جامعة أسيوط: نشرنا 2320 بحثا دوليا خلال 2023 أغلبها في مجلات المربع الذهبي (Q1 وQ2)    رئيس الوزراء يلتقي نقيب الصحفيين لمناقشة سبل تطوير ودعم مهنة الصحافة    محافظ كفر الشيخ يتفقد السوق الدائم بغرب العاصمة    وزير الرى: علينا تسخير طاقاتنا ومواردنا لتنمية المياه بأفريقيا بعد 2025    إي إف چي القابضة تشتري أسهم خزينة لدعم سعر سهمها في السوق    وزير السياحة: نستهدف زيادة الطاقة الفندقية في القاهرة إلى 60 ألف غرفة خلال 7 سنوات    رئيس مركز ومدينة الشيخ زويد يناقش مع مشايخ ووجهاء الشيخ زويد قانون التصالح    صعود الأسهم الأوروبية ومؤشر التكنولوجيا يقود مكاسب القطاعات    داخلية غزة: استشهاد مساعد قائد قوات الأمن الوطني جراء عملية للاحتلال    فيديو.. ابنة قاسم سليماني تقدم خاتم والدها ليدفن مع جثمان وزير الخارجية الإيراني    الجودو المصري يحجز مقعدين في أولمبياد باريس    كولر والشناوي يحضران المؤتمر الصحفي لمباراة الأهلي والترجي    تعليم الإسماعيلية تنهي استعداداتها لانطلاق امتحانات الدبلومات الفنية    إصابة مراقب بامتحانات الشهادة الإعدادية إثر تعدي آخرين عليه في الشرقية    تفريغ كاميرات المراقبة بواقعة العثور على مومياء في الشارع بأسوان    استعد لعيد الأضحى 2024: أروع عبارات التهنئة لتبادل الفرحة والمحبة    ما حكم سقوط الشعر خلال تمشيطه أثناء الحج؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    مدبولي يتابع موقف تنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل.. وموقف القطاع الصحي في حياة كريمة    التعليم ل طلاب الثانوية العامة: لا تغيير في كتيب المفاهيم هذا العام    «يرجح أنها أثرية».. العثور على مومياء في أحد شوارع أسوان    رئيس الوزراء يتابع موقف تنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل    موسم الحرب والغناء و303 على مسرح قصر روض الفرج.. الليلة    «اسم مميز».. تفاصيل برنامج إبراهيم فايق الجديد    زغلول صيام يكتب: من فضلكم ارفعوا إعلانات المراهنات من ملاعبنا لحماية الشباب والأطفال وسيبكم من فزاعة الفيفا والكاف!    حسين لبيب: اتحمل مسؤولية إخفاق ألعاب الصالات فى الزمالك    الأزهر للفتوى يوضح فضل حج بيت الله الحرام    محافظ أسيوط يوقع بروتوكول مع تنمية المشروعات لتطوير مدرستين ووحدة صحية    الأطباء تناشد السيسي بعدم التوقيع على قانون "تأجير المستشفيات": يهدد صحة المواطن واستقرار المنظومة    لحرق الدهون في الصيف.. جرب هذه الأكلات    أوستن يدعو وزير دفاع الاحتلال لإعادة فتح معبر رفح    تجديد حبس سائق ميكروباص معدية أبو غالب وعاملين بتهمة قتل 17 فتاة بالخطأ    ننشر حيثيات تغريم شيرين عبد الوهاب 5 آلاف جنيه بتهمة سب المنتج محمد الشاعر    أيام قليلة تفصلنا عن: موعد عطلة عيد الأضحى المبارك لعام 2024    تعاون بين الجايكا اليابانية وجهاز تنمية المشروعات في مجال الصناعة    التنمية المحلية: طرح إدارة وتشغيل عدد من مصانع تدوير المخلفات الصلبة للقطاع الخاص    وزير الدفاع: القوات المسلحة قادرة على مجابهة أى تحديات تفرض عليها    الكشف على 1021 حالة مجانًا في قافلة طبية بنجع حمادي    في عيد ميلاده.. رحلة «محمد رمضان» من البحث عن فرصة ل«نمبر وان»    6 أفلام في البلاتوهات استعدادًا لعرضهم خلال الصيف    مع عرض آخر حلقات «البيت بيتي 2».. نهاية مفتوحة وتوقعات بموسم ثالث    أكرم القصاص: لا يمكن الاستغناء عن دور مصر بأزمة غزة.. وشبكة CNN متواطئة    أتالانتا يجدد أمل روما.. وفرانكفورت يحلم بأبطال أوروبا    هل يجوز شرعا