الحديث عن هموم التعليم في مصر حديث مستدام لا ينتهي، إلا بانتهاء الحياة على وجه الأرض متى يشاء خالقها ، وطالما أكدت مراراً وتكراراً قبل في أكثر من مقال على خطورة وأهمية العملية التعليمية وإصلاح منظومة التعليم برمتها ، وضرورة الاهتمام بالمخرج والعائد التعليمي ، لأن التعليم أصبح استثماراً بشرياً أهم وأخطر من الاستثمارات الاقتصادية والمالية في مجتمع المعرفة الحالي. ويكفي أن قطر هذا الكيان الصغير الذ لا يمتلك ثرورة بشرية هائلة مثلما تمتلك مصر انطلاقاً من هذا المعتقد الاستثماري للبشر والمعرفة، عقدت في نهاية العام قبل الماضي بالدوحة مؤتمر وايز، وهو مؤتمر القمة العالمية للابتكار في التعليم، حيث إن العالم المتقدم فقط يسعى لأن يعمل سوياً لإنجازات مستدامة تتحقق على أرض الواقع، وليس مجرد نظريات تربوية أكاديمية تتلى على مسامع الطلاب بقاعات المحاضرات بالجامعة.
وأمر عجيب أن تظل مصر تحتفل بإنجازاتها الرياضية ومعاركها الكروية ضد قنوات الجزيرة الرياضية لمدة عامين متصلين ، وتغفل مشاركة مائة مشارك، ومائة وعشرين دولة ساهمت في فعاليات مؤتمر من شأنه الرقي بالمستويات التعليمية ببلدانها. وإنه لشئ محزن ومضرب حقاً أن تسعى دولة قطر لاستضافة مؤتمر علمي عالمي يستهدف مواجهة التحديات العالمية الحالية وتنأى مصر كدولة عريقة بالقطع عن استضافة مثل هذه المناسبات والاحتفاليات العلمية.
لكن لا عجب في ذلك وأنه تم في ظل حكم فاسد وعهد مظلم لم يكن يعي مقدرات أمته وثروات شعبه الحقيقية ، ولا عجب ألا نتواجد في عرس تعليمي ونحن استمرأنا تصدير الغاز إلى الكيان الصهيوني واستبدلنا الدم المصري الغالي والثمين بدولارات لم تنفع أصحابها اليوم.
ولاشك أن مثل هذه المؤتمرات وغيرها تهتم في مناقشاتها بالبعد الكوني للهموم التعليمية المشتركة مثل الإبداع والابتكار والتفوق في مجالي العلوم والرياضيات ، بالإضافة إلى نهضة الأمم بلغاتها الأصلية والمحافظة على هوية اللغات القومية لكل بلد. أما نحن فالأمور والظواهر التعليمية مازالت مختلفة ، فالتسرب التعليمي في ازدياد خطير ، والمحافظون يعلقون تجديد عقود المعلمين على محو أمية المواطنين في عصر أطلق عليه عصر الانفجار المعرفي أو مجتمع المعرفة، ونحن لازلنا نناقش مشكلة الأمية.
كل هذا والخطر لا يزال يطبق على عنق التعليم ؛ إضرابات واعتصامات وتهديد بتعليق الدراسة ، وحديث مكرور وممل عن الكادر وعن جودة التعليم والإصلاح المرهون باستقرار البلاد وأمنها، وكن مصر طيلة عقود ثلاثة مضت كانت في حرب مضطرمة مع الكيان الإسرائيلي لكن الواقع كان يسطر تاريخاً ملوثاً من العمالة وخيانة العهد والأمانة مع عدو لا ينسى هزيمته النكراء ، فليتنا نحن لا ننسى قوة شعب استطاع قهر سرطان صهيوني ونحن صيام.
ولو أننا صادقنا القول والفعل مع أنفسنا لأعلنا أن التعليم حق أصيل في بنية الهوية المصرية والعربية ما وصل بنا الأمر الآن إلى حال منظومة التعليم التي تذهب إلى هاوية سحيقة دون أن تدري ؛ مؤسسة ونظاماً ومعلمين وطلاباً ناهيك عن المناهج التي يجب أن تدرس في عهد الأيوبيين أو مصر الفاطمية، وهذا الإعلان يتطلب جهوداً كبيرة ومستمرة في الارتقاء بمستوى المعلم والطالب والمدرسة والسياسات التعليمية نفسها، وجعل المعلم وطالب وولي الأمر أقصد الآباء والأمهات شركاء في صناعة القرار التعليمي ، لا جعلهم مجرد عساكر أو جنود يتقلون الأوامر نصياً دون مناقشة أو مشاركة أو حق الاستفسار عن لماذا هذا الأمر، ولماذا لا يكون غيره صحيحاً. ؟
وليت وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي عندنا في المحروسة أن ترسخ بعقول أبنائنا حقوق حرية الاختلاف الفكري ، وأن توضح حقيقة وجود مسافات اجتماعية وثقافية بين أفراد الشعب، وهذه المساحة من شأنها أن يقابلها تقبل للآخر والمختلف والمتباين والمتمايز في الرأي والفكر والاتجاه، وإذا حدث هذا فلا ولن تسمع عن فتنة طائفية ، أو تشاجر بالسباب والأيدي تحت قبة البرلمان، أو وسط المشجعين بالملعب.
