تحدثنا فى المقال السابق عن ضرورة الإصلاح المنهجى للتعليم، كى يصبح قادرا على تأسيس عقل نقدى، وعلى إنتاج المعرفة وتداولها، بدلا من الاقتصار على ضخ أعداد ضخمة من قليلى الكفاءة، الذين تلقوا تعليما تلقينيا يفتقر للحس النقدى، ويتمحور على محتويات العلوم وتاريخ الظواهر. غير أن هذا الإصلاح المنهجى لن يكون ممكنا دون إصلاح هيكلى على مستويين: المستوى الأول أفقى يستهدف ضبط العلاقة بين التعليم الجامعى، وقواعده فى التعليم المدرسي، على نحو يجعل الهرم التعليمى طبيعيا، وليس مقلوبا، حيث تتفوق نسبة التعليم الجامعى كثيرا على نظيرتها فى التعليم الفنى، وهو وضع يتناقض مع مثيله فى الدول المتقدمة، ومع المنطق العقلى، ومع حاجات المستقبل، ففى بلد مقبل على حركة تنمية، يفترض التوسع فى التعليم الفنى، مع تطويره جذريا، وربطه بحاجات السوق. وفى المقابل تخفيض التعليم الجامعى إلى النسبة الطبيعية نحو 10 20 %، مع إعادة تخطيطه بحسب الاحتياجات الواقعية، على نحو يضمن لكل خريج دوره المستقبلى. وفى هذا السياق يصعب تفسير التوسع الهائل فى التعليم الجامعى على نحو يحمل الجامعات القائمة أضعاف طاقاتها. وأيضا الاستسهال إزاء ظاهرة الانتساب التى تزيد كثيرا عدد الخريجين دون دراسة حقيقية. وكذلك التوسع فى التعليم المفتوح الذى يكاد يمثل تجارة تقوم على منح شهادات صورية مقابل مبلغ مالى. وأخيرا سر فتح الأبواب الخلفية أمام خريجى التعليم الفنى للالتحاق بالجامعة، وإلى طابور المتعطلين، على نحو تغيب معه العدالة إلى درجة المفارقة، فمثلا: فالطالب (أ) تفوق فى الإعدادية والتحق بالثانوية العامة، بينما فشل الطالب (ب) فى ذلك، فالتحق بالتعليم الصناعى. ولكن بعد ثلاث سنوات فقط تبدى عمق المفارقة الظالمة: فالطالب (أ) المتفوق أصلا حصل على مجموع 90% فى ماراثون الثانوية العامة المهلك، لم يؤهله لدخول كلية الهندسة فصار هو الفاشل. أما الطالب (ب) فحصل على 75 % فقط فى دبلوم الصنايع، لكنها مكنته، بحسب القواعد الظالمة، من الالتحاق بكلية الهندسة، ليصير هو المتفوق!. فلماذا لا يبقى الاخير فنيا صناعيا متميزا، يمد سوق العمل بما تحتاج ويترك مكانه لمن هو أحق به منه؟. ولماذا هذا العبث، ولماذا لا تسد الأبواب أمام ذلك التضخم المفجع. والمستوى الثانى رأسى يستهدف إعادة تنظيم العلاقة بين القطاعات الثلاثة المستقلة للتعليم الجامعى: القومى العام فى قلبها، وعلى يمينه الأزهرى، وعلى يساره الخاص أو الأجنبى، المرتبط بجامعات أجنبية، يمثل فروعا لها، أو يدرس مناهجها، حيث يفرز كل قطاع منها بنية ذهنية مختلفة، ما يؤدى إلى انقطاعات فى تشكيل العقل المصرى، حتى وجدنا فصيلا من المصريين يكفر الآخر باعتباره ضعيف الإسلام، فيما الثانى يسفه الأول باعتباره شديد الرجعية.. الخ، ما يفرض علينا العمل على تقليص تلك التناقضات عبر أمرين أساسيين: أولهما هو التخلى عن المكون المدنى فى التعليم الأزهرى، وإحالة طلابه إلى الجامعات القومية، وقصر دور الأزهر على التعليم الدينى اللصيق بدوره، ولكن مع تطويره بحيث ينتج وعاظا وفقهاء مفسرين للشريعة أكثر انفتاحا على العصر، وأعمق دراية بتاريخ الدين كظاهرة كبرى، سواء أديان الوحى (اليهودية والمسيحية) أو الأديان الطبيعة التى تزدهر فى العالم الآسيوى حتى الآن (كالهندوسية والبوذية والكونفوشية والتاوية والشنتوية) أو حتى الأديان الوثنية القديمة، التى سادت فى الحضارات الكبرى المتوسطية (مصر وبابل وفارس واليونان وروما)، فمن دون وعى الدارس الأزهرى بتاريخ الدين وفلسفته لن يكون بمكنته تقدير قيمة الإسلام الحقيقية، باعتباره لحظة اكتمال الجدل التاريخى بين العقل والإيمان، كونه أكثر الأنساق الإيمانية معقولية، وأكثر الأنساق العقلانية إيمانية. ناهيك بالطبع عن تقدير قيمة الأديان السابقة عليه، والتى قدم بعضها تصورات عن الحقيقة الإلهية أسهمت فى تهيئة الوعى الإنسانى لقبول التوحيد الإسلامى المطلق. كما صاغت جميعها رؤى خلقية حول كيفية السمو بالروح والسيطرة على الغرائز، أسهمت فى التأسيس لأخلاق كونية صارمة (إسلامية)، ناهيك عما دشنته من ممارسات روحية يسهم تأملها فى فهم ظواهر كالتصوف الإسلامى والرهبنة المسيحية. فإذا ما استمر الجهل بتلك الأديان لن يكون ممكنا لدارس الأزهر التسامح مع معتنقى الأديان الأخرى، تسامحا عميقا لا شبهة فيه ولا مظهرية، عملا بقول كتابنا العزيز (لكم دينكم ولى دين)، وسيبقى لدينا أؤلئك الوعاظ الذين يختتمون خطبهم بالدعاء على اليهود والنصارى. سيبقى الأزهر قلعة للاعتدال السنى، تلك حقيقة تاريخية ولكنها مركبة وإشكالية، ففى مواجهة عالم حديث، تتعدد فيه مصادر التربية والتثقيف، بدا الأزهر عاجزا عن مواجهة الخطابات المتشددة، بل تمكن التشدد من اختراقه عبر العقود الماضية، فالعديد من المنتمين إلى الجماعات الدينية تخرجوا فى كليات أزهرية، شرعية وعلمية، والمفارقة أن ذوى التخصصات العلمية أكثر تطرفا من ذوى التخصصات الشرعية لأنهم يتلقون تعليما دينيا مبتورا، وتعليما مدنيا تلقينيا فتكون النتيجة عقلا مشبعا بخليط من الدوجمائية، والقشور العلمية، وتلك مواصفات القنبلة البدائية بالضبط. كما أن كثيرين من أعضاء هيئات التدريس فى الكليات الإقليمية يعتنقون فكرا متشددا يختلف كثيرا عن وسطية الأزهر، التى يجسدها خير تجسيد شيخه الجليل، وجبهة علمائه المستنيرين، الذين تعلم بعضهم فى جامعات غربية كبرى كالسوربون، وامتلكوا عقلا متفتحا، لا نظنه متوافرا لقاعدة الدارسين فى الأزهر الآن، ولذا وجب قصر هؤلاء على دراسة العلم الشرعى مع تعمقهم فيها، كى يخرج من بينهم من يستطع حملة شعلة الإستنارة عندما يرحل هؤلاء المشايخ الكبار. وثانيهما أن تشرف الدولة على التعليم الجامعى الخاص والأجنبى إشرافا كاملا، فلا يكون هناك فارق بينه وبين التعليم العام سواء فى شروط التقدم حتى لا يتحول الأمر إلى شراء فرصة دراسية غير مستحقة من وكيل خاص أو أجنبى، أو فى المقررات التى يفترض دراستها. أما الفارق الوحيد والمنطقى فهو البيئة العلمية الأرقى بالضرورة داخل الجامعات الخاصة، لما تتمتع به من إمكانات إنشائية ومعملية، وذلك فى مقابل ما يدفعه روادها من مال، الأمر الذى قد يسمح بتفاوت فى القدرة على التحصيل، وفى مستوى المهارات العملية، ومن ثم فى القدرة على تلبية حاجة سوق العمل، ولكنه لا يسمح بتباين وعى الخريجين، ولا بوقوع استقطاب بين مرجعياتهم الفكرية. لمزيد من مقالات صلاح سالم