هذه الدوامة التي تدور حول مركزها بلا توقف, لن تؤدي إلي أي مخرج محدد, بل إنها وصفة مؤكدة للغرق.. نهج مدريد, أوسلو, ميتشل, تنت, خريطة طريق.. إلخ, هو نهج دائري ينتهي دائما حيثما ابتدأ, لأن هذا النهج يدور حول الحقائق الأساسية ويتفاداها, ويتعمد تسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية, فكلمة الانسحاب تستبدل بكلمة إعادة الانتشار, وكلمة الأراضي المحتلة تستبدل بكلمة المناطق أو الأراضي دون تعريف, وكلمة مستعمرات تستبدل بكلمة مستوطنات, مع الابتعاد عن القضايا الجوهرية مثل الحدود, والمستعمرات, والقدس, واللاجئين, أو ترحيلها إلي أمد تفاوضي غير منظور, وهذا نهج قد ثبت فشله, ولا يمكن أن يمثل قاعدة حقيقية لأي مائدة تفاوضية, قصاري ما يقدمه هو لغة غامضة بشكل متعمد, واشتراطات تختفي في شكل تعهدات تصير فيما بعد ألغاما لنسف القاعدة والمائدة ومن عليها, كي تبدأ الدوامة في الدوران مرة أخري, وهكذا دواليك.. وعلي أية حال ما هي سلطات السلطة الفلسطينية؟.. إن التحليل القانوني للمواثيق التي تم اعتمادها ونالت قدرا كبيرا من الاعتراف الدولي, يمكننا من أن نفترض بأن هذه السلطات يجب أن تكون مطابقة علي الأقل لسلطات الحكم الذاتي, علما بأن هذا الحكم يعتبره القانون الدولي تعبيرا مرادفا لحكم الشعب لنفسه, وهو نظام عرفه القانون الدولي في تطبيقات كثيرة. ويتصل اتصالا وثيقا بذلك حق لا يمكن التفريط فيه وهو تقرير المصير حيث إنه حق يمثل قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي المتصلة بالنظام العام الدولي, والتي لا يجوز الاتفاق علي مخالفتها إلا بقاعدة لها نفس الدرجة, بالإضافة إلي أن هذا الحق يمثل أحد حقوق الإنسان الأساسية التي أقرها ميثاق الأممالمتحدة( المادة55,2/1), وأقرتها الوثائق الدولية لحقوق الإنسان. ومن الملاحظات المهمة أن مصر وإسرائيل اتفقتا في كامب ديفيد(1978/9/17) علي حل المشكلة الفلسطينية عن طريق توفير حكم ذاتي كامل للضفة الغربية وقطاع غزة, وفي1979/3/26 تم توقيع اتفاق تكميلي لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في صورة خطاب بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة نص فيه علي أن الغرض من المفاوضات هو إقامة سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربيةوغزة من اجل تحقيق الاستقلال الذاتي الكامل للسكان, وقد نصت وثائق كامب ديفيد والخطاب المرفق بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية علي أن الحكم الذاتي المقترح هو إجراء انتقالي لمدة خمس سنوات تمهيدا للاستقلال الذاتي الكامل. إذن يمكن القول إن لدينا أساسا قانونيا واضحا لمفاوضات جادة ينبغي أن يكون هدفها الأساسي هو البناء علي هذا الأساس بطرح باقي القضايا المعلقة التي سبق الإشارة إليها, وهنا نؤكد ما سبق أن كتبناه منذ سنوات وهو أن التوليفة الكيسنجرية( نسبة إلي سياسة الخطوة خطوة التي اتبعها كيسنجر في المفاوضات المصرية/ الإسرائيلية) لا تصلح أبدا كتكنيك ناجح في المفاوضات الفلسطينية/ الإسرائيلية, لأنها في هذه الحالة لن تعني سوي تطبيق إستراتيجية القضمات( أو الخرشوفة) التي يتم من خلالها نزع كل الأوراق التفاوضية من الجانب الفلسطيني, وتعريته كي يسلم في النهاية للمخطط الإسرائيلي التفاوضي, وجزء من هذا التكنيك بالمناسبة يهدف إلي استنزاف أعصاب المفاوض العربي, ومحاولة تحقيق هدف مرحلي وهو الاقتتال الفلسطيني/ الفلسطيني الذي كنا علي حافته خلال الفترة السابقة.. المشكلة الحالية إذن ليست في استمرار رئاسة أبو مازن أو استقالته, ليست في حجة تنظيم قوات الأمن الفلسطينية, ليست في عناد السلطة الفلسطينية وهو عناد اختلقته الدعاية الإسرائيلية, فمن الثابت أن السلطة خلال السنوات الأخيرة, كانت منفتحة بشكل غير مسبوق علي أي حركة تحرر من حركات التحرر في العالم, بل كانت متهمة في أوساط كثيرة بأنها كانت متساهلة بأكثر من اللازم إلي درجة القبول بالتفاوض حول بعض الثوابت الفلسطينية والعربية والإسلامية مثل قضية القدس وقضية اللاجئين, وإعطاء بعض الإشارات الموحية بإمكان تقديم الكثير من التنازلات في هاتين القضيتين. المشكلة في رأيي تتمثل في هذا النهج التفاوضي المعيب, ولا أظن أن دهاة السياسة والقانون في واشنطن لا يدركون ذلك العيب الهيكلي, وأنه لن يؤدي كما حدث إلا إلي مزيد من الآمال المحبطة والدماء المهدرة علي كلا الجانبين معا, وربما لا يهتمون بإصلاح هذا العيب طالما الأطراف راضية به قانعة بالعيش في ظلاله, فلن يكونوا في النهاية ملكيين أكثر من الملك نفسه, وربما ومنذ صدمة الحادي عشر من سبتمبر قد وجدوا في هذا المسلك الدائري نوعا من مخففات الصدمة لمنطقة قرروا أن تكون مسرحا افتتاحيا لحربهم المعلنة ضد ما يسمي الإرهاب, من خلال إعادة تصديره للمنطقة وتحويلها إلي دويلات فاشلة متناحرة... ولكنني أشك في أن أي شخص جاد أو مخلص لقضية السلام يمكن أن يتصور أن ذلك النهج الأعرج سوف يقود إلي أي أمن أو سلام. إن القضية الأولي علي مائدة أي مفاوضات مقبلة يجب أن تكون وضع النقاط علي الحروف, وتحديدا وضع جدول زمني للانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة, يتواكب مع ذلك تشكيل هيئة دولية أو عربية مناسبة للإشراف علي الحكم الذاتي الفلسطيني, تتولي مسئولية الدفاع والشئون الخارجية والأمن الداخلي تحت إشراف الأممالمتحدة لفترة لا تزيد علي ثلاثة أعوام, مع تعهد الأطراف بالتعاون مع سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني خلال فترة الانتقال والعمل علي ترقية شئونه السياسية والاقتصادية وغيره أما إذا ظل الوضع علي ما هو عليه, فستظل تلك الدوامة في الدوران والاتساع ولا يعلم إلا الله أين ستحط حدود دائرتها النهائية, وما هو الثمن الذي سوف تدفعه شعوب المنطقة في هذه الدائرة الجهنمية. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق