البيروقراطية نمطية, تحكمها لوائح, هامش المرونة فيها محدود. السياسة, علي العكس, ديناميكية, متغيرة. البيروقراطية تنفذ, ولكن السياسة تصنع. هنا يظهر الفرق بين المسارين البيروقراطي والسياسي. ويعد البرلمان مكان التفاعل الأساسي للقوي السياسية. بدونه تصبح لافتات بلا مضمون, أو مقار بلا تأثير. في عهد مبارك كنا نتحدث عن صحف تصدر أحزابا وليس العكس, اليوم مع تراجع ظاهرة الصحافة الحزبية, يدور السؤال حول وجود الأحزاب ذاتها. يغلب علي السياسة الآن أمراض البيروقراطية: النقل وليس العقل, غياب الابتكار, عدم وجود بدائل سياسية يجري التنافس حولها. باختصار غياب ما يطلق عليه الساسة الأيديولوجيا- الحد الأدني من الأفكار والمشاعر والاتجاهات التي تجعل حزبا سياسيا مختلفا عن حزب سياسي آخر, أو تحالفا سياسيا متمايزا عن تحالف آخر. لا تعني الايديولوجيا الجمود, وليست مرادفا للتعصب الفكري, لكن القليل منها يرسم الحدود الفاصلة, ويضع العلامات المميزة علي الطريق السياسي. ما السبب الذي يجعل ناخبا يفضل هذا عن ذاك؟ أو يفاضل بين حزب وآخر؟ أليست الأفكار والسياسات التي لا تزال غير معلنة, والتحالفات تبني علي أسس مصلحية بحتة, يجعلها تجمع بين طياتها ألوانا سياسية غير متجانسة؟ من علامات البيروقراطية السياسية السائدة إضفاء طابع وظيفي علي الفئات التي أراد دستور2014 م تمثيلها علي نحو ملائم: المرأة, الأقباط, الشباب, ذوي الاحتياجات الخاصة. في ظل غياب الأفكار والسياسات, والاختيار علي أساس التحيزات الفكرية, يصبح الكل متساويا, بلا تمايز أو معني مفهوم. المهم أن تكون امرأة, أو قبطي أو شاب, أو ذوي احتياجات خاصة, ويا حبذا لو توفر شخص يجمع بين طياته بعضا من هذه الصفات- أو الوظائف- بحيث يكون اختياره مثاليا, يضرب عدة عصافير بحجر واحد. المعني المراد من تمثيل هذه الفئات, كما يفهمه المنطق السياسي, أن يتوزع هؤلاء علي أحزاب أو قوائم حزبية حسب توجهاتهم الفكرية, بحيث يكون التنافس علي أساس سياسي في المقام الأول. فقد أراد المشرع الدستوري أن يرفع نسبة تمثيلهم في المجلس المنتخب, لا أن يحولهم إلي أصحاب وظائف بيروقراطية يستعان بهم لملء فراغ أو سد خانة أو استيفاء متطلبات يفرضها قانون الانتخاب. لن يفيد هذا المنطق تمثيلهم في المستقبل, والسبب أن ترشيحهم يأتي عبر قنوات غير سياسية, لا يؤدي إلي تحولهم إلي جزء أصيل من نسيج الحياة السياسية, بما يسمح بعد ذلك بانتخابهم بشكل طبيعي, وتلقائي, حسب مواقفهم السياسية, وليس انتماءاتهم الأولية. ومن علامات بيروقراطية السياسة أن الشخص يحل محل البرنامج. مقولة أن الانتخابات شخصية التي تتردد علي مسامعنا كثيرا, هو بالضبط الاعتراف الصريح بأن التجمعات السياسية لا تحمل برنامجا أو رؤية أو بدائل سياسات تطرحها علي مستوي الشارع لتعبئة الجماهير, وتسليم واضح بأن الحشد الديني, وتوظيف الثروة, والركون إلي العصبية هي أدوات حسم المعركة الانتخابية. تراجع مذهل في السياسة المصرية, له اسبابه لا يتسع لها المقام الآن, بعد أن كان الناخب المصري يردد لو رشح الوفد حجرا لانتخبناه, اليوم لا أحد يعرف أحزابا أو قوي سياسية يعرف شخوصا ينتخبها. هل بعد أربعة أعوام من ثورة25 يناير, التي قامت علي حكم الفرد, يصبح الفرد عنوان الاختيار في الانتخابات؟ هل يمكن بعد أعوام من ثورة رفعت شعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية, نعود إلي توقير الأساليب القديمة المال والعصبية والعزوة, وكأنه تسليم بأن السياسة بالمعني الحديث التنافسي لن تستقر علي بر مصر في الوقت القريب. لهذه الأسباب, وغيرها, ليس علي البرلمان طلب شعبي. البرلمان مغلق في السياسة المصرية منذ يونيو2012 م, أو علي أحسن تقدير منذ يوليو2013 م إذا أخذنا في الاعتبار تجربة مجلس الشوري, وبالرغم من ذلك لم تحدث احتجاجات جماهيرية تطالب بعودة البرلمان عنوان السيادة الشعبية. العكس هو الصحيح. هناك من روج في الشهور الماضية لمقولة دع الحكومة تعمل, وذلك علي اعتبار أن البرلمان معوق لعملها, وهناك من القوي الثورية ما يزال مفتونا بشرعية الميدان, وهناك من يطعن في أهلية الأحزاب السياسية في تشكيل المؤسسة التشريعية التي أناط بها الدستور صلاحيات معتبرة. المطالبون بوجود برلمان هم القوي السياسية التي تريد أن يكون لها نصيب في السلطة, وتتصارع من أجل ذلك, والراغبون في استكمال الخطوة الثالثة من خارطة الطريق التي أعلنت في3 يوليو2013 م, وكذلك أطراف دولية تري أهمية وجود برلمان حتي يتسني تقديم دعم اقتصادي للبلاد في هذه المرحلة. عودة البرلمان أصبح فرضا واجبا, لم تنشغل به الجماهير قدر انشغال الساسة به, لكنها سوف تتابع أداءه التشريعي والرقابي, الذي أعتقد أنه لن يخرج عن الحالة البيروقراطية التي ضربت الحياة السياسية. فالبرلمان, في نهاية المطاف, هو انعكاس للمجتمع السياسي, بكل تفاعلاته وعيوبه, وهو ما يجعل السلطة التنفيذية هي الأقوي, والأكثر قدرة علي المبادرة في مواجهة برلمان يمتلك صلاحيات دستورية, لكنه محدود الفعلية لأنه لن يتشكل علي أسس سياسية أو يعكس تفضيلات حزبية أو يستند إلي أغلبية شعبية. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى