الأزهر هو قلعة الاعتدال السنى.. حقيقة تاريخية، ولكنها مركبة وإشكالية. ففى مواجهة عالم حديث، تتعدد فيه مصادر التربية والتثقيف، بدا الأزهر تدريجيا عاجزا عن مواجهة الخطابات المتشددة، بل إن التشدد تمكن من اختراقه عبر العقود الماضية فالعديد من المنتمين إلى الجماعات الدينية تخرجوا فى كلياته، شرعية وعلمية، والمفارقة أن ذوى التخصصات العلمية هم الأكثر تطرفا، لأنهم يتلقون معرفة دينية مبتورة، ومعرفة علمية تلقينية، والنتيجة المتوقعة: عقلا مشبعا بخليط من دوجمائية، ورقائق علمية، وتلك هى بالضبط مواصفات القنبلة البدائية. كما أن كثيرين من أعضاء هيئات التدريس فى الكليات الإقليمية يعتنقون فكرا متشددا يختلف كثيرا عن وسطية الأزهر، التى يجسدها خير تجسيد شيخه الجليل، وجبهة علمائه المستنيرين، الذين تعلم بعضهم فى جامعات غربية كبرى كالسوربون، وامتلكوا عقلا متفتحا، لا نظنه متوفرا لقاعدة الدارسين فى الأزهر الآن. لنتفق أولا على مقدمة أساسية وهى أن العلم الحقيقى هو منهج الدرس، وليس محتويات العلوم التى تُدرس، فالأخيرة ليست إلا جزءا من تاريخ العلم، تعكس مراحل تطوره فى الماضى القريب أو البعيد. فالفلسفة مثلا هى منهج إعمال العقل، وليست تلك القضايا الجزئية التى احتوى عليها تاريخ الفلسفة من قبيل مفهوم المثل عند أفلاطون، والسعادة عند أرسطو، والواجب عند كانط، والمونادة عند ليبنتز.. الخ. ولهذا السبب عاش منهج هيجل الجدلى، وسيعيش طويلا بالقياس إلى جل القضايا الموجبة التى تحدث فيها الفيلسوف الكبير؛ لأن المنهج طريقة فى مقاربة الحقيقة، أما النظريات والقضايا فلا تعدو أن تكون صورة تاريخية عن الحقيقة فى زمن ما، تكشف عن طبيعة انشغالاته، ودرجة تطوره. كما أن الفيزياء منهج لفهم الطبيعة، عبر قواعد تجريبية ومعادلات رياضية، وليست هى نظرية الجاذبية لدى نيوتن، أو النسبية لدى أينشتين.. إلخ. ولنقس على ذلك باقى المعارف والعلوم، حيث أدى المنهج العلمى إلى كشوفات علمية رائعة وتطبيقات تكنولوجية هائلة، ولكن ما إن تتحقق تلك الإنجازات حتى تصير جزءا من تاريخ العلم، أما المنهج فهو روح العلم المتجددة، البارحة واليوم وغدا. حسب هذا الفهم فإن نظامنا التعليمى لم يقارب العلم جوهريا، فما يسود من طرائق التدريس واختبار الطلاب وتقييمهم، لايمت للمنهج العلمى بصلة، إذ ينهض فقط على تدوين وحفظ ظواهر العلوم، هو نمط تعليمى سيىء لعله أخطر كثيرا من الأمية، لأنه يفسد الفطرة الإنسانية، بدفعها إلى مغادرة بساطتها ونقائها إلى حيث غرورها وتسلطها. إذ بينما يمنح التعليم (المنهجى) صاحبه شعورا باكتساب صورة عن الحقيقة، فإن التعليم (التلقينى) يمنح صاحبه اعتقادا بامتلاك الحقيقة ذاتها، ومن ثم تتحول معرفته إلى إيمان، ولا يصبح لمفهوم الحقيقة أى قيمة. وإذا كانت تلك النتيجة واضحة فى عموم نظامنا التعليمى، فإنها أكثر وضوحا فى التعليم الأزهرى، الذى صار واجبا تأسيسه على منهج تفكيكى، وطابع جدلى، يفترض تغيرا جذريا فى مفهوم (الحقيقة) نفسه من فهم إطلاقي يفضي دوجماطيقي، إلى فهم نسبي موضوعي، حيث الحقيقة متعددة ومتشابكة، والمتاح منها ليس إلا تصورات عنها، تصيب أقدارا مختلفة منها، هو فهم يتدعم بالتحولات