كانت لي تجربة سابقة في العمل بالتدريس الجامعي داخل مصر وخارجها أيضاً بإحدي جامعات دول النفط، ولقد أنعم الله علي بعدم العودة مرة أخري للتدريس بهذا الكيان المؤسسي الذي يتسم بالمعاناة وتطويق الإبداع أكثر مما يتصف بالصفة العلمية والأكاديمية . والحقيقة التي يكاد الجميع يتجاهلها طوعاً وكرها في ظل الظروف التي تمر بها البلاد هي أن الجامعة المصرية أبرز وسائل الدولة في الارتقاء بشأن هذه الأمة التي باتت مهووسة بالتظاهرات والاعتصامات والإضرابات والاحتجات وكل الإحداثيات الإنسانية التي تختم بتاء التأنيث، بل وتعد الجامعات من أخطر وأهم وسائط الدولة علي الإطلاق، وهذا بغير تعصب أو تحزب أو تحيز وتطرف في ظل أصبح فيه التطرف والاحتقان سمة مميزة للعصر. ولكن هذه الأهمية تأتي من كون الجامعة منوطة بتعليم وإعداد أبنائنا وتأهيلهم وتربيتهم، مثلها مثل الأزهر كمؤسسة تعليمية تهتم بإعداد وتخريج دعاة وأئمة ووعاظ متفهمين لدينهم ولطبيعة عصرهم. ولاشك أن وزارة التعليم العالي ووزارة الدولة للبحث العلمي متمثلة في السياسات والنظم التعليمية المستخدمة تحتاج منذ سنوات ليست بالقليلة جراحة عاجلة، وقبل إجراء هذه الجراحة يحتاج الطلاب -وهم الفئة المستهدفة من التعليم وكذلك آباؤهم وأولياء أمورهم- علاجا نفسياً طويل الأجل لما سببته تلك السياسات من متاعب وأعباء وإحباطات وأوجاع مزمنة. حتي الجامعات المصرية نفسها بحاجة إلي علاج طويل الأمد لما اعتراها من حمي النقل والاقتباس والاستعارة للخبرات التربوية الأجنبية التي لا تصلح لمجتمعاتنا العربية مثل وحدات تطوير القيادات الجامعية، والتوصيف العلمي للمقررات، والتعلم الإليكتروني، ومعايير الجودة والاعتماد، وغيرها من العقاقير التعليمية المستوردة التي لم تف بإعداد وتخريج طالب نابغ، ولامع اسمه يستطيع منافسة أقرانه في الخارج. والمستقرئ لتاريخ الجامعات المصرية سيكتشف بسهولة أول قرار يمكن أن يصدره رئيس الجامعة، أي رئيس جديد للجامعة، وهو عقد مؤتمر قومي وربما دولي للتعليم الجامعي بهدف إصلاحه وتطويره والنهوض بمستقبله من جملة العناوين المثيرة للمؤتمرات مثل التعليم الجامعي بين الواقع والأمون، أو مستقبل وتحديات الجامعة في القرن الجديد، وأنا أعي كلمة مؤتمر علمي للتعليم منذ بداية عملي بالجامعة في خمسة عشر عاماً، وما أكثر مؤتمراتنا العلمية والتعليمية التي تهدف إلي الإصلاح والتطوير والتجديد، والتي تنتهي عادة بتوصيات لا تخرج عن مجرد سطور مهملة تفشل وقت إخضاعها للتطبيق والممارسة العملية. وبينما الجامعات تدخل في سباق فردي مع نفسها في استثمار أوقات الفراغ بعقد مؤتمرات ورقية، نجد الطالب الجامعي واقفاً علي الشاطئ الآخر يكرس لثقافة المذكرات وقمع الإبداع لديه عن طريق أستاذ يسهم بكتابه الجامعي الأوحد في هيمنة عقله، أي جعل الطلاب ذو بعد تفكيري واحد. وإذا أردت أن تعرف سبب تصدع التعليم العالي في مصر فاسأل عن مصدر المعرفة لدي هؤلاء الطلاب الذي لا يخرج عن مجموعة من الصحائف التي هي في الأصل جزء من رسالة الدكتوراه الخاصة بأستاذ المادة. وثمة أمر ذو أهمية خاصة يدعنا نلح علي ضرورة تنويع وتطوير شكل المادة العلمية، وعدم اقتصارها علي صورة الكتاب الجامعي ذي الصفحات المحدودة، ذلك هو أن العمل والأداء العلمي ذاته يقتضي وجود رؤية متسعة للمعرفة، وخلق طبيعة جدلية تجاوزية تنطلق من أن الحقيقة العلمية لا يمكن أن يختزلها كتاب واحد، مهما كان مهماً وعميقاً. إن الاهتمام بالاقتصار علي كتاب واحد للطلاب بالجامعة في علم معين لهو جدير أن يخلق طلاباً ملفقين مبتذلين، ومفتقدين للتماسك المنطقي والعمق الفكري المنهجي. والتجربة الشخصية لي ولكثيرين من زملاء الدراسة والعمل الأكاديمي تبرهن علي أن اقتصار الأستاذ الجامعي علي كتاب واحد محدد لهو قتل لدوره النقدي التنويري الذي كان من الأحري أن يمارسه، ولهو أيضاً تدمير لطاقات الطلاب المتجددة، فكيف يوجه الطلاب أسئلة تتعلق بصفحات هي فكر الأستاذ نفسه، وبعد ذلك يتساءلون لماذا لا ننافس الجامعات العالمية المبدعة؟ ولعل أدق وصف قرأته بخصوص هذا الموضوع أن الطالب والأستاذ في ظل هيمنة الكتاب الواحد يشبهان حصانين كلاهما يسيران إلي الأمام فقط، ولا يريان الجانبين والخلف. ويا حسرتاه علي طالب ساذج يصدق أستاذه حينما يؤكد له أن هذه المذكرة هي عصارة الفكر في علم معين. إن التعليم الجامعي في كل الدول المتقدمة استثمار، وقضية أمن قومي تشبه الجدار الفولاذي الذي شيدته مصر في عهد المخلوع مبارك برعاية المهندس أحمد عز عند حدودها، والتعليم كما عرفت وعلمت وتلقيت وألقيت وعلمت ودرست هو عملية مستمرة مستدامة، لا ترتبط بشخص أو مسئول أو كتاب أوحد، بل تتعانق مع سياسات واضحة المعالم، ورؤي استشرافية تهدف إلي الإصلاح والنهوض، وكم أتمني أن أري في عهد جامعات ما بعد الثورة طالباً يتحدث العربية بطلاقة، وآخر يقص لي قصة عن أهمية التسامح الديني، وثالث يكتب مقالاً عن التيارات السياسية في مصر. إن أهم ما يميز العالم الجامعي العالمي هذه الأيام هو المعرفة، وتعني تعلم لتكون، ولتشارك الجميع، والابتعاد النهائي عن ثقافة النص التي لا تخرج عن صفحات يدرسها الطالب ليؤدي اختباراً فيها، بل يمتد ويتسع ليصير مجتمعاً معرفيا يتمركز حول التفكير وانتقال أثره في معاملاتنا وحياتنا المجتمعية وسلوكياتنا اليومية. فالكيان الجامعي كان ينبغي أن يشكل مرحلة هامة ومهمة في حياة المصريين، هامة من الهم والعبء النفسي والعقلي الذي يتحمله كل بيت علي أرض المحروسة، ومهمة من الأهمية حيث إن الطالب يستعد بعدها لدخول المعترك الحياتي، ونظراً لأن مناهج التعليم في هذه المرحلة بعيدة تمام البعد عن تنمية التفكير، وإعادة التفكير، وتشكيله، وتأسيسه، فمن الطبيعي أن يصير الطالب بالجامعة متطرفاً ومتحزباً ومتعصباً لأفكار بعضها غير جديدة بالمناقشة والتحليل، ناهيك عن طبيعة الأنشطة التي يمارسها الطالب علي هامش تلك المواد التي يتضمنها المنهج، تفتقر معظمها لأبعاد الجودة التي تسعي الجامعة إلي تحقيقها . ولا أظن أن ما يكتسبه الطالب ضمن المناهج الحالية يؤهله إلي امتلاك مهارات الدراسة، وآليات التفسير والعرض والتأويل، والجامعة والحمد لله كفيلة بتكريس ثقافة اللاعلمية لديه. بالإضافة إلي ما ابتليت به مصر في السنوات الخمس الأخيرة من هوس الفتنة الطائفية، وانقسام المجتمع إلي طوائف منعزلة عن واقعا المعاش، والمواد والعلوم والمعارف التي يدرسها الطلاب لا تتناول قضايا في غاية من الخطورة، كالتسامح الديني، والتمييز والاستبعاد المجتمعي. إن حال التعليم الجامعي في مصر كحال الوطن، ولو أن الوطن استطاع أن يتحرر من سطوة القمع السلطوي علي يد نظام مبارك ورجال أمنه البائد، فإن الجامعة المصرية لم يصلها قطار الثورة والتصحيح بعد، فعملية التعلم بها لاتزال تواصل مسلسل السقوط المعرفي والعلمي وأصبحت الجامعة مؤسسة لا تسعي إلي تخريج نخبة تقود البلاد نحو الازدهار، لذا فقد قرر مستخدمو الجامعة بتعبير شبكات التواصل الاجتماعي النزوع عنها، والالتجاء إلي مصادر تثقيفية ذاتية أخري تحقق تقدماً ملموساً دون قيود المعرفة التي تفرضها عليهم الثقافة التعليمية الرسمية. إن التعليم الجامعي يعاني بحق قصوراً مدهشاً، أدي إلي عزوف أفراد الشعب عن مواصلة التعليم والبحث عن المعرفة، فالمواد الدراسية التي يدرسها طلاب الجامعة لا تفي بمعطيات واحتياجات سوق العمل والعلم معاً، واستمرار مسلسل ثقافة الذاكرة الذي يعرض منذ سنين بالتأكيد سيقذف بالتعليم إلي هاوية سحيقة لا نهوض له بعدها. وأخيراً أقولها صادرها بتنبيه القائمين علي مستقبل التعليم الجامعي في مصر ببيت شعر للسهروردي حينما قال: والمرء يقرح بالأيام يقطعها... وكل يوم يدنو من الأجل