هل يمكن اصلاح التركيبة الحزبية التي عاشت معنا منذ عام1977 ؟ يلح علينا هذا السؤال ونحن مقبلون علي الانتخابات البرلمانية بعد اسابيع قليلة. فلا نحتاج الي عين سحرية لقراءة المستقبل القريب بقدر معقول من الدقة. فأداء أحزاب المعارضة كان أقل من ضعيف في الانتخابات الرئاسية التي جرت في7 مارس. وليس من المتوقع أن يتغير هذا الأداء في غضون هذه الفترة القصيرة. وحتي اذا جرت الانتخابات البرلمانية في حرية ونزاهة فلن تحصل الأحزاب الشرعية علي نسبة تذكر من مقاعد البرلمان المقبل, خاصة بعد أن فشلت محاولة بناء تحالف سياسي وانتخابي فيما بينها. هل تستطيع أحزاب المعارضة الرسمية أن تصلح نفسها بنفسها أصلا ؟ لنكن صرحاء مع أنفسنا: الفرصة ضعيفة للغاية. فالطريقة الوحيدة لاحياء واصلاح الحياة الحزبية في مصر هو التقدم السريع علي طريق اصلاح النظام السياسي والدستوري. فهزال وانخفاض مستوي- وتشوه- الحياة الحزبية هي نتيجة طبيعية للأوضاع السياسية والدستورية في البلاد. يعني ذلك أن المفتاح الممكن لاصلاح الحياة الحزبية هو التمكين للانتقال الديموقراطي عبر اصلاح سياسي ودستوري عميق, وليس عن طريق نداءات عقيمة. فالحزب لا يكون حزبا الا اذا كان قادرا علي المنافسة السلمية علي الحصول علي تفويض شعبي بالحكم, أو علي الأقل التأثير علي الحكم من خلال التأثير علي بقاء الحكومة أو فرصتها في الحصول علي موافقة البرلمان علي سياساتها وما تقترحه من تشريعات. وفي جميع الدول الديموقراطية, ثمة معيار واضح نسبيا لبقاء الزعامات الحزبية, وهو بكل بساطة أداؤها في الانتخابات العامة. وعادة ما يعني اصلاح الأحزاب من الداخل تغيير الزعامات والتوجهات الحزبية بمناسبة سوء الأداء في الانتخابات العامة, وهو مؤشر امين لأن الانتخابات العامة لا يتم تزويرها في الدول الديموقراطية. ولذلك فباستثناء الأحزاب الفاشية تعرف جميع الأحزاب الكبيرة في المجتمعات الديموقراطية طريقة ديموقراطية لانتخاب قياداتها وهيئاتها القيادية بصورة ديموقراطية وبمناسبة قرب موعد الانتخابات العامة, أو انعقادها بالفعل وظهور نتائجها بالفعل بما يسمح بالحكم علي أداء الزعامات والهيئات القيادية بصورة موضوعية. مستويات الإصلاح في الحالة المصرية لم تعمل آليات منهجية للاصلاح الداخلي للأحزاب نظرا لأن الدولة تبنت حزبا واحدا, ونظرت لبقية الأحزاب كخصوم, تحدد هي امكانية وحجم تمثيلها عن طريق سيطرتها التامة علي العملية الانتخابية ووفقا لمقبولية تصرفات وسياسات الزعامات القائمة, فتعطي هذا وتمنع عن ذاك بقدر ما ترضي عن هذه أو تلك من الزعامات. ورغم أن فرصة اصلاح الأحزاب من الداخل تبدو ضئيلة للغاية في غيبة اصلاح سياسي ودستوري عميق يؤسس للانتقال الديموقراطي, فليس أمامنا من سبيل سوي العمل بكل قوة علي دفع حركة الاصلاح الداخلي استعدادا لانجاز هذا الاصلاح. وثمة ثلاثة مستويات للاصلاح الداخلي للأحزاب الأول هو المستوي الفني, ونقصد به تحسين الأداء التنظيمي للاحزاب بصورة منهجية. فتمتع الأحزاب بقدرات كبيرة في المنافسة الانتخابية يتوقف الي حد ما علي تنوع بنيتها التنظيمية واحكامها وقدرتها علي انتاج بدائل للسياسات القائمة وترويج هذه البدائل بين الجماهير. وتختلف مدارس التنظيم تبعا للتقاليد التاريخية للأحزاب والايديولوجيات. غير أن جميع الأحزاب العصرية صارت تملك بنيات تخصصية غالبا ما تكون مشابهة لبنية الحكومة, ولو بقدر من المرونة, فتكون هناك أقسام متخصصة في الموضوعات الاقتصادية وقضايا التنمية البشرية من تعليم وصحة وثقافة وتدريب ورياضة وغيرها, والموضوعات النوعية ذات الصلة بادارة المرافق العامة الكبري, فضلا عن السياسة الخارجية. ويسهم هذا التخصص في تربية أجيال من الكوادر الحزبية التي تعرف هذه القضايا بدقة وقد تسمح لها حتي حكومة حزب منافس بالمشاركة في ادارة ملفات معينة في كل من هذه المجالات. ومن اللافت للنظر أن بعض أهم أحزاب المعارضة المصرية لم تطور بنية من هذا