ثمة أمران إشكاليان يثيرهما قانون الانتخابات البرلمانية الصادر أخيرا، والذى تبنى نظام الانتخاب الفردى بنسبة 80 % مقابل20 % للقائمة المطلقة وليس النسبية. الأمر الأول يتعلق بإضعاف النظام الحزبى نتيجة لهيمنة طريقة الانتخاب الفردى، حيث اخترع نظام الانتخاب بالقائمة أصلا لتقوية الدور السياسى للأحزاب باعتبارها الوحدات الأساسية للتنافس على السلطة، وصولا إلى إمكان التشارك فيها أو تبادلها سلميا. هذا التنافس لا يمكن تصوره حقيقيا أو مجديا إلا بين أفكار ورؤى إيديولوجية، وبين توجهات تحتضنها تنظيمات سياسية، من دونها يتوقف الحوار المجتمعى، أو يتعثر، إذ لايُتصور قيام حوار فعال بين خمسمائة شخص مختلفى التوجه، فالأغلب أن يتبدى أعضاء البرلمان المنتخبون فرديا مثل رفاق رحلة إلى شاطئ واسع، يجلس كل منهم أو يتحدث مع الشخص الذى يروقه، فنصبح أمام مئات الدوائر المتقاطعة، وليس أمام صراعات الأفكار والرؤى المنظمة، تلك التى تدور بين كيانات محدودة معروف أولها وآخرها، على نحو يمكن معه تحقيق التوافق والانسجام بينها. تساق هنا حجج عدة لتبرير النظام الفردى: أولها يتعلق بمدى سهولته لعموم المصريين، وسابق معرفتهم به، ولكن إذا كان الأمر هو مجرد السهولة والاعتياد فلنبق أيضا على نظام الاستفتاء على الرئيس بدلا من انتخابه، لأنه كذلك مألوف. أما أكبر هذه الحجج فيتعلق بضعف الأحزاب، على نحو لا يجعلها فاعلة وقادرة على ممارسة دورها، وهى حجة بليدة ومضللة، تذكرنا بالفزورة العبثية حول البيضة والدجاجة، وأيهما تسبق الأخرى، فمن دون اعتماد نظام القائمة الحزبية، لن تصبح الأحزاب أبدا قوية، لأنها ستظل تراوح مكانها على الهامش، لمصلحة المكون الفردى حيث تسود الانتخابات نزعات قبلية وعشائرية، ويسيطر عليها المال السياسي. إن الأحزاب ضعيفة حقا، ولولا ذلك لما خطف الإخوان الحكم، غير أن الطريق الوحيد لتقويتها إنما هو تنصيبها فى موضع القلب من النظام السياسي، لتكون الجسر الوحيد لحيازة السلطة فيه، والممر إلى قيادة المعارضة البناءة له، على أن يبقى التمثيل الفردى ممكنا فقط فى حدود العشرة بالمائة، فالعضو الذى يستحق التمثيل كفرد مستقل يفترض فيه شروط أساسية سواء على صعيد المعرفة العلمية أو المهارة السياسية، أو قوة الشخصية، وبدرجة تكاد تجعل منه حزبا بذاته، وحتى إذا ما توافر هؤلاء فإنهم يمثلون، تقريبا، نسبة العشرة بالمائة، بينما يتوجب قصر المقاعد الباقية على القوائم الحزبية، حتى لا تتحول الأحزاب إلى مجرد ممر ضيق ومظلم للتمثيل البرلمانى، فمادام كان الترشح الفردى ممكنا ما الذى يغرى الناس إذن إلى الانضمام إلى أحزاب سياسية، ويدفعهم إلى تحمل مسئوليات تقتضيها تلك الكيانات الواقعية التى تحتاج إلى إنفاق كثير على مقارها وأنشطتها؟. وأما الأمر الثانى فيتعلق بنزعة الهيمنة والإقصاء، الكامنة فى القائمة المطلقة، لأن أى حزب أو تكتل يحصل على