ظروف وأحداث متلاحقة مرت بها مصر منذ اندلاع ثورة25 يناير المجيدة وحتي الآن.. جزء كبير من هذه الأحداث لا يمكن استيعابه بدون معرفة التحليل النفسي والاجتماعي له وللأسباب التي أدت اليه.. كما اننا في حاجة الي روشتة نفسية لكي نواجه هذه السلوكيات التي سيطرت علي المشهد السياسي ومسرح الأحداث خلال الفترة الماضية. وفي هذا الحوار مع الدكتور يحيي الرخاوي أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة وجدنا العديد من الاجابات عن أسباب مايحدث في مصر؟ كيف تقيم الثورة منذ اندلعت وحتي الآن؟ دعيني أعترف أنني لم أطلق علي الجاري من أكثر من عام حتي الآن لفظ الثورة دون تحفظ.. وذلك لأن أي ثورة لا ينبغي ان تسمي كذلك إلا بعد اعادة تشكيل ماتفكك, لأن الثورة ابداع جماعي, ولكن هناك أحداثا ليس لها علاقة بالثورة مثل حادث بورسعيد. ومن مشاهد الثورة التي يجب أن تتغير منظر مبارك في القفص الحديدي, فعليه أن يخلع نظارته والجلوس أمام القضاة بدلا من الاستلقاء علي السرير. كيف نواجه بالصبر هذه الاضطرابات التي نعيشها منذ الثورة؟ الصبر ليس قيمة ايجابية علي طول الخط, لابد أن نفرق بين الصبر, وبين الجبن والخنوع والاستسلام, علينا أن نعلم الناس دقة الحسابات وليس الصبر, بمعني أن تعلم أصحاب المطالب الفئوية مثلا, ألا تقتصر حساباتهم علي سرعة الاستجابة لمطالبهم دون النظر في بقية مطالب الفئات, بل وفي امكانية تحقيق مطالبهم ذاتها دون إفلاس أو خراب من يستطيع أن يستجيب لها, فيكونون هم من أوائل من يحرمون من الاستجابة لمطالبهم, بل من وظائفهم الأساسية أصلا, لا ينبغي أن نركز في خطابنا مع هؤلاء علي ضرورة الصبر, وإنما علي حسن الحسابات, وذكاء التوقيت, أما من المسئول عن هذه المهمة مما ذكرت, فهم الحكومة, ومجلس الشعب, والإعلام, والمؤسسات الدينية. كيف تري الانفلات الأمني ممثلا في الاجتراء علي وزارتي الدفاع والداخلية؟ طالما أنه غطاء إناء طار عشوائيا نتيجة لغليان غير منضبط, فلا يوجد ضمان الي أين يتوجه, ولا يوجد ستار واق لهذه المؤسسات أكثر من غيرها, فالغطاء معدني له حافة دائرية حادة, إذا طار كيفما اتفق قطعت حافته كل ماتلقاه دون أن تستأذنه أو تسأله من أنت بالله عليك, ولا توجد مقدسات أمام الانفلات العشوائي بلا قائد, والأرجح بقائد سري خبيث مخرب, لا يهمه من يصيب مادام سيتحقق الخراب. كيف تقيم تصرفات أهالي الشهداء؟ من شهد الموت, إن كان صادقا في اعتباره شهادة, فهو أحرص علي نيلها, أما ان كان قد لعبها من الظاهر, واعتبر ان الذي مات هكذا هو قتيل في معركة مرتبكة بين أطراف أغلبهم ضحايا حتي لو تم القتل علي يديهم, فهو يتمادي في الاقدام نتيجة لمزيد من الغفلة, أو لتصور الأخذ بالثأر يكاد يكون شخصيا, والاحتمال الايجابي أن يكون صاحب قضية تستاهل منه كل هذه الشجاعة. الالتراس شباب صغير منظم وغاضب كيف يتم ضبط إيقاعه, ومن يشارك في ذلك؟ حادث بورسعيد ليس له علاقة قوية أو أولوية بجماعات الالتراس البورسعيدية, اما ألتراس الأهلي فهم الضحايا والمجني عليهم, لا هؤلاء ولا أولئك مسئولون إلا كأدوات تنفيذ لمن أمسكوا بالريموت كونترول لحركة القتل الافتراسي( التي أسميتها أكلة لحوم البشر), فهذا الحادث في رأيي ليس له علاقة بكرة القدم أصلا, وقد فسرته انه يهدف الي مزيد من إعلان ضعف الدولة وغيابها, والعمل علي خراب الوطن, لمصلحة القوي التي يهمها خراب الوطن, وهي ليست قوي محلية فقط, بل الأرجح أنها قوي خارجية عالمية استغلالية مفترسة, أما كيف يتم ضبط إيقاعه, فهذا لن يكون إلا علي مراحل تبدأ بالمواجهة الأمنية الشجاعة, ثم تمتد الي التربية والتعليم, والأسرة, والثقافة والدين جميعا. من وجهة نظرك ماهي أسباب هذا الانفلات؟ بصراحة أنا أفتقد لما يسمي حوار في المرحلة الحالية, حتي هذا الذي يسمي التوك شو زاد فيه الكلام عن حده, حتي أصبح جدلا دائريا أظن أنه أقرب الي الجدال المنهي عنه في الحج, نحن في مرحلة اعادة ولادة, والمطلوب هو أن يتحمل كل من يسمي نفسه محاورا مسئولية ما يطرح من أفكار ليس من حيث وجهاتها فحسب, وإنما من حيث ما يمكن أن يتحول منها إلي اقتراح عملي قابل للتنفيذ, حتي هذا الحديث الحالي الذي أجريه معك, أعتقد أنه لا جدوي منه إلا إذا خرجنا بتوصية محددة تسهم في تدعيم مرحلة تكوين مؤسسات الدولة حتي التقديس. ما هو دور الأسرة في السيطرة علي الأبناء؟ الأسرة هي الدولة الصغيرة, وحين نتكلم عن غياب الدولة, يمتد هذا التعبير إلي غياب الدولة داخل الأسرة, وأيضا داخل النفس, الدولة تتخلق داخليا في الوقت الذي توجد فيه صورة الأب ودوره داخلي من واقع أدائه الخارجي, دور الأب( أو الأم القوية) كممثل أول لما هو أسرة بهت وتراجع حتي كاد ينعدم, وبالتالي ضاعت هيبة الدولة, وهيبة الكبير, وهيبة السلطة في كل المجالات علي كل المستويات بدءا بالأسرة. حالة الانقسام والتشرذم القومي المخيف فهذا ليبرالي وهذا ثوري وهذا إسلامي.. كيف تحكم علي ذلك نفسيا؟ لماذا نسمي هذا التعدد بالتشرذم هكذا بهذه السهولة, ألم تلاحظي سيادتك الاعتراض شبه الجماعي علي فكرة الرئيس التوافقي, مع أنها فكرة ضد التشرذم, هذا الاختلاف الذي جاء في السؤال هو اختلاف مشروع, بل وجيه جدا, وهو دليل علي أننا دخلنا في سنة أولي ديمقراطية,( علما بأنني لا أقدس الديمقراطية الحالية ولا أراها إلا حلا اضطراريا مؤقتا), إن المبالغة في الحرص علي الإجماع, الذي هو ضد الاختلافات الفردية, بل وضد الطبيعة البشرية, هو الذي يمثل ما هو ضد ما جاء في السؤال تحذيرا من كثر التعدد, وغيبة المساحات المشتركة بين المختلفين, علينا أن نتعلم ضرورة الاختلاف دون استقطاب. كيف تري دعوات البعض لعقاب بورسعيد كلها بسبب مباراة؟ لا أعتقد أنه يوجد انقسام إقليمي في مسألة بورسعيد, فمن حيث المبدأ لا يوجد صراع أصلا بين النادي المصري والنادي الأهلي إلا في حدود الصراع الكروي, أما هذه المقاطعة المؤقتة لبورسعيد, فقد تراكمت مع مبادرات إيجابية أهلية ورسمية حاولت أن تكسر هذا الاحتمال, وأعتقد أن ما بدا من تحفظ نحو بورسعيد كان نتيجة للحرج والخوف أكثر منه نتيجة للكرة أو العقاب أو الثأر أو الانتقام. الانفلات الأخلاقي ضد الرموز الحاكمة مثل المجلس العسكري ورئيس الوزراء ومجلس الشعب.. ما هي أسبابه؟ الانفلات الأخلاقي هو جزء من الانفلات العام, بل إنه يعتبر من أولي مراحل الانفلات, وهو متعلق بغياب الدولة الأبوية داخلنا. كيف يتم جبر كسر رجال الشرطة كيف نعيد ميزان المهابة دون مساس بحقوق الفرد؟ هذه المهمة مهمة جدا, ولن تتحقق نتائجها إلا بعد وقت طويل, إن انكسار رجال الشرطة تم بفعل فاعل بطريقة في منتهي الندالة والقبح, ولا أعتقد أن لها علاقة بالثورة نهائيا, بل العكس هو الصحيح غالبا, هذا الجرح غائر جدا, فمن ناحية فيه نكران لجميل الشرطة وتهوين لدورها, صحيح أن الشرطة, أو بعض قيادتها, أو مثلها العليا التي كادت تتمثل في حكم غبي قاهر كانت قد وصلت إلي درجة من الإهانات والظلم لا تطاق, لكن الصحيح أن الحل لا يكون بما هو أغبي منه, وأخطر, هذه المهمة إعادة الهيبة والاحترام هي مهمة الإعلام بقدر ما هي مهمة التربية والتعليم, وأيضا البيوت, ثم هي مهمة الشرطة نفسها. نريد منك روشتة للتوازن الانساني اليومي تحفظه من الانفلات والقدرة علي الانجاز بمعظم دول العالم؟ - صحيح أنه يوجد فرع تخصصي دقيق في الطب النفسي يعتني بالتأهيل النفسي مع الحوادث, وبعد الحوادث بقليل, وبعد الحوادث بكثير, لكن علينا ألا نعول علي ذلك كثيرا لأن هذا هو بمثابة الإسعاف والتقليل من المضاعفات, وهو واجب طبي وإنساني, لكنه في نهاية النهاية هو عمل تسكيني وفردي, أما حكاية تحقيق التوازن النفسي فأنا أحذر من دعوات مثل أن ندع القلق, ونرفض الحزن الطبيعي الواجب هذه الأيام, ونسمي ذلك مرضا, فحالنا الآن يحتاج دعوة إلي الاحتفاظ بالقلق الخلاق, والحزن الشريف, ليكونا دافعا حقيقيا نحو الفعل اليومي المنتج( بدلا من تعبير التوازن النفسي) لأن العمل المليء بالمعني, وعائده المليء بالاستقلال الاقتصادي, هو البنية الأساسية التي يبني عليها أي توازن من أي نوع, نفسي أو وطني أو إيماني... ألخ. كيف نضبط بوصلة الوعي العام في اتجاه الصالح القومي؟؟ وندفعه باتجاه العمل والانجاز..؟ النجاح في هذه المهمة يحتاج خطة طويلة المدي, تبدأ بالمدرسة, والبيت ولا تنتهي عند الملاعب والكتاب, وهي مهمة إيجاد شعب جديد امتدادا لشعب عريق, وحكاية تقديس العمل في اليابان مثلا لم تتم في يوم وليلة, لكنها أصبحت سمة قومية وأخلاقية عبر عقود أو قرون, حتي أن من يقصر في أداء عمله ينتحر بشجاعة دالة, علينا أن نبدأ, ونستمر, ولا ننتظر نتائج سريعة. الرئيس مبارك وأسرته في مواجهة الشعب.. كيف تحلل كل طرف منهم؟ الرئيس مبارك وأسرته ليسوا بدعا من رؤساء أي حكم شمولي عبر التاريخ, وأنا رفضت كلمة تحلل هذه مرارا ونبهت زملائي والإعلاميين مرارا إلي ضرورة الحذر من الانسياق وراء الانطباعات التي مصدرها الصحف والكلام المرسل, ملاحظة أخري يمكن أن أبديها لابنه, أو ولديه, وهي أن حمل المصحف في اليد هكذا في قاعة المحكمة لن يعني أبدا عند الناس أو عند العامة أي درجة من احترام كتاب الله الكريم, كما أنه لا يفيد في ترقيق قلب القاضي, أو إعلان التوبة.