النوع. المستوي الثاني يتعلق بالتسلسل القيادي وأسلوب صنع القرار والحياة الداخلية للحزب عموما. ومن اللافت للنظر أن قليلا من الأحزاب المصرية يعرف فكرة الانتخاب من القاعدة للقمة. وبعضها أسس هيكله التنظيمي علي أساس تقليد تاريخي قديم لم يعد له ما يبرره, فلا يعرف أكثر من مستوي واحد للقيادة تحت مستوي الزعيم. وتقوم غالبية الأحزاب علي تمكين الزعيم من أن يحكم حزبه حكما مطلقا مشابها للحكم المطلق في الدولة ذاتها. وتحتاج كل الأحزاب المصرية الي ترقية هياكلها التنظيمية والي قدر معقول من الادارة أو القيادة الجماعية, والي تمكين المؤتمر العام أو الجمعيات العمومية من ممارسة وظيفة السلطة العليا سواء فيما يتعلق بوضع السياسات أو اختيار الهيئات القيادية بما في ذلك زعيم الحزب اختيارا حرا مباشرا. أما المستوي الثالث فيتعلق بالعمل الجماهيري. وهنا يبدو أن النموذج الذي ساد نظرية العمل الجماهيري في مصر هو أسلوب الخدمات الشخصية أو الخدمات العامة المباشرة والبسيطة. وقد فرض هذا النموذج نفسه لأن القاعدة الذهبية التي قامت عليها الانتخابات العامة في مصر هي قاعدة” الأصوات مقابل الخدمات”. والواقع أن هذا المفهوم يخلط تماما بين الأحزاب والجمعيات الأهلية. فمن الطبيعي أن يقوم نوع من الجميعات علي تقديم الخدمات مثل التوسط لتعيين ابناء الدائرة الانتخابية أو نقلهم من موقع الي أخر وتدبير فصول محو الأمية والتقوية, مرورا بالمشروعات البسيطة مثل فتح العيادات وعقد المسابقات الرياضية. وأخشي أن هذا هو ما يتجه اليه الداعون لاصلاح الأحزب من الداخل, أي تحويلها من منابر فكرية وايديولوجية في الواقع الي جمعيات أهلية. ان هذا الخلط يقود الي نتيجة أسوأ. فمهما توفرت الموارد للأحزاب فان تقديم الخدمات المباشرة سيكون دائما بيد الدولة والقطاع الرأسمالي. والأهم هو أن اسلوب تقديم الخدمات كاسلوب للوصول الي البرلمان يدمر مبدأ حكم القانون, حيث يفترض أن يتم تقديم الخدمات بناء علي قاعدة موضوعية وليس قاعدة الواسطة, كما أنه يدمر النائب البرلماني الذي يقضي وقته كله في المرور علي الوزارات والمرافق وينسي أو يتنازل بالضرورة عن مسئوليته التشريعية والرقابية. في المجتمعات الديموقراطية تقوم الجمعيات المدنية بتقديم الخدمات وفقا لمدارس مختلفة تتفق بشكل عام مع المدارس الفكرية التي نشأ عليها الأحزاب. ولذلك تستمد الأحزاب جزءا من قوتها من تاييد قطاعات مختلفة من المجتمع المدني. أما السياسة الجماهيرية فتقوم علي قاعدة مختلفة تماما وهي تنظيم القوي الجماهيرية المختلفة: مثل العمال والطلاب والفلاحين وأهالي الأحياء والقري والنساء وغيرهم, للنضال من أجل مصالحها السياسية والمدنية. وتقوم الأحزاب بهذا الدور من خلال هياكل أو اقسام ومنظمات نوعية تترجم فلسفة الحزب وقيمه السياسية. فالأحزاب في النهاية تعكس مصالح اجتماعية ما, وتمارس هذا الدور عبر ايديولوجيات محددة. أما أرقي السياسات الجماهيرية فهي تقوم علي الترويج للسياسات البديلة التي وضعتها بين الجماهير. ومن الواضح أن هذا المستوي هو عقدة العقد في الأداء السياسي والانتخابي للأحزاب المصرية, لأنه الأكثر صلة بالاصلاح الديموقراطي أو غيابه. وبوسع بعض الأحزاب المصرية أن تقوم باصلاحات اساسية في بنيتها التنظيمية في غضون مدي زمني قصير. ولكنها قد لا تستطيع وضع سياسة جماهيرية الا بعد انجاز اصلاحات دستورية وسياسية كبيرة تضمن الانتقال الديموقراطي. أما ما يجب علي جميع الأحزاب أن تقوم به علي الفور فهو تحقيق اصلاحات ديموقراطية في الحياة الداخلية والتسلسل القيادي. وربما تكون البداية السليمة لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة هو أن تقوم الأحزاب القادرة بعقد مؤتمراتها العامة علي وجه السرعة لوضع البرامج أو تجديدها وانتخاب الهيئات العليا التي تقودها خلال مرحلة الانتخابات. أما الأحزاب غير القادرة فلتفكر في الاندماج في الأحزاب الأقرب لها عقائديا وسياسيا. الاهرام