الأغلبية البسيطة (50 % + 1) من أصوات الدائرة الانتخابية صغرت أم كبرت، معناه أن يفوز بكل مقاعدها، أيا كان عددها، ويخرج الحزب أو التكتل الأقل نسبيا خالى الوفاض تماما من المقاعد ولو حصل على 45% من الأصوات على سبيل المثال. إنه نظام يجافى العقل والمنطق، فضلا عن كونه غير إيجابى، إذ يكرس لسيطرة الأقوى، وإقصاء الآخرين. والبادى أن العقلية الإقصائية التى أنتجت فكرة القائمة المطلقة، هى نفسها التى تروج لفكرة بناء ظهير سياسى للرئيس عبر صياغة تحالف ساحق لخوض الانتخابات البرلمانية، ينتج جبهة وطنية يحكم المشير بها ومن خلالها، حيث توالت الأخبار عن اجتماعات تنسيقية لرموز تلك الجبهة، وجميعهم من رجال الدولة السابقين، كما أن بعضهم يأتى من خلفية المؤسسات الأمنية المركزية فى النظام الذى سقط أمام جحافل 25 يناير، وأما القيادات الحزبية بينهم، فهى نفسها القيادات التى كانت استمرأت التعامل مع النظام السابق، ولعبت دورها التبريرى فى وجوده وحسب قواعده. إنها فكرة لا يمكن لها العمل إلا بقواعد الإدارة من أجل سد الفراغ الذى يولده غياب السياسة، وبروح بيروقراطيين يسعون إلى ملء الساحة المهجورة بغياب السياسيين. وبدلا من أن يكون رجلا بحجم حمدين صباحى هو رجل المعارضة الأول، باعتباره السياسى الأكثر لمعانا فى البلاد، والمنافس الرئاسى الوحيد للرئيس، كما توقع كثيرون، وكما يفترض المنطق السياسي، فلماذا لا يكون الوجه الثانى والثالث والرابع أيضا من رجال الدولة المعتمدين. وبدلا من الصخب السياسى الذى قد يمارسه المعارض الشرس، فإن عقلاء الدولة ورجالها، العارفين مصلحة الوطن، والمتفهمين ضرورات الأمن القومى جاهزون بطقوس التأييد والدعم والتمكين، من دون حوار أو اختلاف أو مشاحنات معطلة. وهكذا يمكننا القول بضمير مطمئن أن مصر تفتقد ليس فقط لنظام حزبى متوازن، تعددى وتنافسي، بل تفتقد فى العموم لنخبة سياسية جادة وواعية، قادرة على القيادة عبر الحوار والتفاوض والمساومة السياسية، على نحو يدفع إلى تمركز الحكم فى الأجهزة البيروقراطية أو العسكرية. كما يمكننا القول بضمير أكثر اطمئنانا أن صياغة نظام حزبى فعال يستلزم نظاما انتخابىا يقوم على القائمة النسبية بالأساس، إن لم يكن بالمطلق. وأن بناء نخبة سياسية مدنية حقيقية أمر يتعارض مع فكرة الجبهة الوطنية الواسعة التى تضم نقائض سياسية وفكرية، لا يمكن لها أن تجتمع معا إلا على قاعدة سلطوية، وفى المقابل فإن بناء هذا النظام الحزبى المتوازن، وتلك النخبة المدنية الجادة، يتطلب تحالفات حزبية تنهض على التوافق الأيديولوجى بين التيارت الفكرية والسياسية الأربعة الكبرى فى التاريخ المصرى وهى: الليبرالى، واليسارى، والقومى والإسلامى، والتى يمكن لها النهوض بمهام الحوار والتفاوض والتساوم، على نحو يعيد الاعتبار لمفهومى السياسة، والنخبة معا، ولو على نحو تدريجى. لمزيد من مقالات صلاح سالم