الكبرى التى طرأت على المعرفة العلمية نفسها، فى أكثر مجالاتها منهجية ودقة كالفيزياء، خصوصا بعد تراجع مقولة الحتمية وتوارى الطموح إلى اليقين. وفى المقابل، نمو منظور لاحتمى، تولد خصوصا عن نظرية الكم التى كشفت عن الطبيعة النسبية للضوء، والعلاقة المخاتلة بين المادة والطاقة، وكذلك (مبدأ اللاتحدد) لدى هايزنبرج، الذى وشي بصعوبة القياس الصارم لسرعة ومكان الإلكترون فى الوقت نفسه، مؤكدا نسبية العلاقة بين المكان والزمان، وبالتالى نسبية المعرفة، وما تتسم به من مراوحة واحتمالية. فى موازاة ذلك التحول فى قلب الحقيقة، من الحتمية إلى اللاحتمية، صار ممكنا للطابع النسبي أن يسود بقية جوانبها، خصوصا على أصعدة السياسية والمجتمع. وهنا فقط يمكن أن ينتهى التطرف وتتوقف دائرة العنف. فبدلا من حقيقة مطلقة لاتتعدد، إن امتلكها شخص واحد لا يمكن لشخص آخر أن يمتلكها، حيث الجميع، عدا هذا الشخص، من أنصار الباطل أيا كان شكله: ففى الدين هو الكفر، وفى العلم هو الخطأ، وفى القيم هو الكذب، وفى السياسة هو الانحراف عبر العمالة أو الخيانة.. الخ، نصبح إزاء تجليات لتلك الحقيقة، أى صور مختلفة لها، متعددة ونسبية، يمكن للجميع امتلاكها من دون تنازع كبير بينهم. يتطلب ذلك التحول المنهجى تخلى الأزهر مبدئيا عن المكون المدنى فى نظامه التعليمى، مع توظيف البنية التحتية التى كان يشغلها طلابه فى ترقية التعليم الدينى، بتوفير ساحات أرحب للحوار، وقاعات أرحب للدرس، وزيادة المقررات الدراسية الخاصة بالمذاهب والأديان الأخرى، بحيث ينتج الأزهر وعاظا وفقهاء أكثر انفتاحا على العصر، وأعمق دراية بتاريخ الدين كظاهرة إنسانية كبرى، سواء تمثلت فى أديان الوحى (اليهودية والمسيحية) أو حتى فى الأديان الطبيعة التى لا تزال قائمة فى العالم الآسيوى حتى الآن (كالهندوسية والبوذية والكنفوشية والتاوية)، فمن دون وعى الدارس الأزهرى بتاريخ الدين وفلسفته لن يكون بمكنته تقدير قيمة الإسلام الحقيقية. ناهيك بالطبع عن تقدير قيمة الأديان السابقة عليه، والتى قدم بعضها تصورات عن الحقيقة الإلهية أسهمت فى تهيئة الوعى الإنسانى لقبول التوحيد الإسلامى المطلق. كما صاغت جميعها رؤى خلقية حول كيفية السمو بالروح والسيطرة على الغرائز، أسهمت فى التأسيس لأخلاق كونية عامة، ناهيك عما دشنته من ممارسات روحية زهدية كاليوجا والقبالاة والرهبنة يسهم تأملها فى فهم ظاهرة إسلامية كبرى كالتصوف. أما الجهل بتلك الأديان، فيعوق دارس الأزهر عن التسامح العميق مع معتنقيها، أى عن تفهم إيمانهم وتقدير رؤيتهم لطرق الخلاص المختلفة التى ترسمها لهم معتقداتهم، وسيبقى لدينا، فى هذه الحال، أولئك الوعاظ الذين يختتمون خطبهم بالدعاء على اليهود والنصارى، ولا يرون فى اللاهوت الهندوسي، المتجذر فى كتب الفيدا الخمسة، سوى عبادة البقرة، وعندها يبقى العالم منقسما إلى فسطاطين أحدهما للإيمان، والآخر للكفر، وهو التقسيم الذى يستعيره الجهاديون، بعد أن ينثروا عليه بهارات تطرفهم، ليحيلوه إلى دار سلام نسكنها، ودار حرب لابد من الهجوم عليها، قبل العودة من جديد لتطهير ديار الإسلام من المنافقين. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم