ككل شيء انتقل إلينا مع الجينات من جدود الجدود فأصبح يسرى فى الدم ويحيا تحت الجلد مؤكدا سمة الاستمرارية والتواصل عبر شجرة الوراثة ، عرف المصريون المحدثون طريقهم إلى نقش همومهم وأحلامهم وإحباطاتهم كصراخ صامت بالريشة والألوان على جدران الشوارع التى تحولت إلى متاحف مفتوحة لفن الجداريات أو الجرافيتى الذى عرفه المصرى القديم فنا للخاصة يزينون به مقابرهم وجدران معابدهم ويتلون من خلالها قصة الإنسان المصرى مع الحضارة وظل الأحفاد فى القرنة يزينون جدران منازلهم بألوان وحكايات، وطوعها الأحفاد فى القرى والنجوع لتصيغ فرحتهم برحلتهم الميمونة إلى الحجاز ...وتحول فن الخاصة إلى فن شعبى على جدران الشوارع والحارات وأحيانا على ظهر التوك التوك ليرصد فلسفة ويسجل موقفا . الحكاية بعيدة بعد التاريخ عندما قرر المصرى القديم ما قبل التاريخ أن يدون يومياته البسيطة بساطة الحياة على جدران الكهوف وبعد أن أقام حضارته على ضفاف النيل قرر أن يسجل كل تفاصيل حياته على واجهات المعابد وبين جنبات المقابر . عندما تبدأ فى الكتابة عن هؤلاء الفراعين فكأنك قد بدأت كتابة رواية خيالية هكذا قال بارى كيمب عالم المصريات بجامعة كامبريدج وهكذا تشعر عندما تطأ قدماك أرض سقارة فأنت أمام كتلة من الأساطير التى غلفت الحياة والموت لا تملك أمامها سوى التعجب ..أن تحملق فى تلك الرمال الصفراء والجدران البيضاء وبقايا الأرض البازلتية السوداء ونقوش قاومت الفناء وصروح أصرت على البقاء وسراديب وأنفاق حفظت مومياوات الملوك والنبلاء وأخرى ضمت أجساد العامة منقورة فى الصخر أو مصنوعة من الطوب اللبن وثالثة حوت أجساد الثيران المقدسة ؟..أساطير رفعت ملوكا إلى العرش صنعها كهنة محنكون فى أمور السياسة وأساطير تخلط بين البشر والأنبياء وأنت أمام تلك الأساطير تكتشف حكمة ومعتقدا وعقيدة مازالت رواسبها تحيا فى ثنايانا تجرى على ألسنتنا حين نقسم بالشمس الحرة أو نندب موتانا لطما على الخدود أو نكسر القدور خلف زائر لم نرغب فى وجوده حتى لا يعود ثانية ..الجداريات فى سقارة تنبئ وتبوح بالكثير ففى سقارة حدثت أول ثورة معمارية على الحجر والطوب اللبن لتبدأ عمارة الحجر ومنها إلى كل بقاع مصر . من دير الأنبا متاؤس الفاخورى بالصعيد حيث لوحات تحمل رسوما لأنبياء من العهد القديم إلى مقابر البجوات بالوادى الجديد التى يوجد بها أكثر من مائتى هيكل تحمل مناظر من التوراة والإنجيل ..فى الكنيسة المعلقة وفى جدارها الشرقى صورة مرسومة للقديسين ترجع إلى القرن الخامس الميلادى وقد كتب عليها « فرحت بالقائلين لى إلى بيت الرب ننطلق وقفت أرجلنا فى ديار أورشليم » هكذا جاء الفن القبطى وريثا شرعيا للفن المصرى القديم فنجد مغزى الأمومة المتجسد فى صورة مريم وطفلها والتى تذكرنا بصورة إيزيس وهى تحمل طفلها «حور» . كذلك صورة القديس مار جرجس الذى يقاتل التنين من فوق صهوة جواده تضاهى صورة الإله حور وهو يرشق سهمه فى جسد فرس النهر. كما نجد صور بعض آلهة الفراعنة كأنوبيس على اللوحات القبطية وإذا نظرنا إلى الأيقونات القبطية التى تزين الكنائس والأديرة الأثرية وتكمل دور الجداريات لاكتشفنا إلى أى مدى انتقلت ملامح الفن الفرعونى إلى الفن القبطى ..ففى تلك اللوحات التى رسم فيها الفنان ملامح القديسين والشهداء سنجد الكثير من زخارف الفن المصرى القديم كاستخدام علامة «عنخ» أو مفتاح الحياة التى كانت بداية رسم الصليب . والسمكة التى كانت رمز الخصوبة عند المصرى القديم نسبة إلى السمكة التى لقمت العضو الذكرى لأوزوريس . وبعد الفتح العربى يحدث تبادل بين الفنان المسلم ونظيره القبطى فى الفنون فدخلت على الأيقونة الكتابة العربية مثل «عوض يا رب عبدك» . ونقل الفنان القبطى إلى الأيقونة بعض الزخارف الإسلامية مثل شجرة السرو وهى وحدة زخرفيه ظهرت فى الفن العثمانى . كما رسم الفنان القبطى بعض القديسين وهم يرتدون العمامة . سفينة تشق بحرا ليس به ماء ..