التضحية بالطيور.. دار الإفتاء تجيب    تريزيجيه: أنشيلوتي طلب التعاقد معي.. وهذه كواليس رسالة "أبوتريكة" قبل اعتزاله    الملك تشارلز يوافق على حل البرلمان استعدادا للانتخابات بطلب سوناك    رئيس وزراء أيرلندا: أوروبا تقف على الجانب الخطأ لاخفاقها فى وقف إراقة الدماء بغزة    تاج الدين: مصر لديها مراكز لتجميع البلازما بمواصفات عالمية    الرعاية الصحية تعلن نجاح اعتماد مستشفيي طابا وسانت كاترين بجنوب سيناء    «مش عيب والله يا كابتن».. شوبير يوجه رسالة لحسام حسن بشأن محمد صلاح    اشتراطات السلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل في ندوة بإعلام أسيوط    أمين الفتوى يوضح ما يجب فعله يوم عيد الأضحى    المراكز التكنولوجية بالشرقية تستقبل 9215 طلب تصالح على مخالفات البناء    السويد: سنمنح أوكرانيا 6.5 مليار يورو إضافية في صورة مساعدات عسكرية    تعليم القاهرة تعلن تفاصيل التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الأبتدائي للعام الدراسي المقبل    جوزيب بوريل يؤكد استئناف جميع الجهات المانحة بالاتحاد الأوروبي دعمها لوكالة الأونروا    الداخلية تضبط 484 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1356 رخصة خلال 24 ساعة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-5-2024    ل برج الجوزاء والميزان والدلو.. مفارقة كوكبية تؤثر على حظ الأبراج الهوائية في هذا التوقيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمامة حسدتها الطرابيش
نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 02 - 2015

كانت مقولته الدائمة لا وقت عندي لأن ابتدي وإنما عندي زمن لأن انتهي, ومن هنا فإن حياته العريضة بجميع أبعادها وأعماقها وارتفاعاتها وسموها التي لم تستغرق إلا ما بين عامي1849 حتي1905
ضمت العديد من أفكار وأحداث ومواقف ورؤي ووظائف وإصلاحات وفلسفات وثورات وصداقات وترجمات وتحديات وزنازين ومعتقلات وبلاد ومناهج وفتاوي وأحكام ومقاصد وقصائد وقوائد وشرائع ومناظرات ومقالات وتفسيرات وقوانين وتربية وتعليم.. قالها وكأنه كان علي علم بأن سنواته في الدنيا لن تستغرق سوي55 عاما.. قالها لأستاذ الفرنسية عندما أتاه يعلمه لغتها حاملا كتاب القواعد الجرامير ما عندي وقت لتعلم قواعدها: كانت سني وقتها أربعا وأربعين, ورغم إقامتي لأول مرة في فرنسا لمدة10 أشهر أحرر فيها جريدة العروة الوثقي لم أتعلم شيئا من الفرنساوية لانشغالي بالتحرير, أما بعد عودتي من المنفي لمدة3 سنوات إلي مصر واشتغالي بالقضاء في المحاكم الأهلية والحكم بها خصوصا في الجنايات علي أصول القوانين الفرنسية, وجلوسي بين قضاة يغلب عليهم العلم بتلك القوانين في لغتها, فقد قوي عندي الميل لتعلمها حتي لا أكون أضعف ممن أجلس معهم مجلس القضاء.. استبعدت كتاب الجرامير وناولت الأستاذ قصة من تأليف الكسندر دوماس وقلت له أنا أقرأ وأنت تصلح لي النطق وتفسر لي الكلم وماعدا ذلك فهو علي, والنحو يأتي أثناء العمل, وهكذا أتممت الكتاب وكتابا بعده وثالثا عقبه, وكنت أطالع وحدي بصوت مرتفع كلما وجدت البيت خاليا, وزادني تعلقا بتعلم لغة أوروبية وكان الإمام قد بدأ في تعلم الألمانية أيضا هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه علي شيء من العلم يمكنه به خدمة أمته ويقدر به علي الدفاع عن مصالحها كما ينبغي إلا إذا كان يعرف لغة أوروبية, كيف لا وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتبكة مع مصالح الأوروبيين في جميع أقطار الأرض فكيف يمكنه وهو لا يعرف لغتهم التعامل معهم أو أن يأمن شرهم..
محمد عبده حسن خير الله ابن قرية محلة نصر بمركز شبراخيت مديرية البحيرة.. ابن الأكابر الذي تمتلك عائلته أربعين فدانا إلي جانب استئجارها لعشرات أخري, والتي استطاعت تعليم صغيرها القراءة والكتابة وحفظ القرآن في السابعة داخل جدران البيت مع الكتاب والكرسي والقلم والمدرس الخصوصي والعقاب اللفظي وليس في الكتاب فوق الحصير مع اللوح الإردواز والفلقة وسيدنا.. الوالد سكنت هيبته قلبي وأذكر له قلة الكلام أمامي ووقار في الحركات والأعمال والهيئة, والتنزه عن مخالطة الصغار من الناس, ومشاهدتي أهل بلده يغالون في توقيرهم له, وانفراده بالطعام دون والدتي وإخواتي فإن ذلك كان آية العظمة عندنا فإنه ما كان يواكل نساءه وأولاده في تلك الأوقات إلا الفقراء.. كان أعظم رجل في الدنيا, فالدنيا عندي لم تكن أوسع من قرية محلة نصر وكان يمدني في اعتقادي هذا رؤيتي لبعض الحكام كمأمور المركز وحاكم الخط ينزلون عندنا ولا ينزلون في بيت العمدة مع أنه كان أوسع رزقا من والدي, ونما لدي بذلك الاعتقاد بأن الكرامة وعلو المنزلة لا يتعلقان بالثروة ووفرة المال.. الوالدة كانت منزلتها بين نساء القرية لا تقل عن مكانة والدي وكانت ترحم المساكين وتعد ذلك مجدا وطاعة لله وحمدا.. محمد.. حفيد الجد البعيد خير الله التركماني وشقيق زمزم التي رحلت قبل ولادته ومريم التي عاشت حتي تخرجه في الأزهر لينجب بدوره ثلاث بنات من زواجه في عام1282 ه ليوقظه والده في فجر اليوم الأربعين يلزمه بالذهاب إلي طنطا لطلب العلم وبعد احتجاج وتمنع وإباء لم أجد مندوحة عند إطاعة الأمر, ووجدت فرسا قد أحضر فركبته وأرسلني والدي مع أحد أقاربي وكان قوي البنية شديد البأس لشيعني إلي محطة إيتاي البارود لأركب منها القطار إلي طنطا, ولما كان اليوم شديد الحر والريح عاصفة ملتهبة سافياء تحصب الوجه بشبه الرمضاء, فلم أستطع الاستمرار في السير فقلت لصاحبي لابد من التعريج علي قرية لانتظار أن يخف الحر فأبي علي وتشدد, فأجريت الفرس هاربا إلي بلدة أخوال أبي كنيسة أورين وقد فرح بي شبانها لأنني معروف بالفروسية واللعب بالسلاح وأملوا أن أقيم معهم فترة للهو, وعندما أدركني صاحبي نصحته بالعودة بالفرس وإن شاء فليقل لوالدي إنني سافرت إلي طنطا, ومكثت ألهو مع الشباب15 يوما... ويلتقي محمد عبده هناك بأحد أخوال أبيه الشيخ درويش ليشكل ذلك اللقاء نقطة التحول الكبري في حياته, وكان الشيخ قد قام برحلات إلي ليبيا والتقي بأتباع الطريقة الشاذلية الصوفية وتأثر بالتعاليم السنوسية فاستطاع بطريقة سلسة أن يعيد الشاب مرة أخري إلي الدراسة والعلم ولقنه دروسا في الصوفية وكنت أسأله ما هي طريقتكم؟ فقال طريقتنا الإسلام, فقلت: أوليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال لي: لو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنابذون علي التافه من الأمور, وما كانوا يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب, وكأن هذه الكلمات كانت نارا أحرقت جميع ما عندي من المتاع القديم, متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون, وسألته ما وردكم الذي يتلي في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال لا ورد لنا إلا القرآن نقرأه مع الفهم والتدبر, فقلت أني لي أن أفهم القرآن رغم حفظه ولم أتعلم شيئا؟ قال: يكفيك أن تفهم الجملة وببركتها يفيض الله عليك التفضيل, وإذا خلوت فاذكر الله علي طريقة شرحها لي وأخذت أعمل علي ما قال فلم تمض بضعة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالم غير الذي كنت أعهد, واتسع لي ما كان ضيقا, وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرا, وتفرقت عني جميع الهموم, ولم يبق إلا هم واحد وهو أن أكون كامل المعرفة.. ويذهب محمد عبده إلي طنطا مسرعا لعلمه بأن والدته في طريقها لزيارته هناك كطالب علم في الجامع الأحمدي, وبينما يطالع بين الطلبة رأيت أمامي فجأة شخصا يشبه أن يكون من أولئك المجاذيب, فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه:( ما أحلي حلوي مصر البيضاء) فقلت له وأين الحلوي التي معك؟ فقال: سبحان الله من جد وجد.. ثم انصرف, فعددت ذلك القول منه إلهاما ساقه الله ليحملني علي طلب العلم في مصر دون طنطا, وذهبت إلي الأزهر وداومت علي طلب العلم علي شيوخه.. وفي أواخر كل عام أعود إلي محلة نصر لأجد هناك الشيخ درويش يسألني ما درست المنطق؟ ما درست الحساب؟ ما درست مبادئ الهندسة؟ وكنت أقول له إن بعض هذه العلوم غير معروف في الأزهر فيقول: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله في أي مكان, فكنت عند عودتي للقاهرة ألتمس جاهدا هذه العلوم عند أصحابها إلي أن جاء السيد جمال الدين الأفغاني لأصحبه وأتلقي عنه بعض العلوم الرياضية والحكمية( الفلسفية) والكلامية, وأخذ مشايخ الأزهر وطلبته يزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي إلي زعزعة العقائد الصحيحة ويهوي بالنفس في الضلالات, فكنت إذا رجعت إلي محلة نصر عرضت ذلك علي الشيخ درويش فكان يقول لي: إن الله هو العليم الحكيم, ولا علم يفوق علمه وحكمته, وإن أعدي أعداء العليم هو الجاهل, وأعدي أعداء الحكيم هو السفيه, وما تقرب أحد إلي الله بأفضل من العلم والحكمة, فلا شيء من العلم بممقوت عند الله, ولا شيء من الجهل محمود لديه إلا بما يسميه بعض الناس علما وليس في الحقيقة بعلم كالسحر والشعوذة إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس.
وينال الإمام شهادة العالمية في عام1877 من الدرجة الثانية لتحدي أعضاء الامتحان لما يبديه من الآراء المغايرة لآرائهم, ونظرا لصحبته للأفغاني, وبدأ يدرس في الأزهر بعد تعيينه فيه ليلقي علي تلامذته دراسات في المنطق والفلسفة, ومن الأزهر إلي دار العلوم عام1878 مدرسا للتاريخ, وفي مدرسة الألسن مدرسا للعربية بينما يكتب المقالات لجريدة الأهرام وعمره سبعة وعشرون عاما حول الدعوي للعلوم العصرية وتجديد اللغة, وقد بدأ تلك المقالات بتقريظ الأهرام في العدد الخامس للسنة الأولي من الأهرام الأسبوعية الصادر في2 سبتمبر1876 الموافق14 شعبان1293, حيث قدمته الجريدة بقولها: وردت إلينا هذه الرسالة من قلم العالم العلامة والأديب الفهامة الشيخ محمد عبده أحد المجاورين بالأزهر فأدرجناها بحروفها التي من بينها: استدار الزمان كهيئته, ورجع الأمر إلي بدايته, وقفل التمدن إلي مسقط رأسه ومقر تربيته, فورد ديار مصر ورود الأهل, وتمكن بها تمكن الأصل, وأنشأ لنا جريدة الأهرام, المؤسسة علي أحكم قواعد الأحكام, الكافلة بإرشاد المسترشدين, وتنبيه الغافلين بالمعاني الدقيقة, والأفكار العالية, المؤيدة بالبراهين الشافية, القائمة بنشر العلوم بين العموم, فيا لها من جريدة أسست قواعدها في القلوب, وامتدت مبانيها لكشف الغيوب, وتنادي بمقالها وخبرها: حي علي الفلاح, وهلموا إلي موارد النجاح, لا تقفوا عند صورة المبني, ولكن تجاوزوا عند المعني, تلك أهرام أشباح, وهذه غذاء أرواح, تلك ظواهر صور, وهذه دقائق عبر, تلك مساكن أموات, وهذه لسان سر السماوات, نعم أين ذلك الزمان من هذا الآن, الذي سطعت فيه شموس العرفان, ونشأ فيه بنو الإنسان نشأة أخري, وتقلب في فنون الحقائق بطنا وظهرا, فحقيقي أن تكون أيامنا غير أيامهم, وأهرامنا غير أهرامهم, وأين الذي تفنيه الرياح والأمطار, من الذي لا توهنه توالي المدد والأعصار, فإن مقره العقول العاليات, والنفوس الزكيات, التي لا يتناولها الفناء, فطوبي لقاريها, ومن الواجب علي ذوي الألباب أن يستطلعوا سر معناها, فإنه ليس شيء لدي العاقل أبهي من حقيقة يكشفها, ولا ألذ من حكمة يصادفها, هذا إيجاز في مزاياها, بسم الله مجريها ومرساها..
وإذا كانت موسوعة شخصية مصر للدكتور جمال حمدان لها منزلتها الكبري في رصد تاريخ وجغرافيا مصر, فقد سبقه في ذلك الإمام محمد عبده الذي تم اختياره كشخصية الدورة ال46 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب من28 يناير حتي12 فبراير الجاري في تحليل طبيعة مصر والمصريين عندما جاء في بعض سطوره: أرض مصر ضيقة عن حاجة أهلها وهي محاطة بالصحاري الجدباء والمياه المالحة وليس فيها من الغابات ما يعوذ به الوحش من الحيوان فضلا عن الإنسان.. وأهل مصر لا يعرفون معني المهاجرة من دار إلي دار, ولذلك كان كل قادم إليهم امتزج بهم, وغلبت عليهم عوائدهم وأطوارهم, وانتسب نسبتهم فصار مصريا, ثم إن طباعهم مرنت علي الاحتمال وألفت مقاومة القهر بالصبر, فلو أن سيف الغالب كان أعدي من سيف المماليك وجوره أشد من جور إسماعيل باشا لما أمكنه أن ينقص من عددهم مقدارا يذكر, ولا أن يزيلهم عن مواقفهم مسافة تعتبر, ولهذا كان المتغلبون يفنون فيهم وهم الباقون.. طباع المصريين كالكرة المرنة تتأثر بالضغط فينخفض بعض سطحها قليلا من الزمن, ثم لا يلبث أن يعود إلي حاله.. أنفس المصريين أشربت الانقياد إلي الدين حتي صار طبعا فيها, فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذرا غير صالح للتربية, فلا ينبت ويضيع تعبه. أهل مصر قوم سريعو التقليد أذكياء الأذهان, أقوياء الاستعداد للمدنية بأصل الفطرة, فما أيسر أن تفعل فيهم الحوادث فتنبههم إلي الأخذ بما يحفظ عليهم حياتهم في ديارهم من أي الوجوه.. أهل مصر في موقع عرف كل الناس منزلته من الأرض, وهو ممر أهل المشرق إلي المغرب وأهل المغرب إلي المشرق, وهو في حلق أوروبا تتلاقي فيه سيارة الأمم فقلما توجد بلاد يكثر فيها اختلاط الأمم مثل هذه البلاد..
ولعل أزهي فترات عمل الإمام محمد عبده الذي يجسد قول النبي: إن الله تعالي يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها كانت في عمله كرئيس للتحرير في الجريدة الرسمية العربية بتوصية من جمال الدين الأفغاني لرياض باشا الذي أعجب بأسلوبه وثقافته فقام الإمام بمجرد تعيينه بتكوين فريق للعمل معه كمجلس تحرير علي رأسه الشيخ سعد زغلول سعد بك زغلول المستشار بمحكمة الاستئناف والشيخ إبراهيم الهلباوي إبراهيم بك المحامي الشهير, ولم تمض شهور حتي أصبح رئيس التحرير مهيمنا علي الحكومة والأمة, ينتقد لائحة لقلم المطبوعات أجازها رياض باشا, ومن أحكامها أن جميع إدارات الحكومة ومصالحها ومجالسها في العاصمة وغيرها مكلفة بتقديم كشف عن كل ما عملت وما شرعت فيه ولم تتمه إلي إدارة الجريدة, وكذلك المحاكم ترسل إليها نتائج جميع أحكامها, ومن حق الإدارة الفصل في كل نزاع بين جريدتين فصلا لا تجوز المناقشة فيه, ومن حق رئيس التحرير أن يجعل هناك قسما غير رسمي ينشر فيه لنفسه ولغيره ما يراه نافعا من مقالات أدبية واجتماعية واقتصادية الخ.. وهكذا أصبح صاحب العمامة الأزهرية يشرف من نافذته الرسمية علي نظارات وزارات الحكومة ومجالسها ومحاكمها ومصالحها فيصلح لعمالها ما يكتبون, ويرشدهم إلي إصلاح العمل فيما يعملون, ويا لها من عمامة حسدتها الطرابيش, وهابتها التيجان, وعظمتها البرانيط, وقد ذهب بعض الكبراء لرياض باشا يدسون للإمام بأنه يرتدي الطربوش بمجرد خروجه من الجريدة, ومن هنا وجب أن يلزمه به فرفض رياض باشا بقوله للإمام لا أرضي لك الطربوش لأنني أحب أن يعلم الناس أنه يوجد تحت العمائم من العقول والأفهام مثل ما يوجد تحت الطرابيش وغيرها وربما أفضل.. وقد أصبح محمد عبده في فترة الثورة قطبا من أقطابها لذلك حكم عليه بالنفي لمدة ثلاث سنوات خارج مصر ابتداء من24 ديسمبر1882 بعد فشل الثورة بوقت قليل, وفي بيروت قضي عاما من سنوات النفي اتصل بعده بالأفغاني وعمل معه بباريس في إصدار جريدة العروة الوثقي التي لم يصدر منها إلا18 عددا, وبعد توقفها عاد إلي بيروت مرة أخري في عام1885 وأسس جمعية للتقارب بين الأديان وتحقيق كتب التراث العربي الإسلامي, كما بدأ في تفسير القرآن بمنهج جديد يعتمد علي العقل, وفي عام1889 عاد الإمام إلي مصر قاضيا وبعدها في عام1895 تشكل مجلس إداة الأزهر برئاسة الشيخ حسن النواوي لينضم إليه الإمام مركزا جهودا علي إصلاح المؤسسات الدينية الثلاث وقتها وهي الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية, وفي عام1899 يعين مفتيا, وفي عام1900 أسس جمعية إحياء العلوم العربية وأبدي اهتماما كبيرا بإنشاء الجامعة الأهلية المصرية.
