لاحظ الموسيقى الإيطالى «بوتشيني» أن مسرحية «مدام بترفلاي» تملك كل المقومات والصفات التى يريدها ويتطلبها فى أوبراه «العاطفية المفرطة والألم الفاجع ونموذج البطلة الهشة الضعيفة الرقيقة القابلة للكسر»، وهو النموذج الذى يوافق مزاجه وطبيعته ونفسيته. واستأذن «بوتشيني» كاتبها «لوثر كنج» ومخرجها «فيلاسكو» فى تقديمها على المسرح كعمل أوبرالي.. وعندما عرضت أوبرا «مدام بترفلاي» لأول مرة على مسرح «لاسكالا» فى ميلانو الإيطالية فى 17 فبراير 1904م قوبلت بالاستهجان لكن بعد أن أجرى «بوتشيني» تعديلات فيها وعرضت ثانيًا على مسرح «برسكيا» فى 28 مايو من نفس العام لاقت نجاحًا كبيرًا ظل يلازمها حتى يومنا هذا.
يرتفع ستار مسرح دار الأوبرا الملكية فى كوفنت جاردن فى لندن عن فرقة الأوبرا الملكية لتقدم أوبرا «مدام بترفلاي» للموسيقى الإيطالى «جياكومو بوتشيني».. منزل تطل شرفته على ميناء نجازاكي.. الأثاث على الطراز اليابانى والزهور والورود فى الزوايا والأركان.. «بنكرتون» الأمريكى فى حفل زفافه على فتاة نجازاكى «بترفلاي» يستقبل ويحيى مدعويه ويتحدث إلى صديقه القنصل الأمريكى «شاربلس» مزهوًا وفخورًا بالطريقة التى يعيش بها حياته حيث يحرص على اغتنام كل لذة أينما توجد وفى أى وقت دون أن يحسب حسابًا لنتيجة أو عاقبة.. ومعًا «بنكرتون» و»شاربلس» يحتسيان الشراب فى صحة أمريكا إلى الأبد!... ولا ينسى «بنكرتون» أن يتغنى بسحر ورقة وجمال العروس.
ينزعج القنصل للاستخفاف الشديد الذى يأخذ به «بنكرتون» مسألة زواجه ويحذره من العواقب التى قد تنجم عن كسر جناحين رقيقين وتحطيم قلب صغير يحب بصدق وعفوية وجنون.. يجيب «بنكرتون» على تحذيرات صديقه بأن يحتسى نخب زفافه الحقيقى إلى المرأة الأمريكية!.
العروس «بترفلاي» تتحدث إلى القنصل.. تخبره أنها فى الخامسة عشرة من عمرها وأن حالة الفقر الشديد التى تعيشها أسرتها هى التى اضطرتها إلى احتراف الرقص والغناء والتحول إلى فتاة الجيشا.. «بترفلاي» فرحة ومبتهجة وخجولة تنتحى بحبيبها «بنكرتون» وتعرض عليه أشياءها الصغيرة الخاصة.. يلاحظ «بنكرتون» من بينها خنجرًا تحتفظ به عن والدها.
فجأة يقتحم الحفل «برونز» رجل الدين البوذى عم «بترفلاي» الذى يستنكر عقد قرانها على الأمريكى «بنكرتون»، ويصب لعناته عليها لرفضها معتقدات وشرائع وأعراف آبائها وأجدادها.
«بترفلاي».. وحيدة منزوية تبكي.. لكن معسول كلام «بنكرتون» يخفف عنها حزنها ويطيب خاطرها.. والليل يرخى أستاره يتعانق بنكرتون» و«بترفلاي» ويغنيان شعلة حبهما المتوهجة بينما آلات الأوركسترا تعزف لحن الحب:
«أحبك.. هذه الكلمة الملهمة
لا ينكرها إنسان يحب
الحب.. هذه الكلمة التى تعرفها الآلهة
هى الحياة فى عطائها السخي»
ثلاث سنوات منذ أن غادر «بنكرتون» «بترفلاي» وهى تحفظ له كل الحب وتؤمن أنه سيحقق وعده لها بالعودة عندما تغرد العصافير فى أعشاشها فى فصل الربيع.
ينتهى الفصل الأول ليبدأ المشهد الأول فى الفصل الثاني.. «بترفلاي» واقفة بغير حراك ساهمة الطرف سادرة فى أحلامها.. «سوزوكي» وصيفتها تصلى أمام صورة الإله «بوذا» من أجل «بترفلاي» التى تصف فى حلم يقظتها قدوم «بنكرتون» على سفينة تقترب رويدًا رويدًا من الشاطئ فاتحًا ذراعيه لعناقها.. وتغنى «بترفلاي» الحلم الجميل.
«بترفلاي» المحبة العاشقة لا تريد إلا أن تسمع عن قرب عودة حبيبها وتفشل كل محاولات القنصل إخبارها بالخبر الفاجع.. خبر زواج «بنكرتون» من أمريكية.. «بترفلاي» فى الشرفة إلى جوار طفلها من «بنكرتون» تظل واقفة تنظر إلى البعيد فى انتظار السفينة «إبراهام لنكولن» تدخل المياه الإقليمية اليابانية وعلى متنها «بنكرتون».. لكن الشمس الحمراء القانية بلون الدم تختفى فى المياه الزرقاء والليل يفرد خيمته السوداء على الكون.
