أى نظرة عابرة للخريطة العربية حاليا، تشعر صاحبها بالغضب والضيق، فعدد كبير من الدول، أصبح رهينة لكثير من الصراعات والنزاعات الداخلية، وخاضعا لحسابات قوى إقليمية لديها أطماع تاريخية فى المنطقة، وبانتظار الخطوة التى يمكن أن تقدم عليها قوى دولية، تملك حزمة صارمة من التصورات للشكل المرسوم لها، ولا تريد التفريط فيها، وتسعى من خلال أدوات مختلفة إلى تدشينها، وفقا لسيناريوهات أساسية وأخرى بديلة. المهم إحكام السيطرة على المقدرات السياسية، والمفاصل الأمنية، والمرتكزات الاقتصادية، وجميع الإمكانيات الحيوية. الدول التى خضعت للفوضي، سواء بسبب التقديرات الخاطئة لأطرافها المحلية، أو جراء مؤامرات خارجية، لم تدخل هذه الحلقة الجهنمية من فراغ، بل وجدت فى الداخل بيئة مكشوفة وصالحة لتنفيذ مخططات شيطانية. وفى المحصلة لا الأطراف المحلية حققت طموحاتها الضيقة، ولا القوى الخارجية الراغبة فى فرض الهيمنة، وإعادة تشكيل المنطقة العربية، بعد فك وتركيب هياكلها، نجحت فى فرض هيمنتها كاملة. فالجانبان يكابدان، أملا فى الوصول إلى صيغة، يمكن من خلالها أن يصل كل طرف إلى ما يريده، إلا إذا كان سيناريو الفوضى والانفلات الحاصل، هدفا فى حد ذاتهما. وهذا مستبعد، لأنه فى النهاية لابد أن تستقر حركة الساعة فى مكان معين، نتيجة إرهاق الآلة نفسها،وعدم القدرة على مواصلة الحركة لأجل غير مسمي. فى الوقت الراهن، تبدو حالات الاقتتال الأهلى المنتشرة فى دول كثيرة، لم تصل إلى درجة الإنهاك الكامل، لأنها تتغذى على عوامل متجددة، وتضخ فى شرايينها أنواعا مختلفة من الدماء المسمومة، تجعلها تتصرف غالبا بطرق غير آدمية. فالقتل والتدمير والتخريب، طالت أشياء متباينة. وكنا نعتقد فى وجود حرمة لامرأة، أو رحمة بطفل، أو شفقة على شيخ، أو تعاطف مع عابر سبيل. وضاعف من المأساة أن هناك تدخلات، فى ظاهرها البحث عن حلول سياسية، ثم يكتشف العالم أنها تحوى فى باطنها عوامل تسعى إلى مد أمد الأزمات العسكرية. وقد تجاوزت بعض الدول رذيلة القتل على الهوية، إلى القتل لمجرد الردع. المخاطر التى ضربت دولا عدة، مثل سوريا وليبيا والعراق واليمن، وكذلك السودان، ومن قبله الصومال ولبنان، كاد شبحها يطل على دول عربية أخرى السنوات القليلة الماضية. فى مقدمتها مصر، لكنها نجت بأعجوبة من الفوضي، واستطاع شعبها ومؤسسته العسكرية وقواه الوطنية الحية، أن يفوتوا الفرصة على محاولات تكرار تجارب مريرة فى دول مجاورة, وإذا كانت مصر عبرت فعلا بالبلاد إلى بر الأمان، إلا أنها لا تزال مستهدفة، ولم تتوقف رغبات البعض فى تركيعها. وثمة مناوشات تطل برأسها، ما يعنى أن الثمرة الكبرى (مصر) لن يتم تركها لحالها، وربما تظل مرغوبة، ومطلوبا تقزيم قواها المركزية، وإغراقها فى أزمات ممتدة، لأن تماسكها، فى ظل الترهل والتدهور، الذى يحيط بدول عربية شقيقة، من الممكن أن يصوب المسارات السلبية، ويعدل دفة الموازين المختلة، التى أنهكت وربما قضت على هذه الدول، فمصر القوية العفية، لن تقبل بحدوث المزيد من الانفلات، وحتما تسعى إلى لملمة الجراح الحالية. التحرك بالهجوم السياسى تجاه هذه المسألة، لا يعنى البحث عن استرداد زعامة غابرة، أو جريا وراء قيادة، يعلم كثيرون أنها مكلفة، بل لأن تضميد الجراح العربية، هو حماية أساسية للأمن المصرى أولا. فالسوس الذى ينخر فى بلاد متعددة، ربما يزحف على مصر عبر قنوات خلفية، أو يتسرب إليها من خلال ناقلى عدوى مستترين، وأحيانا معلومين. وفى الحالتين، يمثل الانكفاء على الداخل خطورة كبيرة، تنعكس أضرارها مباشرة على تماسك الدولة المصرية، التى نجت بأعجوبة من عمليات إرهابية، بقاياها لا تزال مستمرة، ولم تتوقف حتى هذه اللحظة. ولعل ما حدث يوم الأحد الماضي، فى خضم الاحتفال بالذكرى الرابعة لثورة 25 يناير، كشف الوجه الخفى لبعض القوي، التى لا تزال تحلم بالانقضاض على مصر، ولو على جثث الأبرياء. فالمظاهرات المسلحة بالعنف فى الداخل، وحملات التحريض فى الخارج، أثبتت أن حلقات الاستهداف لم تتوقف، وربما تظهر منها أنواع غير مألوفة . لذلك، فإن الحفاظ على البيت متماسكا، أولى وأهم الخطوات لقطع الطريق على الجهود الرامية إلى النيل من مصر، التى ساهم خروجها من النفق المظلم، فى تخريب مخططات محكمة، قصدت المنطقة برمتها. كما أن تجنب أسلوب تصفية الحسابات السياسية، والحفاظ على وحدة الجماعة الوطنية، من العوامل الرئيسية، التى يمكن أن تفرمل أية توجهات رامية للنفاذ إلى تفتيت الكتلة الصلبة للدولة المصرية. ومن يشاهد تفاصيل التطورات الدقيقة فى دول مجاورة، يشعر بتعاظم الخطر. ومن يتذكر المعارك التى خاضها الجيش والشرطة مع إرهابيين فى سيناء وغيرها، لا يحكمهم وازع من ضمير، يتأكد أن مصر كانت فى قلب سيناريو الفوضى الهدامة. النجاة من هذا السيناريو تماما فرضت على المواطنين واجبات أساسية، ووضعتهم أمام مجموعة من التحديات الإستراتيجية. وعلينا جميعا، أخذ الدروس والعبر من حولنا، وتحمل المزيد من تكاليف النجاة. واعتقد أنه لا غضاضة فى هذا المطلب، فقد مرت علينا سنوات عجاف فى مراحل تاريخية مختلفة، قد تكون أشد صعوبة مما نعيشه الآن. ومرت بسلام، وبقيت مصر بشعبها وحضارتها. ومن يرجع بالذاكرة إلى الوراء ويتدبر الطريقة التى اندلعت بها ثورة يناير، والظروف التى حضت على استكمالها بثورة يونيو، والمقومات التى حصنت البلاد من الانجراف، يعرف لأى درجة أننا شعب، قادر على تجاوز الصعاب والمحن. الملف الذى يفتحه «الأهرام» اليوم، يقدم نماذج مختلفة من التفتت الحاصل فى المنطقة العربية، ويسعى إلى إثارة الكثير من الأسئلة الموجهة للداخل، لنعرف عظم التحديات الموجودة فى دول على مرمى بصر.