وتشير الدلائل إلي أنه شارك في إعداد كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين, فقد كتب عدة فصول منه وصاغه بعدها كله صياغة نهائية, وقد دافع عن صدور الكتاب بطريقة غير مباشرة حيث لم يصدر فتوي تبطل ما جاء به... الإمام الذي ازدحمت من حوله العناوين, البعض يسميه لوثر الشرق لما أحدثه من ثورة في الفكر الديني, والبعض يتحدث عنه تحت لافتة الليبرالية تارة والعقلانية مرة أخري, كما أن هناك الدراسات التي أدرجت فكرة تحت تعبير الإسلام الإصلاحي كما كانت له مدرسته السياسية التي اختلفت أساليبها بمقتضي الأحداث السياسية والاجتماعية, فتخرج فيها الكثيرون وعلي رأسهم أحمد لطفي السيد وسعد زغلول ومحمد حسين هيكل, ومصطفي عبدالرازق وعباس العقاد..
وإذا ما كان الإمام محمد عبده قد ملأ بأقواله وأفعاله صفحات التاريخ المصري الحديث فقد ذهبت وحدي أفتش عن نافذة جديدة أتطلع منها إليه فوجدته كما وصفه معاصروه: ربع القامة, أسمر اللون, عالي الجبهة, كبير الرأس, أسود العينين, بارز الوجنتين, واسع الفم, منتظم الأسنان, جهوري الصوت, أشعث الذراعين, عصبي المزاج, قوي البنية حتي أنه عندما فاجأه حصان جامح دفعه بيديه في صدره فرده إلي الوراء حتي أقعي, وحاول بعض رفاقه من مجاوري الأزهر أن يشغله عن المطالعة في الليل ليلعب معهم الورق فرمي أحدهم بالأرض ووضعه بين ساقيه وضغطه بهما فلم يستطع التملص حتي حرره باختياره, وقد أصيب يوما بالتسمم ليظل في حالة غيبوبة لمدة40 يوما حيث قال الأطباء إن نجاته منها تعد من الخوارق, وكان يعاوده تأثير ذلك التسمم في موعده من كل عام, وتحسنت صحته بالسكني في عين شمس حيث الهواء الجاف, إلا أن الروماتيزم الذي سكن يده كانت آلامه تضطره إلي رفع يده طوال الليل, ولم ينفعه إلا علاج الدهان بصبغة اليود وتناول عدة نقاط منها في نصف كوب من الماء بعد كل طعام وكان يصفه كخير دواء لتلك الآلام.. وكان زيه أقرب إلي ملابس علماء سوريا منه إلي زي علماء مصر إلا العمامة, ولم يكن يلبس الأحمر بأنواعه ولا الأخضر ولا الأصفر ولا الحرير اللامع, وكان يكره ارتداء ملابس التشريفة الرسمية ويستحيي منها, ولما كان صهره محمد بك يوسف مقيما بدار وراء قصر عابدين فقد كان يضعها عنده ليلبسها أيام الأعياد عنده ليدخل بها القصر لحضور الحفل الرسمي ثم يخرج ليخلعها عنده, وفي أيام الشتاء يضع فوقها العباءة والشال الكشمير حتي لا تري.. وكان يكره أن تقبل يده بل يصافح الناس, وقد منع الأزهريين عن تقبيلها بعد الدرس كعادتهم, وكان يرتدي الحذاء الجزمة دون سائر العلماء ثم كثر المقلدون له, وكان يركب الخيل حتي أنه كان يذهب إلي المحكمة وإلي الأزهر راكبا فرسا, وعندما قيل له إنه لا يليق