد المائدة الراسخة فى مصر، ثم أن الصعيدى لا يقتل بالمسدس وإنما (بالمقروطة)، ولكن ما أريد توضيحه فى هذا المجال هو أن الظواهر التى تنشط على نطاق واسع مثل النكات الغزيرة فى موضوع واحد تقترض- أحيانا- تراث شعوب أخري، على سبيل المثال ستجد نكات الديكتاتورية واحدة فى كل شعوب العالم سواء عن هتلر أو موسولينى أو ستالين».
وفى موضع آخر من ذلك الحوار المدهش سألت صلاح: (ألم يلفت نظرك تفشى تلك النكات عن الصعايده فى وقت اختفت فيه النكتة السياسية المنطوقة؟)، فأجاب:
«أغزر انتاج للنكات السياسية كان فى عصر عبد الناصر، فقد كانت عدة جبهات تهاجمه بشكل عنيف جداً (اليمين- اليسار- المثقفون الذين يختلفون مع منهجه السياسي- الخاضعون للحراسة)، هؤلاء- جميعا- اصطدموا بعناصر نموذجه السياسي، ومن هنا كان اندفاعهم فى تيار السخرية منه،وأذكر أن بعض أجهزة الأمن كانت تضم خبراء لتحليل تلك النكات، وبعض أولئك الخبراء كان يستطيع أن يعرف- مثلا- مكان ظهور أو صناعة النكتة(من شبرا أو من بورسعيد).. وليس هناك رابط بين ظاهرة اختفاء النكتة السياسية وبروز ظاهرة نكت الصعايده، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن نكت الصعايده هى جزء من نكات (الهلس) التى بلا مضمون سياسى وانتشرت فى السبعينيات بالذات.
على أى حال أهم تفسير سمعته فى ذلك الأمر كان من سيد مكاوى الذى قال لى إن الاستعمار هو الذى كان وراء تلك الظاهرة بهدف تقسيم مصر وجدانيا، وقد كتب أحمد بهجت- كذلك- مثل هذا الرأى فى الأهرام .
وسألت صلاح جاهين من هو أعظم صعيدى عرفته، فقال: جمال عبد الناصر، فعاودت سؤاله: ومن هو أغرب صعيدى عرفته وأجاب : عبد الحكيم عامر!
.......................................................
كانت تلك الجلسة فى صالون إستقبال مصحة شنلى لودج، والتى إستفتحها صلاح بإنشاد: (الأصل لما يزول..الضل برضه يزول) هى واحده من عشرات اللقاءات التى جمعتنا بصلاح هناك، وتعودت الإياب إلى منزلى ثم أهاتف صلاح- مرة أخري- لأطمئن عليه قبل أن يخلد إلى النوم، وكانت مثل تلك المكالمات حافلة ببعض الغرائب الضاحكة، ومنها الأشعار الفكاهية التى كان صلاح يخترعها أثناء الحديث، أو تلك التى نتبادل نظم شطراتها المسخرة، وإحداها مازلت أذكرها، إذ كان صلاح يقول- بمنتهى الخطورة- :»ضباب لندن..ضباب لندن..ضباب لندن» فأجيبه:»هايل جداً..هايل جداً.هايل جداً»،ويعود صلاح ليقول :»وفى وسط برجك العتيق..» فأرد عليه:»جثة غريق» ويقول:» اسمه شفيق»فأختتم المقطع بقولي:»والديك أدن..الديك أدن..ف ضباب لندن!!» وأنا أرى أن جمع وتوثيق كل ما يقوله مبدع كبير هو أمر واجب لأنه جرء من نتاجه حتى لو كان يدخل فى بند أغانى الكلام الفارغ Nonsense-songs، كما أرى جمع أية قصاصة يكتبها المبدع حتى لو كانت مجرد إسكتش تحضيري، وأقتني-حتى اللحظه- عدداً من أسكتشات صلاح جاهين كتب بعضها على ورق رسم من النوع الذى كان يستخدمه فى الكاريكاتير، وضمنها مسودات لأغنية شهيرة اسمها (الشوارع حواديت) لحنها هانى شنودة لفرقة المصريين.
على أية حال كانت المهاتفات اليومية بينى وصلاح فى لندن، فرصة ذهبية لا تضاهى كيما أتبصر فى طريقة ذلك المبدع الكبير وأستلهم أسلوبه فى النظر إلى بعض الناس والأشياء..ولم أنس خلالها- طبعاً- إستعادته وإستزادته ليغنى لى (البيانولا) ..وقد صادفت حادثاً لا ينسى فى مسار تلك المكالمات، إذ هاتفنى الأستاذ صلاح فى إحدى الليالى الشتوية، وظللنا نحكي، ونفيض، ونروح ونجئ على مائة موضوع..وفجأة..(وأظن أننى أحتاج- هنا- إلي: وفجأة أخري) لم أدر بنفسي، إلا وصوت صفارة طويلة حادة يصدر عن سماعة الهاتف، فيوقظنى من غطيط نوم عظيم، وغمرتنى قشعريرة خجل باردة، وصارت رقبتى مثل حبة السمسم..إذ هل يمكن أن أكون قد نمت وأنا أتحدث إلى الأستاذ صلاح ؟!.. وفى المساء التالى ترددت فى مهاتفة صلاح من فرط الكسوف، ولم يتصل هو فظننت أنه غاضب أو زعلان، وبعد ذلك بليلة أخرى قررت كسر حاجز الخشية، وأقدمت على مكالمة صلاح، وقبل أن يتحدث قلت:» والله..أنا مكسوف منك يا أستاذ صلاح..أصل أول إمبارح..»، وقاطعنى محدثى قائلاً:«أنا الحقيقة اللى مكسوف..أنا مش قادر أتصور إيه اللى حصل»، وواصلت إندفاعى الجرئ:»اللى حصل أنى نمت وأنا بكلمك»، وجاءنى صوت صلاح جاهين عبر الهاتف:»إزاي؟..أنا اللى نمت وأنا بكلمك يا عمرو»، ورحنا نتقاذف روايتى الحادثة حتى أدركنا فجأة حقيقة ما جري، إذ ليس هناك تفسير لتلك الحكاية العجيبة سوى أننا نمنا فى نفس اللحظة بالضبط فظن كل منا حين أيقظه صوت صفير الهاتف أنه نام أثناء حديث الآخر!!
وفى أحد اللقاءات اللندنية المشتركة كانت إدارة مصحة شنلى لودج منحت الأستاذ صلاح إجازة، لمدة ليلة واحدة يستطيع خلالها أن يخرج وراء أسوار المصحة ويذهب إلى أى مكان يشاء فى لندن على أن يعود قبل منتصف الليل، وقرر صلاح أن يدعونى وزوجتى إلى العشاء فى أقرب مطعم بالمنطقة التى سكناها عام 1985 وهي»بل سايز بارك»الضلع الثالث فى منطقة سكنى ثرية مع «هامستد» و»فينشلى رود» و استقر رأيه- بعد مشورة إحدى السكرتيرات فى المصحة- على مطعم سويسرى هو (سويس هاوس)، إكتشفنا أنه يقع- بالضبط- فى مواجهة منزلنا!!
وشهد ذلك العشاء- المكون من اللحم المشوى السادة لصلاح والمصاحب لصوص الجبن (الفوندو) لى وزوجتي- نقاشات طويلة ومثيرة، أحدها عن أوبريت مسرح العرائس (حمار شهاب الدين) الذى اعتبره- ومازلت- العمل الفنى الأهم لصلاح، وقد سألت مضيفنا: (لماذا نجحت الليلة الكبيرة أكثر؟)
فأجاب بأن أوبريت حمار شهاب الدين ظهر تحت ظل نجاح الليلة الكبيرة فلم ينتبه إليه احد..وأنه حين كتب نص حمار شهاب الدين على شاطئ أبى قير فى شاليه يملكه بعض أصدقائه فى الأسكندرية كان يتصور أنها ستكون الأكثر شهرة ونجاحاً وهو ما لم يحدث على الرغم من أن سيد مكاوى قدم فيها بعضاً من أعذب وأجمل ألحانه.
وقلت: «أظن أن طبيعة الموضوع هى التى فرضت التعتيم عليه، فالنص يدور حول غياب وجود قاض يحكم بالعدل، وإذا حدث وحكم قاض واحد حكماً منصفاً وعادلاً فسوف ينفك سحر المغنى الذى انسخط حماراً (حسونة حسن سُن سُن حسان..وإسم الشهرة حسن كروان..والإسم الفنى حسن)»..
وكان من الطبيعي- والحال كذلك- ألا يذاع الأوبريت فى التليفزيون المصرى إلا نادراً جداً، وحتى حين بات التليفزيون المصرى ملوناً عام 1975، وقامت شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات بإعادة تصوير(حمار شهاب الدين) ملوناً، لم يبث العمل إلا فى النذر اليسير، وذات مرة قابلت عبقرى الجرافيك والمنوعات فى التليفزيون المصرى المخرج فهمى عبد الحميد فى منزل الكاتب الكبير أحمد بهجت بجوار مسجد السيدة صفية عند كلية البنات، وهناك فتحت سيرة حمار شهاب الدين، وطلبت من الحاج فهمى أن يحصل لى على نسخة من تسجيل الأوبريت ففعل، ومازالت عندى حتى الآن، وأساوم عليها صديقى بهاء جاهين الذى لا يملك سوى النسخة القديمة الأبيض وأسود، غير أننى لم أحدد بعد الشئ الذى أطلبه منه فى مقابلها.
وأذكر أننى تحدثت فى جلستنا مع صلاح بالمطعم السويسرى فى بل سايز بارك، عن أجمل مقطع غنائى أحبه فى الأوبريت وهو :»ريحانه..ريحااااانه..ريحانه سيبها ف حالها شقيانه..ياريتنى أبوكي..كنت أراعيكي..وللا أخوكي..كنت أواليكي..والا حبيبك كنت أخليكي..يا حلوة طول العمر فرحانه..ريحااااانه..ريحانه سيبها ف حالها شقيانه».
وطلبت من صلاح أن يغنيها فضحك حتى ظهرت الفلجة ما بين سنيه الأماميين (هكذا كنت أيضاً قبل تقويم أسناني) وقال: (هذه أول مرة أعرف أنك بتحب أغنية غير البيانولا)!!
ورحنا- ثلاثتنا- نغنى أو نصفق وصلاح يغنى (مرة حمار شهاب الدين..ومرة البيانولا..) وذكرت صلاح بنص رائع له اسمه (أغنية هزار) من ديوان (قصاقيص ورق) وقد لحنه سيد مكاوى فراح يغنيه بانبساط وبهجة :»من أخسن راتسينا وإسقينا..يا خبيبى يا بارمان..كرياكوبيخب كاتينا وإستاورو زعلان..أنا عاوز إيجى سكران طينة..كلمتو عربى يا أخينا.. وأنا عمرى لا سافرت أتينا ولا رختو اليوناااان»!
وتذكرت معه الغنوة التى أبدعها حين الإحتفالات باتمام بناء السد العالى وتوقيع معاهدة الصداقة والتعاون بين مصر والإتحاد السوفيتى وهو الحدث الذى أقيم فى أسوان وحضرته فالنتينا تريشكوفا أول رائدة فضاء فى التاريخ وقالت كلمات الغنوة عنها: (فالنتينا..فالنتينا..أهلاً بيكى نورتينا..السوفييت يقولوا شكراً والمصريين سباسيبا)
.................................................
وكمثل كل المناسبات الحلوة،تعبر سحابات الدمع أمام العيون فجأة،ويجثم الحزن على الصدور غيلة.
