كل أهل لاسكندرية يعرفونها...سراى الحقانية التى تقف بقوة وثبات منذ عام 1886 فى ميدان المنشية الشهير، فهى أول وأكبر محكمة مختلطة فى مصر كانت أشهر قضاياها هى قضية ريا وسكينة الشهيرة. أما ميدان المنشية نفسه، فهو ميدان القناصل والميدان الكبير، وهو أيضا ميدان محمد على, الذى يحتفظ بتمثاله فى مواجهة تغيير الزمن والأحداث منذ عام 1872، عندما انتهى جاكمار أشهر مثال فرنسى من وضع اللمسات الأخيرة, ليتوسط ميدان المنشية، ويلتحق بقائمة متميزة لتماثيل أخرى أبدعها خصيصا من أجل مصر، كأسود كوبرى قصر النيل،و تمثال لاظوغلى، وتمثال سليمان باشا الفرنساوى. إلا أن هذه الألقاب والتسميات التى حملها ميدان المنشية لا يجب أن تنسينا أنه فى الأساس دليل واقعى على عبقرية تخطيط الدولة المصرية الحديثة. فعندما أراد محمد على باشا الكبير أن يوكل إلى ديوان أو مجلس «الأورناطو» مهمة تشييد وتوسعة الشوارع المصرية، قام فرانشيسكو مانشينى المعمارى الإيطالى بتصميم هذا الميدان ليصبح عنوانا للوطنية المصرية، بعد أن كان, كما وصفه على باشا مبارك فى خططه التوفيقية, أرضا شاغرة تستخدم من قبل البدو كسوق للماشية ولبيع بضائعهم. فقد أصبح فى زمن عرابى رمزا للمقاومة, حين قصفته مدافع القوات البريطانية، وأصابه الكثير من الدمار. فعندما دخل البريطانيون بر مصر، أصبحت كثير من المبانى الجميلة مدمرة, باستثناء مبنى البورصة وكنيسة سان مارك - كما يقول المعمارى د. محمد عوض - كما أصبحت الاسكندرية موطن استشهاد الجنود المصريين. و الغريب أنه بعدها بسنوات, وفى نفس الميدان, تعرض جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال أثناء إلقاء خطابه الشهير فى السادس والعشرين من أكتوبر عام 1954 ليسجله التاريخ بأسم حادث المنشية. هذا تاريخ، أما الحاضر فيحكى قصة مختلفة. حقوق المصريين: فالأصعب هو ما يحدث الآن على أرض الواقع، فى سراى الحقانية التى يصفها المستشار ممدوح حشيش رئيس محكمة الاستئناف بأنها تاريخ كبير لا ينتبه له المصريون. فسراى الحقانية بالاسكندرية هى أول وأكبر محكمة مختلطة فى مصر بعد إلغاء المحاكم القنصلية وبداية عمل المحاكم المختلطة، وهناك محاكم أخرى عريقة فى مصر كمحكمة مصر فى باب الخلق، ومحكمة استئناف أسيوط. أما دار القضاء العالى فتعود إلى عام 1934 وهو ما يعنى أنها أحدث من محكمة الحقانية. وقد مر القضاء بمراحل عديدة, منها مجالس الحكماء ثم محاكم القناصل، فكل دولة كان لها محكمة. ولهذا وجدت مشاكل وتظلمات من مسألة التقاضى، فإذا حدثت مشكلة لأى مصرى مع أجنبى كان عليه أن يذهب للقنصلية الاجنبية التى يتبعها ذلك الأجنبى ليرفع قضية تمكنه من الحصول على حقوقه. وإذا أراد أن يستأنف فعليه أن يذهب إلى هذه الدولة ليقاضى مواطنها. يقول عزيز خانكى بك فى كتابه «المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية» إنه إذا كسب المصرى دعواه وإستأنف خصمه تعطل تنفيذ الحكم حتى يحكم فى الإستئناف محاكم فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا أو روسيا أو النمسا أو اليونان أو إنجلترا أو أمريكا. وكثيرا ماكان يحتال الأجنبى لتعطيل الحكم النهائى الذى يحصل عليه الوطنى، فقام نوبار باشا عام 1880 بالتفاوض مع القناصل , وهكذا ولدت فكرة المحاكم المختلطة كنوع من الإصلاح القضائى. وإن كان نوبار باشا بتقديمه هذه الفكرة وبداية العمل بها، لم يحقق تقدما كبيرا فى سجل المصلحة الوطنية المصرية, كما كان يعتقد, وذلك بسبب التدخل الأجنبى. ومع هذا فقد افترض فيه الحقوقيون النوايا الحسنة، حتى أنه فى نهاية حياته نُقل جثمانه إلى فناء سراى الحقانية، ولم يقم البوليس بحراسة الجثمان بل موظفو المحكمة الذين حمدوا له محاولته القانونية. وبعدها ظهرت الكثير من الوجوه المصرية الوطنية فى سلك القضاء وعملوا فى محكمة إستئناف مصر, منهم إسماعيل سرى أول نائب عام مصرى، والشيخ محمد عبده، و سعد زغلول، وقاسم أمين، و عبد العزيز فهمى أول رئيس لمحكمة النقض. تاريخ القضاء المصرى: ورغم التاريخ الذى يضع هذه المحكمة فى مكانة خاصة، فهى تعانى الآن الكثير من المشكلات التى وصلت بها إلى حالة يرثى لها، حتى اننا بدأنا والكلام للمستشارممدوح حشيش- بنقل محكمة استئناف الاسكندرية لمكان أخر لحاجة المبنى الشديدة إلى الترميم. أما داخل المبنى فيضم مقتنيات ثمينة لا تقدر بثمن. وقد سلمت وزارة العدل المبنى