ترتفع ستائر المسرح عن المشهد الثانى فى الفصل الثانى والأخير.. السماء رمادية محملة بغمام أسود كثيف والشمس تنسج من جديد أول شعاع لها يبين عند الأفق.. و»بترفلاي» فى الشرفة غارقة فى تأملاتها.. طرقات على الباب.. القلب الصغير يكاد يقفز.. لكن «بترفلاي» لا ترى غير القنصل و»كات» الأمريكية الملامح والقسمات.. فى صمت متألم تدرك «بترفلاي» الحقيقة الفاجعة.. بصوت هادئ عميق تبدى موافقتها على التخلى عن طفلها ل»بنكرتون».. تدخل حجرتها المظلمة.. تنحنى أمام صورة «بوذا» وتصلى صلاة صامتة.. تخرج خنجر والدها من غمده.. تقرأ الكلمات المكتوبة عليه: «إذا لم يكن فى استطاعتك العيش فى شرف.. فالموت إذن فى شرف».
تهدهد «بترفلاي» طفلها وتلاعبه وتغنى له وفى حنان تضعه فى مهده.. تمسك بالخنجر وتطعن به عنقها.. تسقط على الأرض ميتة.. تعلو أصوات آلات الأوركسترا غاضبة وقوية ومتألمة وتعزف لحن الحب المهزوم.. وتنسدل الستائر الحمراء القرمزية لدار الأوبرا الملكية.
تحمل موسيقى «بوتشيني» إمكانيات وطاقات درامية هائلة لكن عدم اهتمامه بدراسة الشخصية ونموها وتطورها من الناحية النفسية وبالتعرف على دخائلها الدقيقة كان سببًا فى إضعاف الأثر الذى تتركه موسيقاه فى النفوس وتجعلنا نضعه فى الترتيب، بالقياس إلى عمالقة الموسيقى، بعد «موتسارت» و»فيردي» و»شتراوس» و»فاجنر» من حيث الموضوع المتناول ودراسة الشخصيات والعمق الموسيقى ذى المستويات المتعددة.
يحوى الموسيقى «بوتشيني» بين جوانحه عواطف جياشة ومشاعر فياضة وانفعالات جامحة ربما لا تخدم البناء الهيكلى للأوبرا، وفى أوبراته يتفوق القلب دائمًا على العقل وهى الصفة التى لازمته طويلاً، إلا أنه تغلب عليها بعض الشيء فى أوبراته المتأخرة، حيث اهتم برسم الشخصيات الدرامية وخاصة النسائية الأمر الذى جعله أكثر اقترابًا من المسرح وخاصة التراجيدى منه.
أخرج العرض «آندى اندرسون» دون أن يكشف لنا عن كل الإمكانيات الدرامية للأوبرا كما أرادها «بوتشيني»، ولقد عاب الحركة على المسرح البطء والتثاقل والتكلف الشديد التى كانت تتصف بها الأوبرا قديمًا مما لا يتوافق مع حياتنا اليومية والعلاقات الإنسانية المعاصرة.
الديكورات والمناظر هى نفسها التى صممها «صوفى فيدوروفتش» منذ عقود لكنها تنقل لنا فى جمال أجواء الحياة اليابانية ومشاهد الغروب وتساقط الشمس فى مياه البحر عند خط الأفق وحلول الظلام ثم والشمس تشرق من جديد.
كان لسماع «بوتشيني» ومشاهدته أوبرا «عايدة» للموسيقى الإيطالى «فيردي» فى إيطاليا عام 1876م، أن تفتحت عيناه على عالم جديد مبهر هو الأوبرا وأدرك منذ تلك اللحظة أن الأوبرا ولا شيء غيرها هو ما يحب أن يكرس حياته من أجلها.. تمرد على مستقبله المحدد والمعروف مسبقًا كعازف أورغن فى كاتدرائية «سان مارتينو» مثل كل أفراد أسرته الموسيقية وذهب إلى «ميلانو» حيث مسرح «لاسكالا» الشهير كعبة موسيقى الأوبرا والتحق بكونسرفتوار ميلانو عام 1880م.
من مذكرات ضابط فرنسى يدعى «بيير لوكي»، كتبها فى مدينة «نجازاكي» اليابانية فى الفترة من يوليو وحتى سبتمبر عام 1885م ونشرت عام 1887م، أخذ الأمريكى «جون لوثر كنج» فكرة قصته القصيرة «مدام بترفلاي» التى نشرها فى إحدى المجلات الأمريكية وتدور حول محاولة انتحار تقدم عليها فتاة يابانية من نجازاكي.
وفى وقت لاحق قام الكاتب والمخرج المسرحى الأمريكى «دافيد فيلاسكو» باستغلال الإمكانيات الميلودرامية لقصة «لوثر كنج» محتفظًا بجزء كبير من الحوار وحاذفًا لبعض التفاصيل غير الضرورية ثم عرضها لأول مرة فى نيويورك فى 5 مارس 1900م.. وبعد مرور شهر على عرض مسرحية «مدام بترفلاي» فى نيويورك عرضت على مسرح «دوق يورك» فى لندن فى الوقت الذى كان فيه الموسيقى «بوتشيني» يزور العاصمة البريطانية بمناسبة عرض أوبرا «توسكا» له.