اذ راح صلاح يحكى لنا بعضا من مشاهد الخيانة التى صادفها فى حياته،ومنها مايتعلق بشاعر وصفه بأنه (سام)، وكيف تلقى منه طعنات نجلاء فى سويداء القلب، بعد أن أسدى له كل صنيع يساعده على فتح أبواب الشهرة والمال والصعود. حكى صلاح - كذلك - عن الذين أشاعوا عنه انه انتهى بعد 1967،ومن زرعوا فى ذهن جمال عبد الناصر أن الثورة تحتاج الى صوت آخر غير صوت صلاح جاهين الذى بات يرتبط بالنكسة .
والحقيقة انني- أبدا- لم أشعر أن صوت صلاح كان شيئا غير ( صوت النصر ) فهو الذى سطر بعد الهزيمة ملحمته الأسطورية (على اسم مصر ) وهو الذى غنى مع ابراهيم رجب (الأصيل ف الدنيا دى مالوش حظ..والسعادة لكل قاسى قلبه فظ..ياترى نركع له وللا نقوله طظ..نقوله طظ..حتى لو رقبتنا تحت المقصلة..هيه ديه المسألة..والمأساة والمهزلة)..ثم أن صلاح هو صوت النصر لأن أغانيه التى قالوا عنها إنها وثائق مهزومة بعثت من جديد، وأصبحت وثائق نصر الثورة والتغيير فى السنوات القليلة الماضية ..وراح جيل الشباب الجديد يغنى مثلما غنينا من قبل : (يا أهلاً بالمعارك) و(صوره) و(المسئولية) و(بالأحضان)..لا بل واستعادت البنات والأولاد علاقتهم بمفردات الحرب من أجل الوطن فى (والله زمان ياسلاحي)و(راجعين بقوة السلاح).
انتصر صوت صلاح جاهين الآن،فيما صارت أغانى الآخرين هى وثائق الهزيمة!!
وعن الحزن كلمنا صلاح عن التضييق الذى عانى منه فى الاهرام وبالذات ماخص رسومه عن التيار الدينى والحجاب ،وبخاصة فى الفترة التى تولى فيها عبدالله عبدالبارى رئاسة مجلس إدارة الأهرام، وكان وثيق الصلة بالمهندس عثمان أحمد عثمان والمرتبط بجماعة الإخوان المسلمين،وصهر الرئيس السادات، ووقتها بدا أن مداً دينياً متطرفا يوشك على ابتلاع البلد كله وقواه التقدمية الحية التى كان صلاح جاهين- بيقين- أحد رموزها الساطعة،حتى وان أساء اليه من تسموا: التقدميين فى مشاهد كثيرة من حياته.
لم يقف مع صلاح أو يحمى رأيه فى وثائقه المرسومه سوى مكرم محمد أحمد فى ديسك الأهرام الذى قال لى صلاح فى أحد الأحاديث المقننة لأطروحتى للماجيستير- التى أهديتها اليه،وكان سعيدا بحضور مناقشتها فى جامعة القاهرة- إن مكرم كان خط دفاعى الأخير فى الأهرام لأننى لم أعد أجيد التعامل الا معه.
وبمناسبة أطروحتى للماجيستير فقد كانت دراسة فى تحليل مضمون الكاريكاتير فى مجلة روز اليوسف أعوام: 1951 – 1960 – 1968، فاننى تعرضت فيها لمعركتين مرعبتين خاضهما صلاح جاهين بالكاريكاتير، وقد رأيت فيهما مراكمة سياسية باسلة على نضال أبى الرسام الرائد عبد السميع ضد السراي، وبطش الاحتلال، وفساد الأحزاب التقليدية القديمة .
كانت احدى المعركتين ضد الشيخ محمد الغزالي، والثانية ضد المدعى العام الاشتراكى ووزير العدل د.مصطفى أبوزيد فهمي.
فأما عن معركة الشيخ الغزالى فكانت بسبب هجومه على الأفكار الأشتراكية التى انطلقت فى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية الذى استبق صدور (الميثاق الوطني)ووصفها الغزالى بأنها: (أفكار مستوردة)،وبعدها رسم صلاح جاهين صورة للشيخ الغزالى وعمامته حاسره من فوق رأسه وتوشك على السقوط بفعل قانون الجاذبية الأرضية وهو(قانون مستورد) هو الآخر،وبعدها هاج الاخوان وهاجموا مبنى الأهرام حاملين الأسلحة النارية.
أمَا المعركة الثانية فكانت حين رسم د.مصطفى أبوزيد فهمى (وكان الحليف الأول للرئيس السادات فى عملية 15 مايو 1971) وهو يقوم باملاء كاتب النيابة فى تحقيق عن تلوث المياه أن يقوم بتسجيل الآتي: (تقيد ضد مجهول ..المجهول اللى انت عارفه بتاع حريق الأوبرا وقصر الجوهرة وسرقة عصابة توت عنخ آمون واختفاء الصابون.)
وبعد ذلك استدعى النائب العام صلاح جاهين للتحقيق،وكتب رئيس تحرير الأهرام الأستاذ أحمد بهاء الدين يطالب- فى الصفحة الأولي- بالفصل بين منصبى وزير العدل والمدعى الاشتراكي، وظل ذلك السجال متداولا بين الطرفين الى أن تم الفصل فعلا بين المنصبين وانتصرت حرية الصحافة.
ونظرت إلى المعركتين- باستمرار- باعتبارهما نقيضين،اذ أن محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام دخل المعركة الأولى مستندا الى سلطة جمال عبد الناصر التى منحته – دائما- وضعاً خاصاً فيه عصمه وحصانه، أما أحمد بهاء الدين فقد دخل المعركة الثانية متصادماً مع سلطة الرئيس السادات(الذى كان د.مصطفى أبوزيد فهمى أحد أكبر حلفائه).
يعنى واحد اتكأ على رئيس،والثانى اشتبك مع رئيس، أما صلاح جاهين فانتصر لقيمة الحرية التى تعد ملمحاً أساسياً للكاريكاتير (أكثر الفنون المرئية شعبية وديمقراطية).
وبالمناسبة،فقد كان أحمد بهاء الدين هو الذى قدم صلاح جاهين للأهرام،حين طلب منه هيكل فى مطلع الستينيات أن يرشح له أحد نجوم روز اليوسف أو صباح الخير لأنه ينوى ادخال الكاريكاتير فى الجريدة لتخفيف دمها،فأختار له صلاح الذى صار الاضافة الأهم فى شخصية الأهرام الجديد .
....................................
كان صلاح فى معركة – دائمة – مع التطرف، وحين تطالع رسومه عن شكرى مصطفى وتنظيم(التكفير والهجرة)،أو عن ارهاب الناس عبر ادعاء قدسية رأى جماعة بعينها، تكتشف مدى عمق الهوة بين ذلك المبدع وبين تلك التيارات الفكرية شديدة الرجعية والتخلف .وقد تعرضت معه- مرة- لتلك النوعية من المعارك التى تصادم فيها مع التطرف فقال لي:
«ينطبق على موقفى تعبير ذكى ورد على لسان المؤلف الايطالى الشهير(جولدوني)فى إحدى مسرحياته،وهو تعبير:( خادم سيدين) إذ دائما اعتبر نفسى كذلك..لى سيد إسمه (الجمهور)،وسيد آخر هو من أعمل عنده مثل(الجريدة) أيا كان صاحبها- سلطة أو أهالي- وكنت أعتقد أننى نجحت يوماً فى المواءمة بين إرضاء السيدين، إلا أننى اكتشفت- أخيرا- أن لى سيدا ثالثاً إسمه: (المتطرفون) على اختلاف أنواعهم وألوانهم..وهؤلاء لايعقلون..»
