إن لم تؤمن بنفسك فلن يؤمن بك أحد مقولة المؤلف الموسيقي والفنان الايطالي جياكومو بوتشيني صاحب التراث الاوبرالي العظيم في مجال الموسيقي والأوبرا. ورغم إنتاجه البسيط والذي يصل إلي اثنتي عشرة أوبرا فقط إلا أنها جميعا من أهم الأعمال الاوبرالية في ربرتوار جميع دور الأوبرا في العالم, ولا تخلو أي أوبرا من تقديم أعماله الفنية الإبداعية والتي تعبر عن ميله الشديد إلي القصص والموضوعات التي تفسح المجال لإبراز المشاعر والأحاسيس الإنسانية كي يضعها في قالب موسيقي تنهال منه الألحان الجميلة التي تعبر عن الأحداث الدرامية للقصة, حيث يمثل بوتشيني الواقعية الإيطالية في أعماله الاوبرالية مثل توسكا ومدام بترفلاي وفتاة الغرب وتوراندوت وجميعها يعتبر من الأعمال التي تتسم بجمال وعمق الأسلوب. وتتجلي موهبة جياكومو بوتشيني الذي ينحدر من الجيل الرابع لأسرة الموسيقيين المحترفين في سن مبكرة, فقد ولد عام1858 في لوكا بايطاليا, وصار يتيما حين كان في السادسة من عمره بعد وفاة والده, وكانت أسرته تأمل أن يحل محل والده كعازف لآلة الأورغن, وبالفعل بعد أن درس الموسيقي علي يد بعض الأساتذة المتخصصين في بلدته, بدأ يغني في الكنيسة وهو في سن العاشرة ثم أصبح عازفا للأورغن بها, وفي أثناء دراسته ألف ثلاث قطع موسيقية هي: برليود سيمفوني عام1876, وموتيت عام1878, وقداس عام1880, حيث قدم تلك الأعمال في امتحان القبول بكونسرفتوار مدينة ميلانو, وذلك بعد حصوله علي منحة دراسية من الملكة لدراسة التأليف الموسيقي, وقد تتلمذ علي بونتشيللي وبازيني, كما شارك بوتشيني في مسابقة بأولي أوبراته المدينة عام1880, وهي من فصل واحد لكنها لم تلق نجاحا. ومع ذلك فقد قدمت مرة أخري لجمهور ميلانو عام1884 ولاقت استحسانا مقبولا, أما أوبراه الثانية إدجار عام1889 فقد حققت نجاحا أفضل قليلا, ولكن اتسعت شهرته كمؤلف بعد النجاح الذي لقيته أوبراه مانون لسكوات عام1893, ثم أبدع الميلودراما الغنائية الشهيرة أوبرا توسكا عام1900 والتي قدمت لأول مرة في روما من نفس العام, ولم تلق قبولا من النقاد والجمهور في بادئ الأمر عند عرضها, رغم أنها تتميز بكثير من المقاطع اللحنية التعبيرية والدرامية والتي سرعان ما انطلقت بها لتحوز علي الشهرة والجماهيرية إلي الآن.. حيث بدأ بوتشيني يحتل مكانته كخلف منتظر لكبير الموسيقيين الايطاليين فيردي. وكانت روايات أوبراته لم تقتصر علي الفكر الأوربي فقط بل كانت تطوف بين الشرق والغرب. وقد نالت جميع أوبراته التالية شهرة عالمية لبراعتها في الأداء المسرحي وعذوبة ألحانها العاطفية, وما تميزت به من روعة في التوزيع الموسيقي مع العناية بأدق التفاصيل. وكان دائما يقوم بالتعديل من خلال الحذف والإضافة لبعض المقتطفات ووضع بعض التفاصيل للآلات الموسيقية باحثا عن الكمال والخلود لأعماله. ويتضح أسلوب بوتشيني الموسيقي في توظيفه الرائع لاستخدام الآلات الوترية وآلات النفخ الخشبية في ألحان تتميز بالسرعة والقصر بأداء قوي وأسلوب تأثيري بديع يعبر عن المشاعر الرومانسية والواقعية بتمكن واقتدار, أيضا تتضح الغنائية والحس الجمالي والعاطفي في موسيقاه من خلال أداء بعض الألحان المنفردة في آلات النفخ الخشبي كالفلوت والابوا والكلارينيت والفاجوت, مع عمق التلوين الأوركسترالي ليتماشي مع المواقف الدرامية علي خسبة المسرح.. كما يبرز استغلال المؤلف لأصوات المغنيين علي اتساعها بأعلي درجة من الحرفية في أوبراته, لتبين جمال صوت المغني وقوته التعبيرية في تفسير المعاني الجميلة للكلمات, مع استخدام الرسيتاتيف( الإلقاء المنغم) في كثير من الآريات. وقد وافته المنية عام1924 بعد صراع مع المرض في بروكسل ببلجيكا أثناء كتابة أوبرا توراندوت والتي استكملها الموسيقي الإيطالي فرانكو ألفانو- حيث دفن في ميلانو في مقبرة العائلة, ولكن ذلك كإجراء مؤقت إلي أن نقل رفاته عام1926 إلي مصلي أنشئت خصيصا داخل فيلا بوتشيني في توري ديل لاغو تاركا هذه الإبداعات لكل محبي فن الأوبرا في العالم أجمع.