وليت وزارة التربية والتعليم تعي أهمية وضرورة تنمية مهارات التفكير الابتكاري التي اهتم بها المؤتمر القطري، ولتدرك أن التفكير ليس موهبة لا تقبل التعلم، بل إن الدور الرئيس لمناهج التعليم هو إكساب الطلاب والتلاميذ مهارات التفكير الناقد والإبداعي والابتكاري، لا جعلهم ممتصين للمعرفة والمعلومات.
إن أهم ما يميز العالم المدرسي العالمي هذه الأيام هو المعرفة، وتعني تعلم لتكون، ولتشارك الجميع، والابتعاد النهائي عن ثقافة النص التي لا تخرج عن صفحات يدرسها الطالب ليؤدي اختباراً فيها، بل يمتد ويتسع ليصير مجتمعاً معرفيا يتمركز حول التفكير وانتقال أثره في معاملاتنا وحياتنا المجتمعية وسلوكياتنا اليومية.
وبحكم تخصصي الأكاديمي ، ولطبيعة عملي بمهنة التدريس أعتبر أن وزارة التربية والتعليم أبرز وزارة على أرض مصر المحروسة ، بل وأخطرها وأهمها على الإطلاق، وهذا بغير تعصب أو تحزب أو تحيز وتطرف في ظل أصبح فيه التطرف والاحتقان سمة مميزة للعصر. ولكن هذه الأهمية تأتي من كون وزارة التربية والتعليم منوطة بتعليم وإعداد أبنائنا وتأهيلهم وتربيتهم، مثلها مثل الأزهر كمؤسسة تعليمية تهتم بإعداد وتخريج دعاة وأئمة ووعاظ متفهمين لدينهم ولطبيعة عصرهم.
ولا شك أن وزارة التربية والتعليم متمثلة في السياسات والنظم التعليمية المستخدمة تحتاج منذ عقود ليست بالقليلة إلى جراحة عاجلة، وقبل إجراء هذه الجراحة يحتاج الطلاب وهم الفئة المستهدفة من التعليم ، وكذلك آباؤهم وأولياء أمورهم إلى علاج نفسي طويل الأجل لما سببته وزارة التربية والتعليم من متاعب وأعباء وإحباطات وأوجاع مزمنة نتيجة السياسات التي تنتهجها الوزارة.
حتى وزارة التربية والتعليم ذاتها بحاجة إلى علاج طويل الأمد لما اعتراها من حمى النقل والاقتباس والاستعارة للخبرات التربوية الأجنبية التي لا تصلح لمجتمعاتنا العربية مثل ملف الإنجاز، والتقويم الشامل، والتعلم النشط، ومعايير الجودة والاعتماد، وغيرها من العقاقير التعليمية المستوردة التي لم تفي بإعداد وتخريج طالب نابغ، ولامع اسمه يستطيع منافسه أقرانه في الخارج.
والمستقرئ لتاريخ وزراء تعليم مصر سيكتشف بسهولة أول قرار يمكن أن يصدره الوزير ، أي وزير جديد للتعليم، وهو عقد مؤتمر قومي للتعليم بهدف إصلاحه، وأنا أعي كلمة مؤتمر علمي للتعليم منذ بداية عملي بالجامعة في 1996م، وما أكثر مؤتمراتنا العلمية والتعليمية التي تهدف إلى الإصلاح والتطوير والتجديد، والتي تنتهي عادة بتوصيات لا تخرج عن مجرد سطور مهملة تفشل وقت إخضاعها للتطبيق والممارسة العملية.
ولابد وأن يسعى وزير التربية والتعليم إلى إنقاذ النظام التعليمي المصري من الانهيار والتحلل، وكلنا بالقطع مشاركون في هذا الانهيار ، طلاب، وآباء، ومعلمون، ونظم تعليمية، وسياسات تربوية مستوردة لا تفي باحتياجات مجتمعاتنا.
عذراً لأنني أفضت واستفضت في الحديث عن هموم بلادي التعليمية ، لكن كلما أذهب مدرسة بوطني أتأمل وجه التلاميذ، وأبكي على وضع تعليمي مشوه المعالم والملامح ، وطالما تذكرتني وأصدقائي وزملائي ، فأقول : اضاعوني وأي فتى أضاعوا..