وأضاف صلاح:
«نوع من المتطرفين- مثلا- يثير ضجة كبرى حول مقطع من إحدى أغنياتي: (نفوت على الصحرا تخضر)، ويحرفها قائلا أننى حاولت فيها إلصاق صفة الإتيان بالمعجزات على جمال عبد الناصر قائلاً: ( تفوت على الصحرا تخضر)، والفارق بين النون والتاء كبير،والفارق بين(نفوت) و(تفوت) كبير أيضا.. ولكنهم مصرون على محاسبتى أو معاقبتي،ليس على ماكتبت فقط،ولكن على مايتصوروا أننى كتبت،أو يرغبوا فى إلصاقه بما كتبت ..
والنوع الآخر من المتطرفين هم من أحبهم أى (اليسار) ومن أولئك الذى يتربص بى بإستمرار،لكى يصرخ أنه قد ضبطنى سياسيا أو فنيا فى حالة ردة».
.........................................
ولم تك رؤيتى لهجوم بعض اليساريين على صلاح بنفس البساطة التى نظر بها للأمر..إذ أتأمل طويلاً مايشبه عملية قتل صلاح عبد الصبور عبر توجيه حزم من سهام اتهامات مسمومة إليه، وأتذكر كذلك كيف كان فيلم(خللى بالك من زوزو)لصلاح جاهين، يعامل من جانب بعض قوى اليسار على أنه خيانة تاريخية من صلاح لتراثه السياسى والإبداعي،فيما كان ذلك الفيلم- بالذات- وثيقة شديدة التقدمية فيها تبشير بانتصار (مصر الجديدة) أو زوزو التى خرجت نظيفة ..متألقة..متعلمة..متقدمة من معطف أمها العالمة رمز التخلف والتأخر.
فى ذلك الفيلم- كذلك- كان أول ظهور- تاريخيا- فى السينما المصرية لشخصية المتطرف الدينى على نحو كاريكاتيرى ساخر جدا، وهو ما قدمه محيى إسماعيل بعبقرية، ضاما أزرار قميصه حتى العروة العليا، وصائحاً بين جملة وأخرى بكلمة: (جمعاء)!
والمدهش أن حكاية ظهور أوبريت(حمار شهاب الدين) فى ظل نجاح (الليلة الكبيرة)، تكررت مع (خللى بالك من زوزو) حين قدم صلاح جاهين فيلما هو- فى تقديري- أهم فنياً.. (أميرة حبى أنا)، ولكنه ظهر تحت ظل (خللى بالك من زوزو) فلم ينتبه الكثيرون لأهميته الدرامية أو لأرجحية أداء سعاد حسنى وحسين فهمى فيه.
وعلى ذكر سعاد حسنى فإن عندى يقين بأن صلاح جاهين أثر كثيرا فى أداء تلك الفنانة النادرة،ومن يتأمل طريقة إلقاءها لأحد جمل الحوار فى مسلسل (هو وهي) أو فى (خللى بالك من زوزو) بالذات يكتشف التبادلية التى ربطتها بصلاح،وقد كان ممثلا أيضا ضمن باقة مواهبه،وله بضعة أدوار فى أفلام: (المماليك) و(اللص والكلاب) و(لاوقت للحب)، فضلا عن ظهوره فى صورة فوتوغرافية واحدة ضمن صور يونس السورياليزم فى فيلم (يوم من عمري)..أما إحدى الجمل الكاشفة التى توضح تأثيره على سعاد حسنى (مفردات وإلقاء) فهي: فى «خلى بالك من زوزو»: (فيه ناس قلبها أبيض وناس قلبها اسود وناس قلبها أبيص فى أسود زى الشطرنج)!
حين تقرأها الآن..أغمض عينيك وستجد صورتى سعاد حسنى وصلاح جاهين تتبادلان السيطرة على مخيلتك .
........................................
وأجدنى قد فرغت من سطورى دون أن أفلح إلا فى أستدعاء وإسترجاع بعض .. بعض ..بعض صلاح جاهين:
(أنا دبت وجزمتى نعلها داب.. طم طم .. من كتر التدوير ع الأحباب .. طم طم .. طم طم .. طرالم ) !!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.