يعانى العقل المصرى من تشوهات عدة تعوق انطلاقته نحو الأفق المنشود، فما نشهده من إرهاب وتطرف هو نتاج مرض مزمن فى الوعى، وما نلاحظه من مثالب فى السلوكيات العامة هو نتاج قصور فى التربية، وما نلمسه جميعا من ضعف مستوى الإنتاجية هو نتاج ضعف فى المعرفة. ولأن قضية العقل هى الأهم فى الماضى والحاضر والمستقبل فإنها بحاجة إلى إصلاحات سريعة منهجية وهيكلية، ومادية سوف نتوقف عندها تباعا. الإصلاح المنهجى، موضوع اليوم، يعنى تحسينا جذريا لنظام التعليم المصرى ينقله من التمحور حول محتويات العلوم إلى التمركز حول منهج البحث العلمى، فالعلم الحقيقى هو المنهج، وليس محتويات العلوم التى لا تعدو أن تكون جزءا من تاريخ العلم، تعبر فقط عن بعض مراحل تطوره فى الماضى سواء كان الماضى القريب أو الماضى البعيد. فالفلسفة مثلا هى بالأساس منهج إعمال العقل، وليست تلك القضايا الجزئية التى احتوى عليها تاريخ الفلسفة من قبيل مفهوم السعادة عند أرسطو، أو المثل عند أفلاطون، أو الواجب عند كانط، أو المونادة عند ليبنتز، وهكذا. وربما لهذا السبب عاش منهج هيجل الجدلى، وسوف يعيش أكثر كثيرا مما عاشت جل قضاياه ومقولاته، فالمنهج طريقة فى مقاربة الحقيقة، أما قضاياه نفسها فهى صورة عن الحقيقة فى زمنه الذى عاشه، تشى أو تكشف بطبيعة انشغالاته واهتماماته. كما أن الفيزياء هى منهج لفهم الطبيعة، ومحاولة توظيفها، عبر قواعد تجريبية ومعادلات رياضية، وليست هى نظرية الجاذبية لدى نيوتن، ولا نظرية الكم لدى ماكس بلانك، ولا حتى النسبية لدى أينشتين.. إلخ. ولنقس على ذلك باقى المعارف والعلوم، حيث أدى المنهج العلمى إلى كشوفات علمية رائعة وتطبيقات تكنولوجية هائلة، ولكن ما إن تتحقق تلك الإنجازات حتى تصير جزءا من تاريخ العلم، محتوى قديم يرمز إلى طريقة ما فى إعمال العقل، أو نظرية ما فى مسار تطور العلم، ولكنه ليس العقل نفسه، ولا العلم ذاته، أما المنهج فهو روح العلم المتجددة، الذى يصلح اليوم والغد كما كان فى الأمس. فإذا ما صدق هذا التوصيف، يمكننا الادعاء بأننا لم نعرف العلم بعد، اللهم سوى فى مراحل تاريخية محدودة، أو فى بؤر مغلقة، لأن التيار العام فيما يدرس داخل جامعاتنا ومعاهدنا ليس إلا نوعا من الحشو السردى لتاريخ العلوم. وما يسود من طرائق اختبار الطلاب وتقييمهم، وتوجيههم إلى تخصصاتهم، لا يمت للمنهج العلمى بصلة، ولا ينهض إلا على تدوين وحفظ ظواهر العلوم. ومن ثم فدون ثورة منهجية لا قيمة لنظامنا التعليمى كما هو سائد الآن، والذى تحول إلى منافسة ماراثونية مرهقة نفسيا وعقليا وماديا للطلاب وأسرهم، بغرض تحصيل درجات أكبر من منافسيهم على مقاعد الكليات المختلفة، التى يدخلها أضعاف ما تحتاج إليه البلد من تخصصاتهم، وأضعاف أضعاف ما يمكن للبنية الأساسية فى هذه الكليات أن تتحمله منهم، إذا كان المطلوب هو تعليم حقيقى، يقوم على الحوار فى المعارف الأدبية والفلسفية وعلى التجربة فى المعارف العلمية والتكنولوجية، ما يقتضى احترام