بكبار العلماء امتطاء الخيول, قال بل يليق بهم أن يكونوا كالغانيات يجرون الذيول, ويتوكئون علي السواعد عند الركوب والنزول مثل ستي هانم.. وكان يحب المشي علي قدميه إلي محطة القطار بعد انتقاله لعين شمس, وفي أحد الأيام كان مع تلميذه محمد رشيد يمشيان قاصدان محطة السكة الحديد, فلما تجاوزا شارع الموسكي مال إلي دكان فاشتري منها باكو بسكويت وأخذ يأكل منه فقال له رشيد مازحا: أمفتي الديار المصرية يأكل في الطريق؟! فأجابه الإمام: أما قرأت أنه قيل لديوجين الفيلسوف: لماذا تأكل في الطريق؟ فقال لأنني أجوع في الطريق!!..
وكان الإمام من عشاق مصيف رأس البر حتي قال فيه: ما رأيت مكانا يشغل النفس عن كل شاغل مثل رأس البر, لا أشتهي فيه أن أمد يدي إلي قلم, وإنما أطالع في أوراق متنوعة, ولذلك أراه أفضل مكان للراحة بين البحرين..
ولأنه الإمام محمد عبده نجمع من آثاره بعضا من جواهره:
- إنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه
- ما دخلت السياسة في شيء إلا أفسدته
- الذل يميت الإرادة
- ما رأيت بلدا جعل فيه الدين دكانا مثل هذا البلد يعني مصر
- إن المسلم من أخذ القرآن بجملته من أوله إلي آخره, ولا يكون كمن قال فيهم الله تعالي أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض
- لابد أن يرفع القرآن فوق كل خلاف
- إني عندما أسمع القرآن أو أتلوه أحب أني في زمن الوحي, وأن الرسول ينطق به كما أنزله عليه جبريل عليه السلام
- ليس وراء القرآن غاية
- لو وقفنا عند حدود الله في كتابه لكنا أعز الناس وأحبهم إليه, ولكن غلونا فوقعنا فيما وقعنا
- لا يمكن لهذه الأمة أن تقوم مادامت هذه الكتب فيها يعني كتب التعليم التي تدرس في الأزهر وأمثالها ولن تقوم إلا بالروح التي كانت في القرن الأول وهي القرآن, وكل ما عداه فهو حجاب قائم بينه وبين العمل والعلم
- مجاهدة الإنسان بطرد الخواطر عنه في الصلاة عبادة
- الفقه الحقيقي أن تنظر إلي شرع الله في جملته ومجموعه
- إن الذي يعرف الحق يعز عليه أن يري الحق مهانا
- التعصب في المذاهب يعمي الشخص حتي عن لغته
- الشعر إذا لم تكن ألفاظه آخذة بجزء من روح الشاعر فليس بشعر
- من كان عنده مريض فهو المريض
- الباطل لا يصير حقا بمرور الزمن
ويمرض الإمام مرضه الأخير فيصحح في الفراش أوراق امتحان مدرسة دار العلوم, ويسافر إلي الإسكندرية ليملي علي تلميذه ومستودع أسراره السيد محمد رشيد رضا أبيات شعر لا ينطق به سوي في الحبس أو المرض:
ولست أبالي أن يقال محمد أبل أم اكتظت عليه المآتم
ولكنه دين أردت صلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائم
[email protected]
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.