بالإضافة لقيمتها الدينية كونها الفريضة الخامسة في الإسلام، والتي ارتبطت بالاستطاعة المالية والبدنية بالدرجة الأولى، فإن لفريضة الحج مكانة اجتماعية كبيرة لدى أهل الصعيد في جنوب مصر، وهي المكانة التي تجعل لقب “حاج” من الألقاب المحببة جدا إلى الصعايدة، فضلا عن أن الحلم بأداء الفريضة وزيارة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، واستحقاق شفاعته يوم القيامة هو حلم كل فرد من المسلمين. ولأن أداء الصعيدي لفريضة الحج هو حدث مهم في حياته حرص الصعايدة على توثيقه بصورة احتفالية كبيرة، تجسدها “جداريات الحج” على جدران البيوت. و”جداريات الحج” تسجيل لرحلة روحية مقدسة، عبر الزمان والمكان، وهي من أكثر دلالات التعبير الفطري في الإبداع الفني الشعبي بمصر، وتتميز بخصوصية نابعة من تراث إبداعي، وتقاليد تضرب بجذورها إلى عصور سحيقة، حيث تزخر جدران المعابد والمقابر بمدونات ورسومات ونقوش رائعة تسجل جوانب من تاريخ مصر القديمة، من انتصارات حربية واحتفالات قومية، وتفاصيل من الحياة اليومية. ثراء جمالي: وتتركز روائع “جداريات الحج” في مصر في مناطق النوبة والصعيد والواحات، ويرجع معظمها إلى القرن الثامن عشر، وهي غنية بالعناصر الفنية كالنخيل والسفن والجمال والأسود، أما تلك التي يعود تاريخها إلى أواسط القرن الماضي، ورسمت على الجدران، فكانت عبارة عن أشكال نباتية، وصور لمساجد ومآذن وكتابات ترحيبية بالحجاج، ووسائل نقلهم، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، والطائرات والطيور، والخيل، والكف، والرموز العربية والفرعونية، والزهور، والمسجدين: الحرام والنبوي، ويقوم برسم هذه الجداريات أصدقاء الحجاج، أو رسامون يصوّرونها لقاء أجر. وتعد الجداريات أبرز تعبير للوجدان الشعبي عن مراحل رحلة الحج المقدسة بالصورة، وهي بسيطة ملهمة، تمتزج فيها الصورة بالكتابة، سواء كانت من آي القرآن الكريم، أو الحديث النبوي الشريف، أو الأقوال المأثورة والأدعية المرتبطة بالحج أو غيرها. وفي دراسته عن “جداريات الحج” يقسم الباحث أشرف محمد كحلة هذه الجداريات إلى وحدات مصورة مثل: “صورة الكعبة”، أو “قبر النبي”، أو “غار حراء”، أو وسائل الرحلة كالجمل والسفينة والطائرة.. والكتابات بأشكالها المختلفة. موسم فني: وفيما كانت أعواد الغاب ذات الأطراف المبرية، والفراجين الصغيرة المصنوعة من ليف النخيل، وأقداح الماء، ولوحات مزج الألوان المصنوعة من الأصداف، أو قطع الفخار، هي عدة المصور المصري القديم للتصوير على الجدران بالأصباغ المذابة في الغراء وزلال البيض، فعلى خطى أجدادهم الفراعنة، ينشط عدد كبير من الفنانين التلقائيين المصريين في رسم “جداريات الحج” تخليدا لذكرى أدائهم لمناسك الفريضة التي تتميز بطابع خاص في صعيد مصر، والتي تكون موسما لازدهار سوق الرسامين والخطاطين والمغنين الشعبيين، حيث تستعين أسرة الحاج أو الحاجة قبل أيام من عودتهم من الأراضي المقدسة برسام يصور على جدران المنزل وواجهته ذلك الحاج أو الحاجة خلال أداء الشعائر والطواف حول الكعبة والصلاة في الروضة النبوية الشريفة، أو أثناء الصعود إلى الباخرة أو الطائرة والهبوط منها. ولا تكاد أدوات الفنان الشعبي المعاصر لرسم تلك الجداريات تختلف كثيرا عن مثيلتها التي استخدمها الفراعنة القدماء، في تسجيل مفردات وتفاصيل الحياة اليومية على الجدران. وعادة ما يقوم المُبَيض من يقوم بعملية طلاء الحوائط بتلك الرسوم الجدارية والكتابات في القرى، أو البعض من أهالي الحاج وأصدقائه ممن تتوفر لديهم القدرة أو الموهبة في الرسوم والتلوين، وربما لا يتوفر واحد من هؤلاء فيأتون بخطاط المنطقة الذي يحترف هذا العمل إلى جانب أعمال أخرى، أو خطاط من المدن المجاورة ويتقاضى عن ذلك أجراً. إبداع شعبي: وإلى جوار فنون الجداريات الفرعونية فإن هذه الأعمال الفنية الشعبية تأثرت بفن المنمنمات واحتوت على الخطوط الإسلامية المختلفة، بالإضافة إلى استعارتها لبعض الرموز والوحدات الزخرفية المصرية القديمة التي استخدمت في الكتابات وسطرت بها الحضارة المصرية على جدران المعابد.. ويقتصر رسم الفنان على خط رفيع منمق دون الدخول في مساحات عريضة أو ملونة. كانت “جداريات الحج” في بدايتها عبارة عن كتابات بخط بارز تعلن عن أداء صاحب البيت لفريضة الحج، ثم تطور الأمر إلى أن أصبح فنا وظاهرة شعبية تلفت أنظار الباحثين الأجانب أمثال آن باركر وأفون نيل اللذين أصدرا كتابا وثائقيا حول تسجيل للعشرات من “جداريات الحج” في صعيد مصر، وكان المستشرق البريطاني الأشهر إدوارد لين، الذي اكتسب معرفة أكبر بالمصريين ونظرة أعمق وأشمل عن تقاليدهم المتوارثة وتفاصيل حياتهم اليومية، خلال عودته الثانية إلى القاهرة في الفترة 1833 1835م هو أول من سلط الضوء على تلك الجداريات وعلى طقوس الاحتفال بمناسبة الحج، وذلك بعد أن تزيا بالزي الشرقي، واختلط بالمسلمين في المساجد والأسواق والحارات، وعن تلك الجداريات قال: “.. ويزين المصريون مدخل منزل العائد من الحج قبل نحو ثلاثة أيام من وصوله، فيلوّنون الباب والحجارة باللونين الأحمر والأبيض، وتزين أحيانًا الجمال باللون الأخضر أو الأسود أو الأحمر أو غيرها من الألوان بطريقة بدائية، ويوجه الحاج كتابًا مسبقًا إلى ذويه يطلب منهم إعداد مثل هذه الترتيبات، ويقيم الحاج في الليلة التالية لوصوله حفلة لأصدقائه تعرف ب (حفلة النزلة)، ويتدفق الضيوف عليه مهنئين، مرحبين بعودته، ويبقى في منزله عادة أسبوعًا كاملاً بعد عودته، ويقيم في اليوم السابع حفلة أخرى لأصحابه تعرف ب (حفلة السبوع)، وتستمر الحفلة طوال النهار والليلة التالية، وتنتهي بختمة أو ذكر في المساء”. مضمون متشابه: ومن أهم الرسوم المتعلقة بالحج صورتا الكعبة، والمحمل، فالأولى رسمت على شكل مربع أسود، تحيط بها المساجد والحجاج، مزيّنة بالزخارف والآيات القرآنية، والثانية رسم على شكل مستطيل وهرمي، محمولاً على ظهر جمل، ترافقه البيارق والسناجق، مزخرفًا بالألوان والأشكال، ومزينًا بالكتابات الجميلة مثل “ماشاء الله”، “يا حافظ”، وغيرها. ويبدأ فنانو “جداريات الحج” في تنفيذ لوحاتهم بإعداد الجدران والواجهات لذلك بتجديد “محارتها” ووضع طبقة من “الطين” أو الجبس والأسمنت عليها، وفور أن تجف يبدأ الرسم من خيال الفنان أحيانا، وأحيانا أخرى حسب رغبات أصحاب المنزل، ويتداخل خيال بعض الفنانين مع واقعية فنانين آخرين فيصنعون سويا لوحات ذات طابع فني شعبي غير مسبوق، وعلى الرغم من أن كل فنان من هؤلاء الفنانين له خطوطه وطابعه الفني الخاص إلا أنه يبدو للناظر للوحات و”جداريات الحج” في الصعيد أن الذي رسمها وخطها هو شخص واحد، وذلك يرجع إلى تشابه مضمون هذه الرسومات واستخدام ذات الألوان وذات التكنيك والتصميم على الأغلب في تنفيذها، وبرغم من أن جداريات الحج سريعة الزوال إلا أنها لا تزال تقاوم الاندثار. جماليات بسيطة: ولعل بعد الفنانين الفطريين عن الأساليب الأكاديمية في التصوير، سواء من حيث تحديد المنظور أو إخضاع عملهم لقواعد التعبير الفني الكلاسيكي، جعل عملهم هذا يقدم رؤية فنية خاصة ذات مساحات ملونة بألوان طبيعية خام، بغير تعقيدات في تركيباتها، وكذلك تصوير الأشكال الإنسانية والطبيعية بشكل تعبيري وكاريكاتيري أحيانًا، وكلها في النهاية تعطي شكلاً خاصاً له دلالته الفنية المميزة لهذه الرسومات الجدارية. وتظل “جداريات الحج” دعوة جميلة لإعادة النظر فيما تتضمنه الحياة المصرية من جماليات بسيطة شائعة، تعبر في صدق عن إدراك الإنسان للجمال والقدرة على التعبير عن هذا الجمال بشكل فطري وعن رؤيته وخيالاته ومعتقداته في إبداعات فنية بسيطة لها مذاق خاص، الأمر الذي دفع بالبعض من فناني تلك الجداريات إلى الدعوة إلى مشروع وطني مصري لتسجيل وتوثيق جداريات الحج ورسوماته المعرضة للزوال، ودراستها كظاهرة فنية شعبية وتقديم الدعم والرعاية الفنية لفناني جداريات ورسوم الحج.