النسب المتعارف عليها عالميا بين عدد هيئات التدريس وبين عدد الطلاب من ناحية، وبين مساحات المعاهد العلمية وما تزخر به من قاعات درس وعدد معامل وبين عدد الطلاب من ناحية أخرى، وهكذا. فمن غير انضباط هذه النسب، وفى ظل تكدس الكليات بالطلاب، يصير التعليم عشوائيا تماما مثل عشوائية المواصلات العامة عندما يتم حشر مائة راكب فى باص عام لا يتحمل سوى ثلاثين راكبا، أو عشوائية السكن عندما يقيم آلاف البشر فى حيز لا يطيق سوى المئات. والمشكلة الكبرى أن التعليم السيئ أخطر كثيرا من الأمية، لأنه يفسد الفطرة الإنسانية، يدفعها إلى مغادرة بساطتها، فالتعليم الجيد (المنهجى) يدفع المتعلم إلى الشعور بأن لديه صورة عن الحقيقة، أما التعليم السيئ (التلقينى) فيدفع صاحبه إلى الاعتقاد بأنه يعرف (الحقيقة) ذاتها، ومن ثم تتحول معرفته إلى إيمان، ولا يصبح للحقيقة نفسها أى قيمة. ولعلنا لاحظنا مفارقة كبرى تبدت فى الأحداث التى عاشتها مصر منذ الثلاثين من يونيو، وهى أن البسطاء وربما الأميين كانوا أول من شعروا بخواء تجربة الإخوان المسلمين، فانصرفوا عنهم بسلاسة ملحوظة، قياسا إلى كثيرين نالوا تعليما جيدا، سواء فى العلوم الدينية أو العلوم المدنية، وبالأخص فى (كليات القمة) كالطب والهندسة، سواء انتموا إليها تنظيميا، أو تبنوا رؤاها فكريا، أو دافعوا عن مواقفها عمليا، بتغذية اعتصاماتها، ورفد حركاتها الاحتجاجية اللاسلمية، وإثارة الشغب حتى داخل الجامعات المصرية. ولقد أكدت قصة سائق التاكسى الذى أمسك بالمهندس الذى فجر نقطة مرور الجلاء قبل أشهر قلائل، تلك المفارقة، فالسائق (المصرى) تمتع وتسلح بسلوك فطرى كإنسان يحب وطنه ويخاف عليه، على النقيض تماما من المهندس (الإخوانى) الذى أنفقت بلده على تعليمه المجانى ليصبح عونا لها فى مسيرة تقدمها، فإذا به يستخدم علمه (التقنى) المبتور عن المنهج النقدى، فى تقتيل أبنائها، بدافع انتماء إيديولوجى مقيت حاول فرضه على الآخرين بالعنف. فى هذا السياق بدى لى غريبا تصريح السيد وزير التعليم العالى بقرب افتتاح خمس وعشرين كلية جديدة، بشر بها المواطنين، مطمئنا إياهم إلى زيادة عدد المقبولين بالجامعات هذا العام قياسا إلى العام الماضى. ففى هذا التصريح يتبدى عدم إدراك الرجل لطبيعة المشكلة، وكأن ما تعانيه مصر هو قلة عدد الخريجين وليس بطالتهم، أو الضعف المزمن فى كفاءتهم، فالمهم لديه أن يتخرج كل عام عدد أكثر من سابقه، وليس مهما أن يكون الخريجون أقرب إلى الجهل منه إلى العلم بمفهومه الصحيح، أو أن تخلو قائمة أفضل خمسمائة جامعة فى العالم من جامعة مصرية، اللهم سوى جامعة القاهرة التى تدخل إلى ذيل التصنيف حينا وتخرج منه أحايين، رغم أنها من أوفر جامعات العالم بالطلاب، ما يعنى ان المشكلة تكمن فى مكان آخر غير ذلك الذى يتصوره الوزير، أى فى المنهج لا فى العدد، فى الكيف لا فى الكم، ما يتطلب إصلاحا هيكليا سوف نتوقف عنده فى المقال القادم ان شاء الله. لمزيد من مقالات صلاح سالم