للمسئولين عن الآثار منذ عامين، وكان هناك إجتهاد بتشكيل لجنة برئاستى وعضوية المستشار أحمد بيومى ناصر, رئيس المكتب الفنى باستئناف القاهرة, و المستشار سعد السعدنى, رئيس محكمة الاسكندرية الابتدائية, لمتابعة وتوثيق التاريخ القضائى بشكل عام بالتعاون مع مكتبة الاسكندرية و مركز الدراسات القضائية. وقامت وزارة العدل بدفع 3 ملايين جنيه مساهمة لترميم المبنى، رغم أنه طبقا لقانون الآثار تصبح وزارة الآثار والمجلس الأعلى للآثار هم المسئولين. وبدأنا فى نقل المحكمة, ولكن ماتزال المكتبة موجودة, ويضم أرشيفها حوالى 10 ملايين قضية، ويوجد دور مسحور به العديد من المقتنيات، كما توجد نيابة الأسرة. و قد قام المستشار هشام بركات النائب العام بتدبير مكان فورى لنقل النيابة إلى مجمع النيابات.والجدير بالذكر أن النائب العام يقوم الآن بإنشاء متحف لتاريخ النيابة العامة فى التجمع الخامس. ويضيف المستشار ممدوح حشيش: وهناك وثائق باللغات الأجنبية تعذر على المسئولين عن الآثار معرفة محتواها، فطالبوا دار الوثائق بالقيام بهذه المهمة و توثيق وترجمة هذه المخطوطات لإضافتها لتاريخ القضاء المصرى. كما تواصل المستشار محفوظ صابر وزير العدل مع وزير الثقافة ووزير الآثار لإنجاز هذا العمل. كما أن المستشار محمد حسام عبد الرحيم رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس القضاء الأعلى مهتم بهذا المشروع، وأعلن استعداده لعمل متحف قضائى من أجل توثيق هذا التراث وحفظه للأجيال القادمة، وأيضا أبدى السفير جمال البيومىالأمين العام لإتفاقية المشاركة المصرية الأوروبية بوزارة التعاون الدولى إستعداده للمساهمة فى الحفاظ على هذه المقتنيات التى تهم الكثيرين. مقتنيات فريدة: ويشير التقرير الفنى الخاص بمقتنيات سراى الحقانية, الصادر بتاريخ 18-2- 2014 , إلى وجود عدة مقتنيات ذات قيمة تاريخية وأثرية, منها مجموعة كبيرة من الكتب أغلبها بلغات أجنبية, ,وأوصت اللجنة بضرورة قيام مسئولى محكمة استئناف الاسكندرية بمخاطبة رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية لتكليف لجنة من المختصين للحفاظ على هذا التراث، وإخطار اللجنة الأثرية لمعرفة ما إذا كان بعض هذه الكتب والمخطوطات يخضع لقانون حماية الآثار. كما توجد صور لجون جياكون و موريس بيليه رئيسى محكمة الاستئناف المختلطة ، وصور فوتوغرافية لمبنى سراى الحقانية، وأطلس يضم خرائط كاملة للوجهين القبلى والبحرى، وعدد من التوقيعات الخاصة بولاة مصر وخديويها على الفرمانات، وتمثال نصفى من المعدن للخديو عباس حلمى، ومجلدات على غلافها رسم للتاج الملكى، وميزان من المعدن و سيفان ذوا مقبض معدنى، ولوحة زيتية هى تحفة فنية موقعة من الفنان تروجييه بول الفنان النمساوى ومؤرخة بعام 1749، بالإضافة إلى أختام معدنية وخشبية. كل هذه المقتنيات- والكلمة مازالت للمستشار ممدوح حشيش- تنتظر، والوقت ليس فى صالحها,ولا فى صالح سراى الحقانية. كما أن وجود مثل هذه المقتنيات وبهذه الكيفية قد يهددها بالدمار أو السرقة. فقد وقع الاختيار على سراى الحقانية لتكون متحفا للقضاء المصرى، وربما احتفظت كل محكمة لها تاريخ عريق بمقتنياتها فى صورة متحف خاص، فالمهم الآن كما يقول المستشار سعد السعدنى المحافظة على تراث يتجاوز الربعمائة عام ومقتنيات تسجل التاريخ الحقيقى لمصر . ويبقى أن نقول أن الأهرام تابعت هذه القضية منذ البداية عندما كتب الزميلان أمل الجيار ومحمود عبد المقصود عن سراى الحقانية التى سُجلت بالفعل كأثر منذ عام 2001، و عن تعرض المبنى لمشكلات بسبب المياه الجوفية، ولكن لم يحدث جديد رغم الاستغاثة و تعدد المسئولين, ومحاولة المستشار تمراز أرشفة قضاياها و مكتبتها منذ أربعة عشر عاما . صحيح كانت هناك وقتها موافقة من وزير الثقافة على إنشاء متحف، إلا أنه على أرض الواقع ليس امامنا سوى مخاطبات من وزارة الدولة لشئون الآثار بالإخلاء الإدارى الكامل للمبنى خشية انهياره, و مخاطبة عام 2013 إلى نقيب المحامين بالقاهرة بعد تأخر قرار الإخلاء، ومخاطبة المستشار وزير العدل الأسبق لوزير الآثار مشيرا إلى مساهمة الوزارة المادية . وفى الوقت نفسه، أعلن المجلس الأعلى للآثار منذ أربع سنوات عن حاجته لأربعين مليون جنيه لحماية مبنى سراى الحقانية الآيل للسقوط...فمن ينقذ سراى الحقانية، وماذا عن اليونسكو ومكتبة الإسكندرية... وماذا يقول رئيس الوزراء؟!.