أحد أهم ظواهر الانتخابات البرلمانية الراهنة أن أحزاب المعارضة التقليدية لم تتمكن من الحصول علي نصيب يذكر من مقاعد مجلس الشعب. وبالطبع فلا يزال من المبكر التوصل الي تقدير دقيق لعدد المقاعد التي قد تحصل عليها أحزاب المعارضة التقليدية مجتمعة. ولكن لا يبدو من الشواهد المتاحة أنها ستتمكن من " اثبات الحضور " بقوة ضاربة كبيرة في البرلمان المقبل بعد أن ينقشع غبار المعركة الانتخابية الحالية. يتساءل الكثيرون لماذا فشلت أحزاب المعارضة في هذه الانتخابات؟ في تقديري أن أوان طرح هذا السؤال فات منذ عقد ونصف من الزمن علي الأقل، ولا يجوز لعالم أو دارس لعلوم المجتمع أن يطرحه الا اذا كان شابا غضا يهفو لمعرفة كيف بدأت الرواية كما مر بها الكبار. والسؤال الذي يعيش وقته وميعاده الان هو: كيف عاشت أحزاب المعارضة كل هذا الوقت دون أن تختفي كلية؟ أسباب تاكل الأحزاب التقليدية كثيرة وتتنوع بين أسباب انتخابية وأخري سياسية أكثر شمولا. الأسباب السياسية تتركز في حقيقة أن الايمان بالتعددية الحزبية لم يتوفر أبدا، وأن المطلوب من جانب جهاز الدولة كان مظهر التعدد الحزبي لا حقيقته، وشرعيته الشكلية وليس ما يقود اليه من تداول للسلطة ومباراة مثرية بين الأفكار والبرامج. ومن الطريف أن بعض الكتاب ينتقدون أحزاب المعارضة لأنها لم تقاطع العملية الانتخابية بعد رفض الأخذ بضمانات أساسية لنزاهة الانتخابات، وأن بعض الكتاب ينتقدون أحزاب المعارضة لأنها حرمت نفسها من فرصه التراكم عندما قاطعت انتخابات 1990 و1995. والطريف ايضا أن بعض الكتاب بدأوا " يشفقون " علي أحزاب المعارضة لأنها لم ولن تستطيع الحصول علي " تمثيل برلماني مؤثر " . وبينما يطالبها البعض باصلاح نفسها من الداخل فالبعض الأخر يريد من الدولة أن تساعدها! ولكن الفريقان تجاهلا تاريخ الحياة السياسية والتاريخ الانتخابي في مصر وكأنهما لم يشهداه مثلما شاهده حتي الدارسون الأجانب. كان علي أحزاب المعارضة أن تخوض انتخابات برلمانية شاقة في ظروف سياسية صعبة بل ومتربصة، دون أن يكون لديها فرصة حقيقية في الفوز ولو " بتمثيل مشرف " ، نتيجة لأسباب تخص الانتخابات بذاتها. فأحزاب المعارضة لم يكن لديها في أي وقت القدرة علي انتاج ما تطلبه الانتخابات العامة والبرلمانية بصورة خاصة، حتي علي المستوي الشعبي. فهي انتخابات لاسياسية ولا تطلب أفكارا أو برامج عمل. وما يؤثر فيها ويحكم أصوات الناخبين هي قوي اساسية أربعة وهي: المنافسة بين العصبيات والولاءات الميكانيكية الأخري حول المكانة عموما ومقاعد البرلمان خصوصا، والقدرة علي تقديم خدمات شخصية وجماعية- وكلا القوتان محكومتان كما هو معروف بموقف جهاز الدولة، والعلاقة مع المتصرفين بجهاز الدولة- والمال الذي يشتري الأصوات ويعد أيضا مفتاحا للخدمات، وأخيرا الدعاية الدينية. ومن المنطقي أن يكون حظ أحزاب المعارضة من هذه الموارد الانتخابية قليل وهو بكل تأكيد لا يكفي لضمان الحصول علي " تمثيل مشرف " في البرلمان. ومنذ عام 1984تبلور النمط الأساسي للانتخابات البرلمانية بصورة جامدة في منافسة ثنائية بين تيار الاسلام السياسي والحزب الذي تسانده الدولة. ولم تشذ انتخابات هذا العام عن هذا النمط التاريخي كثيرا. فلم يكن انجاز حركة الأخوان المسلمين الانتخابي عام 1987أقل مما يتوقع لها تحقيقه في الانتخابات الحالية. بل يمكن القول بثقة بأنه ان لم يزد عدد المقاعد التي حققهتها حركة الأخوان المسلمين في هذه الانتخابات عما حققته عام 1987بالتحالف مع حزب العمل، فان الحركة تكون قد تراجعت انتخابيا وربما سياسيا. فانتخابات هذا العام رغم كل ما يقال أكثر نزاهة أو أقل من حيث قوة التدخل الاداري عن انتخابات عام 1987. وبهذا المعني ربما تكون انتخابات هذا العام قد عكست نتائج التطور في الحياة السياسية والاجتماعية علي المعارضة عموما بدرجة أقل سلبية مما وقع لحركة الأخوان المسلمين. ومن المحتمل أن تشهد المرحلة الثانية والثالثة