الجامعات مكان لتفريخ قيادات شبابية مفكرة المعارضة في مصر لا تمارس سياسة »فن الممكن« د.شرف عبدالحميد مدرس الفلسفة في جامعة سوهاج، اسم له وزنه في العمل الأكاديمي، يلقبونه ب"صانع المفكرين" لتمكنه من وضع منهج علمي لبناء أجيال جديدة من المفكرين الشباب، الذين يقع علي عاتقهم بناء مستقبل مصر، وذلك عبر سبع مراحل أساسية. وفي حواره مع "آخرساعة" يؤكد أن أزمة مصر الراهنة ومنذ ثورة يناير 2011.. تكمن في غياب مفكريها عن المشهد الذي تحول بحسب وصفه إلي عروض علي مسرح العبث السياسي، متهماً المعارضة بأنها لا تمارس سياسة فن الممكن، مُرجعاً سبب تنامي العنف في الجامعات أخيراً إلي غيبة العقل السياسي، كما حذّرمن تصاعد الأزمات السياسية في مصر بما يجعل التصدي لها أمراً عصياً. إلي أي مدي تري أزمة مصر السياسية الراهنة في غياب مفكريها؟ - الأزمة كبيرة جداً، وصارت أكثر تعقيداً، الأمر الذي يجعل حلها في حاجة إلي جهود كبيرة، بل إلي شبه معجزة؛ ولو استمرت علي هذا النحو فسوف تكون عصيةً تمامًا علي الحل؛ ولا يعلم إلا الله تعالي حجم الخسائر المتوقعة. ويمكن وصف العقل السياسي المصري راهناً بأنه لا هو عقل، ولا هو سياسي، إلي درجة أن طاقتنا نفدت كلها حتي لف التشاؤم الأسود نفوس أكثرنا، فالعقل السياسي مازال غائباً. كيف نصنع مفكراً حقيقياً من رحم ثورة يناير؟ - هذا هو الموضوع الرئيس الذي يؤرقني، فقد قمت بمحاولة وضع برنامج للشباب عنوانه "لكي تكون مفكراً" ويمتلك من خلاله الشباب القدرة علي التفكير بشكل منهجي. حددت في هذا المنهج المقترح سبعة مجالات أساسية للشاب لكي يكون مفكراً قادراً علي المشاركة في بناء مستقبل بلاده، وحتي يكون قادراً علي اتخاذ مواقفه بوعي وتفكير. وهذا البرنامج يعطي الشاب والشابة "منهجية علمية" تمكنه من ذلك. وفيه أقترح الإلمام بسبعة مجالات أساسية في مدة أقصاها سبعة أشهر - ويمكن أن تقل عن ذلك حسب قدرات كل شخص - بمعدل شهر واحد فقط لكل مجال، ولمدة ساعتين يومياً، تزيد أو تقل حسب استعداد كل شخص. حدثني عن هذه المجالات السبعة بشيء من التوضيح؟ - أولاً علم النحو الذي سوف يضبط لنا قواعد اللغة، ثم علم المنطق الذي سوف يضبط قواعد التفكير، وهو علم يكاد أن يكون غائبا ومغيبًا عن مناهجنا التعليمية، ويمكن أن نطلق عليه فن التفكير الصحيح، فبعض الناس يقع في التناقض ويؤمن بالقضية ونقيضها لمجرد أن القضيتين وردتا بطريق النقل الصحيح!، ثم يأتي علم التفسير الذي تكمن أهميته في ضبط فهمنا للقرآن الكريم، وحتي يمكننا أن نفهم مجالات القرآن التي أغفلناها؛ فمثلاً عدد آيات القرآن الكريم 6236 آية منها أكثر من ألف آية كونية، وحوالي 052 آية من آيات الأحكام، افعل ولا تفعل، ومع ذلك كتبنا آلاف المجلدات حول 052 آية فقط، وتركنا أكثر من ألف آية كونية ومئات الآيات في حرية العقيدة وحقوق الإنسان.. إلخ، وكأن تطبيق الشريعة لا يشمل بقية مجالات الستة آلاف آية المتبقية؛ أليس العمل علي ضرورة المساهمة في تحقيق هذه الآيات الكونية العلمية - في الآفاق وفي الأنفس- هو أيضًا من تطبيق شرع الله! أم أن تطبيق الشريعة مقصور علي الانتخابات والسياسة! هل يوجد في وعينا حين نقول "القرآن دستورنا" أم هو مجرد شعار نرفعه ونستهلكه دون أن نبين للناس حقيقته ومستلزماته في ضرورة دراسة الكون والطبيعة. وماذا عن بقية المجالات الواجب تدارسها؟ - علم الحديث الذي سوف يضبط نقاشاتنا حول المسائل الفكرية الكبري التي وردت أحاديث نبوية بشأنها، وحتي يمكن الدخول بوعي في مناقشة أحاديث مثل قتل من بدل دينه، أو تولية المرأة لرئاسة الجمهورية وليس الخلافة، ومناقشة أحاديث أخري مثار خلافات فكرية هائلة نريد مناقشتها من خلال أدوات علم الحديث وليس من خلال أدوات خارجة عنه، ثم تأتي أهمية علوم الطبيعة وبخاصة الفيزياء النظرية؛ فنعرف نظرية النسبية العامة لأينشتاين ونظريات ميكانيكا الكم أو الكوانتم؛ ونعرف ما الكوارك، والثقوب السوداء والجينوم، ونظرية الانفجار العظيم، ونظرية الأوتار الفائقة، ونظرية كل شيء، وباختصار علوم الكون من الذرة إلي المجرة. هذه المعرفة، بشكل مبسط، سوف تجعلنا نعيش عصرنا ونري المسائل التي يفكر فيها العالم ونقارنها بالمسائل التي تشغل تفكيرنا لندرك حجم تخلفنا الهائل. أما المجال السابع والأخير فهو الفلسفة العقلية، بأقسامها المختلفة: فلسفة السياسة، وفلسفة العلم، وفلسفة التاريخ، وفلسفة اللغة.. إلخ، وهذه تعطينا فكرة عن أهم ما أنتجه العقل الإنساني منذ القدم وحتي الآن، فنتعلم الاختلاف والتعقل والتفكير المثمر والمنتج. وفي كل مجال أقترح قراءة أكثر الكتب تبسيطًا، وكذلك المواد الصوتية والڤيديوهات التعليمية والوثائقية، وكل علم من هذه العلوم متاح شرحه المبسط علي الإنترنت، وكذلك كل الكتب الخاصة به متاحة، فلن يكون المنهج مكلفًا للشباب. هل يهم التخصص كي تنجح استراتيجية إعداد مفكر شاب؟ - لقد وضعت هذه المنهجية لإعداد المفكر الشاب والمفكرة الشابة بصرف النظر عن التخصص العلمي الدقيق، هذا منهج للتفكير يحيط بعلوم التراث وعلوم العصر ومسلحًا بسلاح المنطق والإلمام باللغة العربية، ومفاتيح العلوم الإسلامية الأساسية. وقد أوضحت هذا المنهج بالتفصيل في محاضرة لي، وبينت أنه منهج ممكن تحصيله في مدة لا تزيد علي سبعة شهور فقط. ورب "دويلة" بالعلم والعمل، وإرادة صنع التاريخ صارت "دولة عظمي"، ورب "دولة عظمي" بالظلم والجهل، وإرادة الانسحاب من التاريخ أصبحت "دويلة"، والتاريخ مزدحم بالأمثلة! كيف تقرأ تنامي موجة العنف في الجامعات المصرية مؤخراً؟ وما دلالاته؟ - موجة العنف هذه نتيجة طبيعية لغيبة العقل السياسي، لأن القاعدة تقول: إذا غاب العقل السياسي فإن العنف هو البديل الممكن والمتاح للتعبير عن الرأي. وهو عرض لمرض، إذا عالجنا المرض زال العرض. كيف تري تعدد التوجهات الفكرية والأيديولوجيات التي يتبناها الشباب في الجامعات منذ ثورة يناير 1102؟ - نحن في سنة أولي ديمقراطية والباب الذي كان مغلقًا فُتح علي مصراعيه، فهناك انتخابات اتحادات طلاب حقيقية والكل يأخذ فرصته. وأنت حينما تدخل الجامعة وتري لافتات للتيارات السياسية التي لم يكن يخطر علي بالك أو حتي تحلم بأن ترفع داخل الحرم الجامعي فإن هذا يدلك علي الإنجاز الهائل والقفزة الكومومية- إن جاز التعبير- التي حدثت في بنية الجامعة وهذا شيء أكثر من إيجابي، أما السلبيات فقد حدثت لما تدافع الجميع علي الباب المفتوح فحدثت الفوضي، واُستخدم العنف وانتشرت البلطجة فعاق الجميعُ الجميعَ عن الدخول السلس والسهل والانسيابي من الباب ولم يوجد العقل السياسي الذي كان ينبغي عليه أن ينظم الدخول من الباب، حتي يدخل الجميع من الباب المفتوح بسهولة ويسر. لماذا وصفت المشهد الراهن بعروض مسرح العبث السياسي؟ - لأن الجميع يدرك حجم المآسي التي يتعرض لها الوطن، والجميع يدرك حجم المخاطر التي تتعرض لها المحروسة- في الداخل والخارج - والجميع بيده الحل ويعرف الحل وعلي الرغم من ذلك يصر الجميع علي الاستمرار في لعبة خاسرة وكلهم يصر علي السير في نفس الطريق المسدود، وكلهم يعلم أنه سوف يرتطم بحائط صلب ومع ذلك يصر علي ضربه برأسه. الطرف الوحيد الذي أعاد قراءة المشهد واستفاد من التجربة المريرة هو جيش مصر، ودعني أصفه بالعظيم فهو يستحقها عن جدارة، كونه قد استوعب الدروس وأدرك حجمَ المشكلة وأعاد ترتيب حساباته وأولوياته واتخذ الموقف الوطني الصحيح وأعاد لنفسه ثقة الشعب المصري به، فحوَّل خسائره إلي أرباح؛ أما البقية فمازال كل طرف يظن أنه يملك الحق السياسي المطلق، والجميع يغفل عن بدهية واضحة كوضوح الشمس، هذه البدهية التي تقول: السياسة هي "فن الممكن" وليست "فن المستحيل" ولكنهم يتركون الممكن ويعيشون المستحيل وهذا هو العبث بعينه! ليس هذا فحسب بل إنني قلت أيضاً إن لم نتدارك هذا العبث فسوف يتحول الأمر إلي كوميديا فارْس (مسخرة) سوداء. تضحك علينا العالم، في حين نبكي نحن المصريين الذين لا ناقة لنا ولا جمل في أداء أي دور علي مسرح العبث هذا. وطن يحترق في حين أن السياسيين لا يدركون حجم الكارثة التي يعيشها قطاع هائل من الفقراء في القري والأرياف والكفور والنجوع، فمصر ليست هي القاهرة فقط. كيف يجب أن تكون فلسفة الحوار بين المعارضة والنظام؟ - دائماً نحمل النظام كل الأخطاء وننسي المعارضة، وننسي أن "معارضة المعارضة" شيء ضروري حتي يمكنها أن تصحح مساراتها، وتعدل من استراتيجياتها وتزيد من إمكانية تواجدها بين الناس. دعني أحدد خطأين فقط (أحدهما خطيئة) من أخطاء المعارضة الأساس: أولاً "تعويض خسائر النظام من حسابها ومن رصيدها الخاص". لاحظ معي أنه كلما خسر النظام أصواتاً في الشارع المصري، بسبب بعض سياساته غير الرشيدة، سارعت المعارضة، في تعويض خسائر أحزاب الأغلبية أو الأكثرية، ومثال علي ذلك أن الأكثرية ارتكبت خطأ فادحاً بأن سمحت بحصار المحكمة الدستورية العليا (رمز العدالة) ففقدت الأكثرية جزءاً كبيراً من مخزونها التصويتي الاستراتيجي، فما لبثت المعارضة أن قابلت هذا الخطأ بخطيئة عوضت الخسارة الفعلية أو المحتملة للأكثرية بأن حاصرت قصر الاتحادية (رمز الدولة وهيبتها) فخسرت هي من الأصوات أضعاف ما خسرت الأكثرية، فسحبت من رصيدها لتعوض خسارة خصومها الألداء! في السياسة لا يكفي أن يرتكب خصمك أخطاءً بل عليك ألا ترتكب أنت أخطاءً أكبر منها. الأمر الثاني أن المعارضة لا تمارس سياسة "فن الممكن" بل هي تطلب إما أن يستجيب النظام لكل طلباتها أو "مش لاعبين"، كما أن تصريحاتها في الرد علي النظام والأشخاص الذين تصدرهم لهذه المهمة لا يخاطبون الشارع بلغته؛ في السياسة كل تصريح يساوي أصواتًا انتخابية محتملة وصاحب التصريح السياسي غير المقبول، يخسر ولو كان هو الفائز.. مؤقتًا. والفرصة أمام الجميع لتحسين صورته والحكم للشعب في الآخر هو يتحمل مسئولية اختياراته ولا أحد يصلح أن يكون وصيًا عليه.