أو طائرة تحلق فى سماء جدار ...وجمل تجمدت خطواته فى مكانه ..إنها تلك الخطوط البسيطة التى خطها فنان شعبى احتفالا برحلة العمر المباركة إلى الأراضى المقدسة ..خطوط بسيطة على واجهة بيت رجل بسيط جمع القرش مع القرش كى يحج إلى بيت الله الحرام وسجل فرحته على جدار البيت متمنيا أن يكون « حجا مبرورا وذنبا مغفورا»..إنها جداريات الحج السجل المرئى الذى يعكس تقديس الفن الشعبى لهذه الفريضة العظيمة . هكذا اعتاد الأهالى فى البيئات الشعبية فى القرى والمدن تزيين منازل الحجيج قبل عودتهم من الحجاز فتطلى البيوت من الداخل والخارج وتصبغ البواب والنوافذ أما الواجهات فهى مزينة بالكتابات الجدارية التى قد يقوم بها فنانون محترفون أو هواة من أقارب الحاج كنوع من المجاملة الأسرية ..ظاهرة لفتت أنظار الباحثين ومن بينهم الباحثة الأمريكية آن باركر التى قامت بجمع عدد من رسوم رحلة الحج على بيوت المصريين وآن باركر مصورة أمريكية حاصلة على ليسانس التصميم الجرافيكى من جامعة ييل الأمريكية وقد جمعت آن 34 صورة ملونة ..وعنها قالت آن « بالرغم من أن هؤلاء الفنانين لم يحصلوا على أى تعليم فنى أكاديمى ولم يطلعوا على المدارس المختلفة للفنون التشكيلية. بالتأكيد كانت عادة تسجيل الحكم والمواعظ على هياكل السيارات موجودة من قبل ظهور التوك توك فقد كانت على سيارات النقل والميكروباص ثم الأجرة وهى التى أطلق عليها عالم الاجتماع الفذ سيد عويس المصطلح الشهير « هتاف الصامتين « وذلك منذ أربعين عاما لأنها ليست مجرد عبارات للزينة بل هى خلاصة فلسفة شعب ورأيه المخنوق الذى قد لا يستطيع التعبير عنه عبر وسائط أخرى ..هى خلاصة فلسفته عن الخير والشر ..وفى كل الأحوال تأتى هذه الشعارات عجينا من العبقرية وخفة الدم أما العبقرية فهى كائنة فى جين حضارى ممتد إلى سبعة آلف سنة وأما عن خفة الدم فربما كان سببها الزيت الحار العايم على وش طبق الفول والذى يزود المخ بمادة التربوفان المسببة للسعادة كما قالت إحدى الدراسات . أو ربما كانت بسبب جين وراثى يجعلهم يضحكون فى عز المآسى حتى لا يموت الواحد منهم من الغم وينقهر فالنتيجة سواء .على جدران التوك توك عبارات تستعيذ بالله من شر الحسد - العين صابتنى ورب العرش نجانى - طلبنا من ربنا وادانا وعين الناس مش سايبانا - عين العبد غدارة وعين الرب ستارة ولأن المصرى مؤمن متدين بالفطرة منذ كان يعبد آمون ورع حتى اهتدى إلى عبادة الخالق فهو مؤمن بالقضاء والقدر وبالقدرة الإلهية فتجد عبارات مثل : - فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين - يا رب سترك - الستار موجود - توكلت على الله - أما المواعظ المصرية عن الحياة اليومية المعاشة فما أكثرها: - تحت الوش كدب وغش - الغيرة حيرة خليك كدة على نار وقد اهتم الكاتب كمال سليم عوض بالظاهرة وسجلها فى كتابه « مكتوب على جدران التوك توك « الذى ظهر بعد أربعين عاما من ظهور كتاب د. سيد عويس وإن كان الأخير قد ظهر ولم يكن التوك توك قد وجد بعد فقد درس الظاهرة على سيارات النقل والميكروباص فحسب. «من يتعاون مع الاحتلال يستحق الموت» إنها الجملة الاولى التى كتبها فنان الخط العربى مسعد خضير البورسيعدى على حوائط المدينة المنكوبة بورسعيد ابان العدوان الثلاثى ليبدأ رحلته مع الخط العربى ولم يكن وحده الذى مارس المقاومة على الجدران التى امتلأت بها الشوارع منذ ثورة 1919 وظلت مستمرة بعدها وكادت تختفى فى عهد مبارك لولا اجتهادات بسيطة من بعض الفنانين. فعلها طه قرنى فى جداريته « سوق الجمعة « التى استدعى بعدها للتحقيق فى أمن الدولة لأنه صور مصر المقهورة المظلومة قبل أن يضع بعدها جدارية المولد ثم جدارية الثورة . ..و كان هانى راشد شأنه كشأن الفنانين من كل حدب أحد الذين شجعتهم الثورة على النزول إلى الميادين .فى التحرير نظم ورشا لرسوم الأطفال مع الفنان محمد عبلة كى يرسم الأطفال لوحات عن الثورة كما يرونها ..