من انتخابات هذا العام بعض التعديل في التناسب بين القوي الانتخابية بين أحزاب المعارضة التقليدية وحركة الأخوان المسلمين. غير أن من يقارن بين أداء الطرفين الانتخابي لا يبدو أنه عاش في هذه المنطقة من العالم منذ منتصف السبعينات. اذ أن الصعود الصاروخي لحركة الاسلام السياسي قد تم علي حساب كل الايديولوجيات والقوي السياسية الأخري، لأسباب أفاض كثير من العلماء في شرحها. وظهر واضحا من نتائج الانتخابات العامة منذ عام 1976أنه لا أمل لأحزاب المعارضة في أن تستقطب عددا يذكر من الكوادر القادرة علي الفوز في الانتخابات العامة حتي لو كانت تؤمن فعلا ببرامج وأفكار هذه الأحزاب. فالاتجاه الرئيسي للتطور السياسي في المنطقة كلها وفي مصر خاصة كان هو احتكار الحركة الاسلامية السياسية لساحة المعارضة الفعالة. وكان من الطبيعي لذلك أن تقتحم الأجيال الشابة مجال السياسة الصعب من بوابة الحركة الاسلامية السياسية. أما الأحزاب التقليدية فقد حرمت من حماس هذه الأجيال. أن أبسط الناس في مصر يعرف هذه الحقائق عن ظهر قلب، ولذلك يصبح من باب العجب أن يبدأ بعض الكتاب في السخرية من أحزاب المعارضة أو الشماتة فيها بمناسبة النتائج الهزيلة التي حققتها في الانتخابات الراهنة. ولكن الصعوبات الخارجية التي واجهت أحزاب المعارضة ليست تفسيرا كاملا للانكماش الطويل الأجل الذي تعاني منه. فالصعوبات وأوجه الفشل الداخلي لا تقل أهمية. فغالبية أحزاب المعارضة شاركت النظام السياسي كله في تجميد الانتقال والاحلال الجيلي وهو ما قاد الي شيخوخة ملحوظة للقيادات. كما أن الافتقار الي الديموقراطية الداخلية أو حتي لقواعد واضحة للمساءلة والمحاسبة داخل الأحزاب أدي الي تكلسها ككيانات بيروقراطية بليدة أجبرت الأجيال الشابة علي هجرانها، بعد محاولات يائسة للاصلاح. غير أن العامل الأهم وراء الانكماش طويل المدي لأحزاب المعارضة هو أنها لم تتمكن من الارتباط بكتل اجتماعية كبيرة بل ولم تتمكن من التعبير عن خصوصيتها الايديولوجية عبر تبني الدفاع عن مصالح قوي اجتماعية كبري علي المستوي السياسي. فجميع القوي الاجتماعية وجدت التفاهم مع جهاز الدولة أفضل لأنه أقصر الطرق للدفاع عن مصالحها المباشرة. لقد استمر جهاز الدولة في " تمثيل " المصالح الكبري في المجتمع، عبر تعبيرات فكرية وايديولوجية متوازية ومختلطة، وهو ما يسمي في علم السياسة " الاحتوائية " : بمعني أن جهاز الدولة يحتوي ويمثل جميع المصالح الاجتماعية الكبري ولو عن طريق حزب حاكم اسميا كما هو الحال عندنا. وطالما أن الواقع السياسي والدستوري يؤكد الواحدية في التمثيل السياسي والاجتماعي فان المعارضة المنطقية لهذا النظام لا يمكن الا ان تكون واحدية بدورها: أي تقوم علي أيديولوجيا تنكر أو تهمل الدور المركزي للمصالح الاجتماعية المتناقضة وتروج لحل يتجاوز الطبقات الاجتماعية وتعدد المصالح الفكرية والسياسية المتباينة. وعبرت حركة الأخوان المسلمين عن هذه المعارضة، في الواقع، سواء عبر الاليات الانتخابية أو غيرها من الاليات السياسية والاجتماعية. فالواقع السياسي كله كان ولا يزال بعيدا عن الديموقراطية وعن الايمان بالتعددية. وكان المتوقع أن تندثر أحزاب المعارضة وتتوقف حياتها الشاقة طالما أن الرواية الافتراضية التي تبرر هذا الواقع الافتراضي لم تعد مقنعة ولا يقوم عليها دليل. فأحزاب المعارضة التقليدية لم ولن تحقق نتائج انتخابية تذكر في المستقبل القريب طالما استمرت نفس الترتيبات السياسية والدستورية التي تنأي بتلك الانتخابات عن السياسة. ويتفرع عن ذلك حتمية الأخذ بين أحد اختيارين: أما الانتقال الي ديموقراطية حقيقية تقوم علي تعددية فعلية وليست افتراضية وهو ما يستحيل انجازه بدون اصلاحات جوهرية للنظام السياسي والدستوري، واما أن نحيل أحزاب المعارضة الي المعاش بعد أن أدت دورها المطلوب في الايحاء بواقع افتراضي يعيشه عدد قليل من الناس داخل الخيمة الافتراضية نفسها. الاهرام